اليمن الحر الأخباري

فلسطين وبريطانيا.. ما بين المزاج والحال

د/ مكرم خوري*
جميل هو التفاؤل وضروري هو التمحيص…! فقد سألني بعض الاصدقاء في الساعات الاخيرة (وذلك بعد ان تسلموا من جهات سياسية تابعه لمجموعات متنافسة ارادت كل واحدة منها الركوب على هذا الحدث لتسجيل النقاط الحزبية) عن معنى التصويت في مؤتمر حزب العمال البريطاني لمشروع قرار يدعم فلسطين وضد الاحتلال يوم ٢٧ ايلول ٢٠٢١ قدمته فئة الشباب في حزب العمال. وهذا الحدث يجب ان يفهم في إطار صراع القوة ما بين الأجهزة الحزبية البريطانية والمعسكرات داخل كل حزب. وبالتالي فإن قرار حزب العمال يجب ان يُفهم في السياق التراكمي وليس كطفرة فجائية.
تاريخيا، منذ احتلال شرق (القسم الثاني من) فلسطين عام ١٩٦٧ بدأ تأييد الرأي العام في الغرب (ليس الحكومات) لصالح منظومة الاحتلال، بالهبوط تدريجيا وذلك لإيمان المنظومة السياسية الغربية ان هذا (من جهتهم) ليس فقط انه يبتلع كل فلسطين بل بالتحديد يطيح بقرار التقسيم ١٨١ في ٢٩ نوفمبر \ تشرين الثاني ١٩٤٧.
بعد عقدين من الزمن على نكسة ١٩٦٧ زادت الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام ١٩٨٧ وتيرة الهبوط بالتأييد للاحتلال (وحلم “الكيبوتسات” الصهيونية التعاونية التي روج له الاحتلال في أوساط المجتمعات الغربية والأوروبية منها بالتحديد). سنوات أوسلو خلطت الأوراق وأربكت الرأي العام الغربي تجاه فلسطين. الى ان جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في ايلول ٢٠٠٠ لتغير الرأي العام الغربي عموما والبريطاني بشكل ايجابي وتضامني اكبر مع الشعب الفلسطيني.
هنا يجب ان نفصل بين الشعب البريطاني والذي تؤيد الغالبية العظمى منه حقوق الشعب الفلسطيني (لأسباب عديدة، منها الإرث الاستعماري لـ ‘رسالة بلفور’ وحتى الشعور بالذنب وبمسؤولية بريطانيا لإنزال النكبة على فلسطين وتشريد شعبها ونهب ارضها). وقد بدا ذلك جليا عندما اعترف البرلمان البريطاني بالدولة الفلسطينية عام ٢٠١٤ وإن لم يكن القرار ملزما للحكومة والتي لا تعترف بدولة فلسطين وبالتالي تقبل فقط ببعثة لمنظمة التحرير الفلسطينية في لندن وليس بمستوى سفارة وسفير والخ.
إذ ان الحديث يجري عن مسارين لم يلتقيا حتى الآن: الرسمي والشعبي.
فالرأي العام والمزاج الشعبي والتصويت في البرلمان هو مسار غير رسمي-حكومي ولم ينعكس (او يتم تبنيه لغاية الآن) في اروقة متخذي القرار البريطاني المسيطر عليه صهيونيا وفي مؤسسات الدولة العميقة (وممكن لهذه ان تكون شركات ومراكز أبحاث وجامعات واندية ملكية والخ)..
ولم ينجح الرأي العام والمزاج الشعبي البريطاني لغاية الان بفرض ‘موقفه’ على الحكومات البريطانية (العمال او المحافظين) او حتى على قيادات الحزب لتبني سياسات رسمية واضحة تجاه فلسطين وبالتأكيد عدم تبنى الحكومة البريطانية طواعية كمؤسسة لهذا المزاج. ولذلك فيبقى الرسمي
الحكومي هو التيار المركزي المسيطر على التيار الهامشي.
Mainstream Vs. Fringe
الفترة الوحيدة التي تماهت المواقف فيها ما بين قيادة حزب العمال والمزاج الشعبي كانت فترة قيادة اليساري جيريمي كوربين ما بين أيلول ٢٠١٥ وديسمبر\كانون الأول ٢٠١٩ إذ شملت فيما شملت هذه الحقبة تصريحات قوية للقيادية السابقة في حزب العمال إميلي ثورنبيري عام ٢٠١٧ حول ضرورة الاعتراف البريطاني الحكومي الرسمي بدولة فلسطين، تلاها خطاب للقيادي الشاب في مؤتمر حزب العمال مولين منويهين في ٢٠١٨ خلال مؤتمر حزب العمال.
وتوج هذه الحقبة خطاب إميلي ثورنبيري في البرلمان كوزيرة خارجية الظل (في قيادة جيريمي كوربين) عام
