العميد. محمد الحسيني*
هي أمتار قليلة تفصل بيتها في الحارة القديمة عن جّل التبغ الذي تَجمعَ فوق حافته بعض سكان هذه الحارة المتربعة على الهضبة التاريخية للبلدة، لينظروا عن بُعد لأعمال الجرف والتعبيد للطريق التي ستربط بلدتهم بالبلدة المجاورة. حينها تقدمت “الحجة كاملة” بخطوات بطيئة، منحنية الظهر بعدما أنهكتها ثقل السنين في تربية الدواجن والمواشي، فضلاً عن مواسم الفِلاحة في تنظيف الحقل أمام محراث زوجها “أبو محمد”، شابكة أيديها كعادتها إلى الخلف، ومنديلها الأبيض الذي صبغته شمس الجنوب باللون الأسمر يتدلى من فوق “قمطة” رأسها، تستكشف بعينيها المتعبتين الأفق إلى حيث يُشير الرجال بأيديهم، سائلةً بصوت متهدج: “الله عليكم شو بكم، شو عم يصير، عَ شو عم طلوا”، فأجابها جارها الشاب حسن: “عم يشقوا طريق بتوصَل على النبطية يا حجة”، فبادرت بفطرتها العاملية للإجابة: “يا ويلي عليهم، عم يشقوا طريق لتفوت عليها المغضوبة اسرائيل”.
حصل هذا صيف العام 1970، وبعد اثنتي عشرة سنة، حين بدأ الغزو الصهيوني للبنان في يونيو/حزيران العام 1982، سُجّل عبور أول لواء مدرع عبر هذه الطريق أي ما يقارب المئة دبابة في يوم واحد. وإن كانت “الحجة كاملة” لم تقرأ لأدوارد سعيد ولم تَطّلع على كتابات عبد الوهاب المسيري ولم تتعرف إلى فكر أنطون سعادة البتة، كما لم تستمع لمحاضرات علماء الدين حول مخاطر الصهيونية، إنما وهي المخضرمة التي عايشت الحربين العالميتين الأولى والثانية فضلاً عن نكبة العام 1948، قد رأت في أعين النازحين الفلسطينيين واللبنانيين، الخوف المملوء برجاء العودة، مستمعة إلى مجازر العدو في كل من فلسطين المحتلة وبعض القرى اللبنانية الحدودية، وهي وإن كانت لم تعرف الراديو أو التلفاز، لكنها كانت تستمع من جيرانها لأخبار الاعتداءات المتكررة على القرى الجنوبية، وهي أيضاً من الذين أرعبتهم طائرات العدو في اختراقها لأول مرة “جدار الصوت” فوق سطح منزلها، حينها وبفطرتها المعهودة لكن هذه المرة كمواطنة لبنانية سألت جارتها: “دخلك يا إم حسن وينيه الدولة ما بتقوصهنش”.
لم تستشرف “الحجة كاملة” المستقبل، وحتماً لم تَطّلع على علم الغيب حينما توقعت عبور آليات العدو من خلال بلدتها، إنما كمثيلاتها من الأمهات الجنوبيات اللواتي كن ينمن الليل على ضوء قناديل الزيت أو الكاز متلحفين مع أولادهن القلق الدائم من أن يستفقن على ضجيج الجنود الصهيانة داخل بلداتهم، منذ أن ألصقوا هذا الكيان لصقاً بالحدود اللبنانية…في ذلك الزمان أيام”الحجة كاملة”، لم يكن للمقاومة اللبنانية أو الفلسطينية من وجود، كما لم يكن لايران أو العراق أو سوريا أو حتى مصر من ارتباطات مع سكان الجنوب، لكن الجنوبين حين استشعروا الخطر الوجودي الذي يتهددهم، بعد أن جعل العدو من جنوب نهر الليطاني “ضفته الشمالية” من خلال استباحته للقرى الحدودية وغيرها من القرى، اتخذوا عندها تلقائياً قرار التسلح والمقاومة لحماية أرضهم، في ظل انعدام أي خيار آخر، لدرجة أنّ معظمهم قد اشترى وخبأ السلاح إمّا في غرف “التبانة” أو داخل خلايا النحل أو حتى في الحواكير، وذلك بسبب عمليات الدهم والتفتيش التي كانت تجري بحثاً عن السلاح والتبغ…ليُسجل من بعدها أول مواجهة مسلحة مع المدنيين ضد جيش الاحتلال صباح الأول من يونيو العام 1956 حين أقدمت عصابة صهيونية مسلحة على مهاجمة مزرعة الظهيرة في القطاع الغربي واطلقت النار على الأهالي، فقابلوها بالمثل وظل الطرفان يتبادلان إطلاق النار حتى فرارها وعودتها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة… ولن ندخل الآن في النقاش الذي بات عقيماً مع من يريد قراءة الصراع مع اسرائيل من زاوية غير جنوبية، في أسباب انضمام الجنوبيين خصوصاً واللبنانيين عموماً إلى مختلف أنواع المقاومة وأشكالها التي شهدها لبنان ضد الاحتلال الصهيوني، والذي شكل حزب الله خلالها منعطفاً تاريخياً هاماً، حيث يستحيل بعد اليوم إلغاء دوره المقاوم بهذه السهولة التي يراها العدو ويتمناها البعض أو يعمل عليها البعض الآخر على الرغم من الضربات الموجعّة التي تلقاها منذ شهر ويزيد. هذا الدور المقاوم والمرتبط وجودياً بالعقيدة القتاليّة للعدو تجاه لبنان، قد تعزز أكثر خلال الحرب للأسباب التالية:
انكشاف مخطط العدو من خلال فرضه شروطاً قاسية ومتعجرفة لوقف الحرب، تهدف إلى استباحة السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً بشكل دائم، بدءاً من جنوب الليطاني من خلال طرحه الخطير لمشروع “السماح لقواته بالمشاركة في التنفيذ النشط في الشمال” أي دخوله ساعة يشاء إلى القرى جنوب الليطاني، على طريقة تعامله مع “الضفة الغربية”، يعني تحويله إلى “ضفة شمالية” بأن يصبح خاضعاً أمنياً للكيان مع اختلاف أكبر وأخطر هو وجود القوات الدولية في الجنوب الليطاني مدعومة بالجيش اللبناني، مما يمنح العدو في حال حصولها شرعية دولية – لبنانية بالعمل النشط داخل الأراضي اللبنانية مع ما يرافق ذلك عادة من ترتيبات أمنية مشتركة، وهو ما لم يقبله لبنان البتة، وليس حزب الله وحده. من هنا يمكن في هذا الإطار إدراج أسباب التصعيد الصهيوني التي رافقت زيارة هوكشتاين الأسبوع المنصرم.
