اليمن الحر الأخباري

أسلحـة الـفلسطينيين الجـديـدة

 

عاصم الشيدي
على بعد عشرات الأمتار من باحات المسجد الأقصى وبالتحديد عند مدخل عقبة الخالدية، إحدى عقبات القدس الكثيرة، يقف البيت العربي الوحيد الذي ما زال صامدًا في ذلك الصف من بيوت عقبة الخالدية في وجه التهجير الذي تمارسه سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» ضد المقدسيين بشكل خاص.

وهذا البيت للمقدسي أحمد رزق والد باحثة الآثار عبير زيّادة التي لا تتحدث عن القدس إلا بدلالة الآثار، فهي لا تؤمن كثيرًا بروايات التاريخ التي تخالف علم الآثار، لذلك حديثها مرتبط بأدلة آثارية واضحة تبهر المستمع إليها بعيدًا عن أي ادعاءات إنشائية وعاطفية.

عرفتُ عبير منذ سبع سنوات ومشيت إلى جوارها في طرقات المدينة القديمة عندما زرتها في عام 2013. وخلال أحداث حي الشيخ جراح الأخيرة شاركتني عبير عبر «واتساب» عشرات المقاطع المصورة التي توثق الانتهاكات التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد المقدسيين العزّل إلا من أمل في نصر قريب يحرر أرضهم ليعيشوا حياة طبيعية مثل باقي البشر.

تتناقص يومًا بعد آخر بيوت المقدسيين في المدينة القديمة إثر استيلاء قوات الاحتلال عليها بالقوة الجبرية وهذا كان السبب المباشر للأحداث الأخيرة حينما أراد مستوطنون يحميهم جيش الاحتلال الاستيلاء على مجموعة بيوت لمقدسيين في حي الشيخ جراح.

عند خروجك من المسجد الأقصى باتجاه عقبة الخالدية لم يبق إلا بيت أحمد رزق، فيما نُزعتْ بقية البيوت من أصحابها. وما زال أحمد رزق هو وزوجته، رغم تجاوزهما العقد الثامن من العمر، يقاومان، ويتمسكان بالأرض باعتبارهما جزءًا منهما، أو باعتبارهما امتدادًا لها.

وقبل سنوات عرض الاحتلال «الإسرائيلي» على أحمد رزق «شيكًا» مفتوحًا يضع فيه المبلغ الذي يريد مقابل بيته على أن يختار جواز سفر أي دولة أجنبية يغادر لها ويعيش فيها بعيدًا عن الأقصى. لم يتصور أحمد رزق أنه يمكن أن يفك ارتباطه بالأرض التي نبت منها. على أن «الشيك» مرحلة إغرائية أولى تبعتها مراحل تنكيل ومهانة وإذلال لا تنتهي أبدًا، إلا أن رزق رأى في رفض «الشيك المفتوح» وتحمل الأذى كرامة له ما بعدها كرامة، فلا يتصور عزة وكرامة وقد باع جوار المسجد الأقصى بثمن بخس مهما كانت الأصفار على يمين الرقم الذي سيضعه على «الشيك». ورزق مجرد نموذج من نماذج كثيرة تحدث في القدس وفي أحيائها ولا تصل لها كاميرات الفضائيات الإخبارية إلا هامشيًا خلال الأحداث والمواجهات كما هو الحال في المواجهات الأخيرة التي انطلقت من حي الشيخ جراح في القدس، وساهمت في تسليط الضوء على الكثير من الأحداث والممارسات التي يمارسها الاحتلال في أحياء القدس.

ويتعرض المقدسيون كل يوم لأبشع أنواع التنكيل والإهانة والتضييق والمحاربة في أرزاقهم وأعمالهم القليلة، وتعمل قوات الاحتلال على إفقارهم وتجويعهم من أجل الرضوخ وترك بيوتهم للمستوطنين القادمين من كل أقصاع المعمورة جريًا وراء أسطورة أرض الميعاد، لكن الأغلبية ما زالت صامدة أمام كل ذلك وتقدم دروسًا في التمسك بالأرض حتى النفس الأخير.