في ايار ٢٠١٩ موجهة انتقادا حادا لسياسة وممارسات نتنياهو وسؤالا مباشرا لحكومة المحافظين التي احتفلت بمئوية ‘رسالة بلفور”. الا ان التيارات المؤيدة للصهيونية في حزب العمال (جناحي توني بلير وغوردون براون ومن معهما من شخصيات بريطانية صهيونية (جزء منها يخفي خلفيته) اجهزت على قيادة كوربين وأثارت أمور تتعلق بما اسموه “النزعة المعادية للسامية في حزب العمال بقيادة كوربين” وفي النهاية اطاحوا به عبر تكتيكات متعددة. وللإشارة الى يمينية جناح بلير نذكر انه تم تعيين توني بلير في عام ٢٠٠٧ ليكون مبعوث الرباعية الدولية إذ انه ادار سياسة “إدارة الصراع” وعدم التقدم بإقامة الدولة الفلسطينية كسياسة ممنهجة وذلك لغاية استقالته عام ٢٠١٥.
ولذلك فإن التصويت لصالح فلسطين وضد الاحتلال يوم (٢٧ ايلول ٢٠٢١) في مؤتمر حزب العمال (المهزوم والضعيف والمتواجد في المعارضة) ورغم قوة نص اقتراح القرار (وذكر النكبة والابارتهايد … وهي مصطلحات متداولة في الخطاب العام في بريطانيا واوروبا وبالتأكيد في وسائل التواصل الاجتماعي وبكثافة) ورغم الرمزيه المعنوية الايجابية على ‘المنحنى التراكمي’ في “الفضاء العمومي” (هابيرماس) لصالح الشعب الفلسطيني، الا ان هذا القرار لا يلزم حتى قيادة حزب العمال ذاتها (بزعامة كير ستارمير صاحب التوجهات الصهيونية) على الاطلاق. والمؤشرات الأولى تفيد بأنه سيقوم بمحاربة هذا المزاج والتحرك الداعم لفلسطين في الحزب. كما انه سيفتح على الحزب ابواب “الاتهامات” بانه “معاد للسامية” مما سيضعفه اكثر (او يحدث انقساما) ويبعده عن استعادة قوته الانتخابية وأي تأثير في اروقة اتخاذ القرار في ‘ويستمينستر’ وذلك منذ خسارته (وعدم عودته) الى الحكم في (١٠ داونينغ ستريت) منذ عام ٢٠١٠ وخسارته حوالي خمسين منطقة انتخابية كانت تقليديا “عمالية حمراء”. وكان أكثر ما قام به حزب “الليبراليين الديمقراطيين” الذين كانوا وما زالوا يتخذون مواقف إيجابية من الشعب الفلسطيني هو اطلاق زعيمهم نيكولاس كليغ نائب رئيس الوزراء (لزعيم المحافظين ديفيد كاميرون) في آذار ٢٠١٥ تصريحا بدا قويا كان “اذا رفض نتنياهو قبول حل، فان بريطانيا ستعترف بدولة فلسطين”. الا انه بقى كلاما في الأثير ولم يترجم الى قرارات تنفيذية.
عشرات الجهات وعلى مختلف انواعها (كنسية وعلمانية ويسارية) تعمل جاهدة لصالح فلسطين في بريطانيا (وأوروبا) في مجالات دعم الاطفال والشباب والنساء والصحة والتعليم واللاجئين والاعلام والقانون والخ) الا ان غالبية هذه الجهات لم تغزو بعد “التيار المركزي” البريطاني لدمج فلسطين في مراكز اتخاذ القرار والذي ما زال متأثرا باللوبي الصهيوني بشكل كبير ولأسباب عديدة أهمها انعدام “المال العربي” للتأثير في اطار لوبي فلسطيني (عكس الاستعداد اللامتناهي صهيونيا) الى جانب عمل هذه المنظمات التي يبدأ نشاطها بعد ان يكون قد أنهي البريطاني تعليمه الثانوي والجامعي (غالبا) وانه لم يتشرب الدروس عن الحق الفلسطيني مثلما يرضعه عن اليهود وتجربتهم في أوروبا مما يجعل مجرد ذكر الاسم “فلسطين” في بعض المؤسسات يثير الرفض والمعارضة. . وذلك يعود جزئيا لوجود “ادوات فلسطينية” تقبل على نفسها ان تكون رهينة الفصائلية والانقسام والدعم المالي من انظمة ‘عربية’ هدفها فرض التبعية (على هذه الشريحة) والسيطرة على القرار الفلسطيني اينما كان وبالتالي “إدارة الحق الفلسطيني على موجة معتدلة دون ثورات” وإبقاء تأثير الاحتلال في مركز ‘بنية معادلة القوة’ اقوى أضعافا.
الاستمرار بالعمل الموضوعي والملائم وفقا للمعطيات وإيجاد آليات عصرية خلّاقة هو الأهم. إذ انه يتوجب على المهتمين (قيادات فلسطينية رسمية او جماهيرية) وضع استراتيجية عالمية تشمل اهداف واضحة وسبل تحقيقها (التكتيك) مع تنسيق الجهود والتحركات، والا فسيبقى الشعب الفلسطيني وقضيته في الغرب (وحتى إن اكتسب زخما في وسائل التواصل) مجرد “ظاهرة ناشطة”، لكن في ‘الهامش’. مع ذلك التبريكات مقبولة والتشجيع ضروري… ومنها للتي أحسن وأقوى منها…وسنعود بفصل جديد قريبا.
*مدير مركز كيمبريدج لدراسات فلسطين، كيمبريدج إنجلترا. *

Exit mobile version