د. تمارا برّو*
نشهد في السنوات الأخيرة نتيجة للتطور التكنولوجي الهائل في شبكات الإنترنت، وانتشار الهواتف الذكية والحاسوب، إقبال الصغار والكبار على الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت لما توفر لهم من تسلية ومرح. كما ساهمت سياسات الاغلاق والحجر المنزلي التي اتبعتها الدول نتيجة تفشي فيروس كورونا المستجدّ في تزايد اقبال البالغين والأطفال على ألعاب الفيديو. إلا أن ظاهرة الاقبال على ألعاب الفيديو وصلت لمرحلة الإدمان لاسيما عند القصر الذين يمضون ساعات طويلة أمام شاشات الهواتف أو الحاسوب، ولهذه الظاهرة آثار سلبية إذ تؤدي إلى ضعف البصر وتراجع النتائج الدراسية وقلة الحركة وتغيير أوقات النوم وتؤثر على الدماغ والتفكير والسلوك لاسيما عندما تكون الألعاب مشجعة على العنف أو الجريمة كما تدفع في بعض الأحيان إلى الانتحار. وكانت منظمة الصحة العالمية قد صنفت مواصلة لعب ألعاب الفيديو أو الألعاب الإلكترونية كإدمان يؤدي إلى الهوس، وأعلنت أن المصابين بهذا الهوس لديهم سمات معينة وهي عدم القدرة على التوقف عن اللعب، ووضع اللعب كأولوية قصوى أكثر من الأولويات الأخرى، ومواصلة اللعب بالحماس نفسه رغم المؤشرات السلبية التي تظهر على الشخص، سواء كانت صحية أو نفسية أو اجتماعية.
وظاهرة تزايد إقبال القاصرين على الألعاب الإلكترونية تعاني منها جميع دول العالم ، إلا أن الصين تنبهت لآثارها السلبية وعملت خلال السنوات الأخيرة على فرض قيود على الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت. فهناك تقريباً 114 مليون قاصر يمارسون ألعاب الفيديو في الصين. وكانت الأخيرة قد شهدت حالات وفيات لأطفال بسبب هذه الألعاب . ففي العام 2017 ذكرت وسائل إعلام صينية أن مراهقاً يبلغ من العمر 18 عاماً توفي بسبب اصابته بسكتة قلبية بعد أن أمضى أكثر من 40 ساعة متواصلة في لعبة King of Glory .
ومؤخراً فرضت الصين إجراءات مشددة على الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت بحيث لم يعد يُسمح للأطفال والمراهقين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً بممارسة ألعاب الفيديو عبر الإنترنت إلا لمدة ساعة واحدة يومياً بين الساعة الثامنة والتاسعة مساء أيام الجمعة والسبت والأحد فقط والإجازات المرتبطة بمناسبات معينة بهدف حماية صحة القصر البدينة والعقلية ، وبالتالي لن تكون ألعاب الفيديو عبر الإنترنت متاحة لمن هم دون 18 عاما باقي أيام الأسبوع. كما ذكرت صحيفة South China Morning أن الصين قللت مؤقتاً الموافقة على جميع الألعاب الجديدة عبر الإنترنت في محاولة للحد من إدمان الألعاب الإلكترونية بين الشباب.
إن القيود على استخدام القاصرين لألعاب الفيديو عبر الإنترنت ليست بجديدة ففي العام 2019 سُمح لمن دون 18 عاماً بممارسة الألعاب الإلكترونية لمدة ساعة ونصف يومياً تزيد إلى 3 ساعات في عطلات نهاية الأسبوع، ويحظر اللعب بين الساعة 10 مساءً و8 صباحاً. واعتمدت شركة الألعاب الإلكترونية الصينية ” تينسنت ” على تقنية التعرف على الوجه لمنع الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً من اللعب ليلاً ، وفي حال تجاوز المدة المسموح بها للعب تقفل اللعبة تلقائياً. ولكن يبدو أن بكين لم تكن راضية عن هذه الإجراءات لذلك فرضت قيوداً أكثر صرامة الشهر الماضي على ألعاب الفيديو عبر الإنترنت.