ارتفاع منسوب الإجرام لدى العدو ليس ضد المقاومة وبيئتها فحسب، بل من هم خارج بيئتها أيضاً، ليظهر زيف ادعاءاته في أن أهدافه تنحصر فقط في تدمير البنية التحتية لحزب الله ، بعد أن تجاوز حجم القتل والدمار هذه الأهداف بكثير، إلى اليقين التام بالخطر الوجودي الذي يتهدد ليس الجنوب وحده، بل مصير طائفة بأكملها تنتشر على امتداد مساحة الوطن، خاصة بعد بروز مخططه (رغم فشله) بجعل جنوب الليطاني “ضفة شمالية” بقوة الأمر الواقع للعلن، وهذا ما يُفسر تصعيده الأخير عبر تهديده وقصفه لمدينتي صور وبعلبك، والسؤال الذي يُطرح، ماذا يمنع العدو بعد فشله هذا من التمادي أكثر في عدوانه ليشمل مناطق تُعتبر اليوم مُحيّدة؟
صمود رجال المقاومة في البلدات والقرى الحدودية الذي أبهر العالم وأذهل العدو، إذ لم يتمكن لغاية اليوم من تحقيق أهدافه، مقارنة مع اجتياح العام 1982 حين وصل في غضون أيام إلى مشارف بيروت، واليوم تفاجأ العدو بتكتيكات المقاومة المغايرة تماماً لما كانت عليه في حرب تموز 2006، خاصة بعد أن امتص حزب الله الصدمات المتتالية التي أصابته مستعيداً المبادرة في الميدان، مُحطماً عند الحدود الأمامية آمال العدو في تحويل جنوب الليطاني إلى “ضفة شمالية”.
الحنكة الديبلوماسية التي يتميز بها دولة الرئيس نبيه بري وثباته على موقفه المقاوم أمام الموفدين من زواره، نتيجة إيمانه المطلق بأن “الكلمة للميدان”، وهو المقاوم الأول والمخضرم الذي قاتل ضد كافة أشكال الحروب الاسرائيلية على لبنان، يَعلم عِلمَ اليقين أنّ شمس الحرية تُشرق من الجنوب من فوهات بنادق المقاومين أبناء موسى الصدر وحسن نصرالله.
مما لا شك فيه أن المطالب الصهيونية لإنهاء الحرب على الجبهات كافة، هي كثيرة ومعقدة فضلاً عن ربطها بتغييرات في المنطقة معطوفة على نتائج الانتخابات الاميركية، مما يمنح نتانياهو فرصة الاستفادة السياسية بإبقائها مفتوحة على كافة الاحتمالات. أما الحل هو فيما يحصل اليوم عبر سواعد المقاومين الأبطال وعبر مضاعفة ضرباتهم بغية إحداث صدمات متتالية في صفوف العدو، تُفضي إلى نزول نتانياهو عن الشجرة، هو وجنوده الغارقون في الوحل الجنوبي فلا هم قادرون على تحقيق أهداف الحرب ولا على الانسحاب من دون عودة مستوطنيهم إلى الشمال، وللمرة الألف ما زال العدو يُخطأ في حساباته مع لبنان، حين يصعّد من ضرباته ضد المدنيين، في محاولة يائسة للضغط على الرئيس بري والمدنيين والمقاومين في آن واحد، لكن أنّى له أن يعلم؟ بأن هذا لا يزيدهم سوى قوة وصلابة وإصراراً على متابعة القتال والمقاومة، لا بل أبعد من ذلك، إذ يزيد في تعبئة أجيال جديدة من المقاومين الشاهدين على مجازر العدو، وفي إعداد أجيال من المقاتلين قدوتهم رجال اليوم في الميدان، هذه الأجيال ستكون في ثأرها أكثر عزماً وفتكاً وأشد بأساً وإيلاماً…
*كاتب وخبير عسكري لبناني