وجميع بيوت المقدسيين آيلة للسقوط على رؤوس أهلها حتى دون أن تهدمها أو تشارك في هدمها قوات الاحتلال، فلا يسمح لأصحابها بترميمها، وإن حدث فبعد إجراءات طويلة تستغرق سنوات طويلة يكون البيت مهددًا بالسقوط على رؤوس قاطنيه.

وهذه السرديات لم تكن تصل أبعد من عتبات بيوت المقدسيين، فقد كان الإعلام «الحر» بعيدًا عنها إما لارتباطات أيديولوجية أو لإخفاء الحقيقة بفعل سطوة الإعلام الصهيوني وجبروت آلته العسكرية.

ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد ظهرت عندما اشتعلت آخر انتفاضة فلسطينية عام 2000، ولذلك لم تحضر في ساحة المعركة كما هو حالها في المواجهات الأخيرة، حيث تلعب دورًا مهمًا وأساسيًا في معركة تحرير الأرض وكشف حقيقة الاحتلال و«ديمقراطيته» وممارساته القمعية وتوثيقها لتكون شاهدًا على وحشية الصهيونية ومن يدعمها.

ورغم القيود التي تحاول شركات التواصل الاجتماعي فرضها على الفلسطينيين وأحرار العالم الذين يناصرون قضيتهم إلا أن عدالة القضية استطاعت أن توصل تلك المشاهد إلى مختلف بقاع العالم عبر البث الحي من كل الساحات الفلسطينية همجية الاحتلال ودمويته وتساهم في تغيير ولو بسيط في التعاطف العالمي مع «دولة» الاحتلال ومع الوقت سيساهم هذا الجهد في بناء وعي عالمي مختلف «قد» يساهم في الضغط من أجل دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس «الشرقية» على أقل تقدير.

وتحولت عبير زياد ابنة حي الخالدية ومنى الكرد ابنة حي الشيخ جراح ومئات آخرون إلى صحفيين ينقلون أحداث القدس وبقية المدن الفلسطينية للعالم باحترافية كبيرة لم تستطعها حتى الصحف الكبيرة وساهموا جميعًا في توثيق الانتهاكات التي يقوم بها جيش الاحتلال أولًا بأول، الأمر الذي أحرج الكثير من الصحف العالمية الكبرى، ما جعل جريدة بحجم ومكانة «نيويورك تايمز» أن تنشر على صدر صفحتها الأولى تقرير استثنائيًا غير مسبوق عن الأطفال الفلسطينيين الذين ذهبوا ضحية للحرب الأخيرة تحت عنوان «كانوا مجرد أطفال».

على أن هذا التقرير لم يكن استثناء فقد نشرت أكثر من صحيفة ومجلة لها وزنها في أمريكا بشكل خاص مقالات وتحليلات وتحقيقات انتقدت الحماية الأمريكية المطلقة «للجيش الإسرائيلي» وصاحب كل ذلك دعوات لحل الدولتين، وتحركت دائرة تتلوها أخرى في بركة الوعي الشعبي الدولي.

المرحلة القادمة لن تكون فيها الغلبة لآلة الإعلام «الصهيوني» و«المتصهين» لأن نقل الصورة التي تعادل ألف كلمة لم يعد حكرًا عليهم وحدهم ففي يد كل فلسطيني هاتف فيه كاميرا فوتوغرافية وفيديو ويملك خاصية النقل المباشر لكل المنصات الإعلامية التي يشاهدها مئات الملايين في العالم أجمع.. وبذلك يكون بيد الفلسطينيين أسلحة قوة قادرة على جعل أكبر عدد من أحرار العالم يساندون قضيتهم العادلة

نقلا عن جريدة عمان اليوم

Exit mobile version