فوزي بن حديد
يستذكر المسلمون في العالم هذه الأيام السيرة العطرة لخير البشرية وصاحب السيرة الزكية، والطلعة البهية، والرسالة النبوية، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام والتحية، سيرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا- وكيف عانى -عليه الصلاة والسلام- وكابد وجاهد من أجل نشر دعوته ورسالته، ورغم أن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز أن مهمته تقتصر على التبليغ «وما على الرسول إلا البلاغ المبين» إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتألم شديد الألم حينما يرى من أمته من لا يستجيب لدعوته فيضيق صدره ويحزن ولا يبالي بما يتلقاه من عنت ومشقة واستهزاء وسخرية من الآخرين وصل إلى حدّ التربص به -عليه الصلاة والسلام- لقتله وتخليص الناس منه كما فعله كفار قريش حينما صدع صلى الله عليه وسلم بدعوته وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، ولكن الله تعالى حماه منهم كما جاء في قوله تعالى: “إنا كفيناك المستهزئين”.
ومنذ أن خلق الله تعالى البشر، كان يرسل لكل قوم نبيا أو رسولا يدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وكان كل نبي أو رسول يلقى من قومه ما يلقى من السخرية والاستهزاء والعنت والمشقة يصل إلى حد القتل أيضا «ويقتلون النبيين بغير حق»، وفي كل مرة كانت العناية الربانية تتدخل لإنقاذ من أرسل إليهم تعبيرا عن القدرة المطلقة لله تعالى وتحقيقا لقوله سبحانه: «وأن القوة لله جميعا» حينما يستدعي الأمر ذلك ولا يعرف البشر أن الله تعالى لديه من الجنود ما يكفي لتأديب كل من تورّط في سبّ رسول أو شتم نبيّ من الأنبياء والمرسلين. والتاريخ مليء وشاهد على هذه العبر والدروس القوية، ولكن دائما من يأتي ليزعم أنه لا يصدق مثل هذه الأقاويل فيقع في المطب نفسه، فالنبي أو الرسول ليس ككل البشر بل إنسان تتجلى في نفسه الرحمات الإلهية والدعامات الربانية بحيث لا يستطيع إنسان عادي أن يستوعبها إلا من خلال الاتباع والاقتداء والتسليم بأنه مرسل من الله العظيم.
والرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليس بِدعا من الرسل الذين أُرسلوا من قبل، رغم أن الله تعالى كرّمه بأن جعله سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الكونين والثقلين، إلا أن ذلك كله لم يجعل طريقه إلى الدعوة سهلا، بل عانى ما عانى عليه الصلاة والسلام من كفار قريش ومن أقرب الناس إليه، فقد آذاه الكفار والمشركون في عهده باللسان واليد، وسبّوه وشتموه وأخرجوه من أحبّ مكان لديه عاش فيه وترعرع وتربّى، بل لم يكتفوا بذلك فتآمروا على قتله يوم أن أمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة المنورة، لكن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ضرب أروع الأمثلة على الصبر والتحمل ومواصلة الجهد والمثابرة من أجل تحقيق الهدف الذي أُرسل من أجله، ولم تثنه تلك العراقيل التي صادفته ولا الصعوبات التي واجهته ولا التدابير التي اتخذها المشركون محاولة منهم لتثبيط عزائمه وكسر إرادته ولا المخططات التي تآمرت قريش على إعدادها للنيل منه ومن دعوته، كل ذلك لم يثنه عن مواصلة أداء مهمته باقتدار وبكل شجاعة ودون خوف ولا تردّد لأنه يعلم يقينا أن الله تعالى معه ومن كان الله معه فلن يخذله.
وعندما يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين» إنما وصف الداء والدواء، وصف حالة الضيق الشديد الذي شعر به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- والحزن الشديد الذي طغى على قلبه والألم الذي كسّر قلبه وهو يرى الصد من كفار قريش ومشركيها وخاصة من زعمائها، بل قوبل بالسب والشتم والأذى والرمي بالحجارة كما حدث له في الطائف حتى سال الدم من جسده الشريف -صلى الله عليه وسلم- ورغم ذلك لم تكن له ردة فعله انتقاما وثأرا حينما جاءه جبريل -عليه السلام- وطلب منه أن يأمره بأن يطبق عليهم الأخشبين، بل كان رده لطيفا جدا حينما دعا لهم بأن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى، وزاده الله تعالى تسلية وسرورا حينما أخبره أن نفرا من الجن كانوا بجانبه وسمعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتلو آيات الله فآمنوا واتقوا، وبهذا إنما يعلمنا نحن المسلمين كيف نرد على أعدائنا إذا أوذينا في ديننا وفي أموالنا وفي أجسادنا.