تدرك الحكومة الصينية أن القيود التي فرضتها سوف تتسبب بخسائر كبيرة لصناعة ألعاب الفيديو التي تدر أرباحاً كبيرة. فخلال النصف الأول من العام 2021 حققت أرباحاً بقيمة 20 مليار دولار. ولكن رأت الصين أنه من الضروري حماية المراهقين والأطفال الآن أو أنها لم تتمكن من ذلك في المستقبل عندما يزيد أعداد القاصرين المدمنين على ألعاب الفيديو. والصين أصبحت قوة عظمى واقتصادها ثاني أكبر اقتصاد في العالم وهي تسعى للتطور والتقدم وليس العودة إلى الوراء. ورأت الحكومة الصينية أن الاهتمام بالقاصرين هو الأساس لأنهم عمود الدولة وأساس نموها وتطورها وهم من سيقودون البلاد في المستقبل. كما تسعى الحكومة الصينية إلى المحافظة على الثقافة الثورية الصينية خاصة بعد أن بدأت الثقافة الغربية المدمرة تطغى علي المراهقين. ومن الاصلاحات التي قامت بها الصين أنها حظرت البرامج التلفزيونية التي قد تشكل نموذجاً سيئاً للاقتداء بالنسبة للمجتمع والشباب كظهور المخنثين ودعت للترويج للثقافة الصينية والثورة الاشتراكية.
يمكن ربط القيود على الألعاب الإلكترونية للأطفال والمراهقين بالاصلاحات الأخيرة التي تجريها الحكومة الصينية لمساعدة الأسر الصينية وتقليل العبء عنها، وإعداد جيل قوي وحمايته من التأثيرات الغربية وترسيخ القيم الصينية فيه. وقد أجرت الصين مؤخراً إصلاحات في النظام التعليمي ففرضت على شركات التعليم الخاص أن تسجل كجمعيات لا تبغى الربح، وحظرتها من التدريس في عطلات نهاية الأسبوع كما أوقفت التعليم الخاص لمن هم دون سن السادسة وألغت الامتحانات المدرسية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و7 أعوام. هذه التدابير الجديدة تهدف إلى تخفيف العبء عن كاهل التلاميذ والضغوط المالية على أهلهم، في وقت تسعى فيه بكين إلى التشجيع على الإنجاب بحيث سمحت بإنجاب 3 أطفال بدلاً من طفلين لكل أسرة، وذلك بهدف تحسين “الهيكل الديموغرافي”، والتعامل مع شيخوخة السكان والحفاظ على “موارد بشرية وفيرة” لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وتسعى الصين إلى تحقيق التوازن الاجتماعي بعد اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، فقد أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ عن خطة ” الرخاء المشترك” التي تشمل تنظيم الدخل وإعادة توزيعه ورد الأثرياء الجميل للمجتمع. وفرضت بكين على عمالقة قطاع التكنولوجيا المساهمة في حملة ” الرخاء المشترك” وتخصيص جزء من أرباحهم إلى البرامج المجتمعية. وتطبيقاً لذلك تبرعت شركات صينية كبيرة مثل شركة “علي بابا” العملاقة وشركة الألعاب والشبكات الاجتماعية الصينية العملاقة “تينسنت” وشركة الهواتف الذكية “شياومي” بمليارات الدولارات لأهداف اجتماعية. كما تعهدت الحكومة الصينية بقمع المتهربين من الضرائب لاسيما المشاهير والأثرياء. وتزايدت تبرعات الأثرياء في الصين لصالح حملة ” الرخاء المشترك” وتحتل الصين المرتبة الأولى من حيث عدد الأثرياء في العالم إذ بلغ إجمالي عدد المليارديرات الصينيين مستوى 1058 شخصاً متجاوزة بذلك الولايات المتحدة الأميركية. ووفقاً لوكالة بلومبيرغ الأميركية فإن سبعة من أصحاب المليارات الصينيين تبرعوا بمبلغ قدره 5 مليارات دولار للأعمال الخيرية حتى أواخر آب/ أغسطس، وهو مبلغ يتجاوز 20% من إجمالي التبرعات في عام 2020. ومن جهة أخرى دعت الصين إلى كبح جماح الرواتب المرتفعة التي تدفع للنجوم مع تضييق الخناق على المتهربين من الضرائب. كما أصدرت تحذيراً ضد نظام العمل “996” الذي تتبعه أكبر الشركات في البلاد وهو العمل من التاسعة صباحاّ حتى التاسعة مساءً لمدة ستة أيام في الأسبوع، ومن أبرز المدافعين عن هذا النظام “جاك ما”، مؤسس شركة “علي بابا” الذي قال أنه على موظفيه أن يعدوا أنفسهم محظوظين لامتلاكهم فرصة للعمل 12 ساعة في اليوم و6 أيام في الأسبوع.