ولكن الوصول إلى مرحلة اليقين يتطلب أن يتجاوز المرء المراحل الثلاث الأولى بعزم وثبات وصبر وتحمل، وهي التسبيح والحمد، والسجود والعبادة، وعند الوصول إلى مرحلة اليقين يأتي النصر الإلهي والمدد الرباني فهو الذي بيده الأمر كله، وله القوة جميعا، كما قال في كتابه العزيز، «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه» وقال «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا» وقال «لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا» وحينئذ لا نخاف ولا نخشى من أي حالة مريضة تحدث في عالمنا تحاول النيل من شخص الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- عبر رسوم كاريكاتورية مسيئة تستهزئ وتسخر من النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- وهو ما فعله قبلهم كثير وكلهم خسروا وخسئوا وبقيت سيرته زكية عطرة رغم أنف المتكبّرين والمتجبّرين والكارهين والحاسدين، لأنه نبي الأمّة ورسولها ورمزُها وقائدُها، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين فبلّغ الرسالة ونصح الأمّة وكشف الله به الغمّة، شاء من شاء وأبى من أبى، وهو النبي الأكرم والرسول الأعظم محمد بن عبدالله بن عبد المطلب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه دائما وأبدا- وسيظل ذكره في الأرض والسماء عاليا إلى الأزل ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره الماكرون، وستبقى سيرته عطرة شذيّة زكيّة يعبق عطرها في الأرض والسماء، وسيبقى اسمه يردّده الحاضرون والباقون إلى يوم الميعاد، تلهج الخلائق بذكره طاعة لله كما جاء في قوله تعالى: «إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا».
فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جاء رحمة للعالمين ولم يأت ليعذبها أو يرهبها، وهو هديّة مهداة من رب العالمين للناس أجمعين، ولم يُرسل لفئة دون فئة، أو قوم دون قوم، ولم يدْعُ يوما للإرهاب ولا للعنف ولا للتطرف، ولا إلى الاعتداء وإنما كان يغضب -صلى الله عليه وسلم- أشدّ الغضب حينما يرى أحدا من أتباعه يعامل الآخر حتى لو كان كافرا أو مشركا بعنف وقسوة، ويردعهم عن هذا الفعل الشنيع بل يأمرهم بأن يعاملوا الناس بالحسنى كما أمر الله تعالى نبيه في قوله تعالى: “وجادلهم بالتي هي أحسن” وقوله تعالى: “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”.
وبعد كل هذا يأتي من الأمة الإسلامية من يعتبر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ويستشهد بأن الرسول الكريم لم يحتفل بمولده ولم يأمر الناس بذلك، غير أن العلماء أجازوا الاحتفال به للاسترشاد بسيرته العطرة ولم يروا في ذلك عيبا ولا خطرا، لا على العقيدة ولا على الفطرة السليمة، بل إن الاحتفال يشجع الأمة على استذكار مواقفه صلى الله عليه وسلم ويشحذ الهمم العالية نحو الخطو بخطوه في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ونشر رسالة الإسلام الصحيحة النقية من كل الشوائب التي دخلت عليها من المتربصين والعابثين واللاهين عن جوهر الدين الحنيف.
إن مولده صلى الله عليه وسلم مناسبة زكية تهفو إليها النفوس لتعظّم ما عظّم الله، وتصلي على من صلى عليه الله وفضّله على جميع الأنبياء، وتعلن عن حبها الشريف لشخص محمد بن عبد الله الذي قال في الحديث الشريف: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”. وكيف يؤمن عبدٌ لا يستظهر المواقف الجلية والخصال البهية لسيد البشرية، وكيف يؤمن عبدٌ لا يحتفل بمولده الشريف الذي غير العالم من الظلمات إلى النور، بل سيظل المسلمون يحتفلون به كل عام رغم ما قاله البعض من أمر البدعة والضلال، فإن ذلك قول شاذ لا معنى له في تعابير الأمة الإسلامية.