يمكن للبلاد العربية أن تستفيد من الإصلاحات التي تجريها الصين لحماية القاصرين والشباب خاصة تقييد الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت. لقد شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة تزايد إقبال القاصرين على ألعاب الفيديو لاسيما في ظل سياسات الحجر المنزلي التي اتبعتها الدول لمكافحة فيروس كورونا المستجد إذ وجدها الأطفال والمراهقون وسيلة للتسلية والترفيه. وتسببت الألعاب الإلكترونية بارتفاع حالات الوفيات بين القاصرين ففي الكويت مثلاً توفي طفل يبلغ من العمر 8 سنوات عقب شنق نفسه متأثراً بإحدى الألعاب الإلكترونية. كما أن لعبة الحوت الأزرق التي انتشرت على مستوى العالم تسببت بحالات انتحار للأطفال في السعودية. وفي المغرب تسببت لعبة Free Fire في مصرع أم على يد أبنها البالغ من العمر 15 عاماً بعد أن رفضت اعطاءه مالاً لشحن الانترنت في موبايله ليواصل اللعبة فأقدم على دفعها بقوة فسقطت وارتطم رأسها بالأرض، لتدخل في غيبوبة وتفارق الحياة. أما في مصر فارتفعت أيضاً حالات الوفيات بين القصر جراء الألعاب الإلكترونية وإحدى حالات الوفيات تمثلت بوفاة طفلين دهساً أسفل القطار نتيجة انشغالهم في لعبة PUBG التي اشتهرت كثيراً في الدول العربية. كما لقي طفل مصري يبلغ من العمر 12 عاماً حتفه اثر تعرضه لسكتة قلبية مفاجئة بعد أن أمضى ساعات طويلة في لعبة PUBG. ومن جهة أخرى تسببت لعبة تحدي تشارلي أو لعبة الأقلام في انتحار بعض الأطفال اللاعبين في ليبيا والجزائر وبعض دول الخليج. ودفعت لعبة مريم طفل سوري يبلغ من العمر 13 عاماً على الانتحار شنقاً متأثراً بتعليمات اللعبة الإلكترونية. ناهيك عما تسببه هذه الألعاب من تراجع القاصرين في أداء واجباتهم المدرسية وباتوا أكثر عدوانية ومنغلقون عن العالم الخارجي وأصبحوا قللي الحركة مع ما يترتب على ذلك من ظهور أمراض جسدية.
كان للصين تجارب عديدة في مجال الاقتصاد والقضاء على الفقر ومكافحة فيروس كورونا وغيرها، ونجحت في جميع التجارب التي قامت بها بحيث باتت قوة عظمة يحتل اقتصادها المرتبة الثانية عالمياً بعد أن كانت دولة ضعيفة منغلقة على نفسها. وها هي الآن دخلت مرحلة اصلاحات جديدة لبناء مجتمع رغيد الحياة، والدول العربية مدعوة إلى الاستفادة من التجارب الصينية وحماية القاصرين من إدمان الألعاب الإلكترونية التي هي بكل تأكيد مهمة شاقة خاصة في ظل هوس الكبار والصغار بألعاب الفيديو وذلك قبل فوات الآوان.
*باحثة لبنانية في الشأن الصيني