د/ صبحي غندور
أليس محزناً أن تشهد بلادٌ عربية عديدة أزماتٍ أمنية وسياسية ساخنة، بعضها يمكن وصفه بالحروب الأهلية، ولا نجد عملاً عربياً نزيهاً ومشتركاً لوقف هذه الأزمات، بل على العكس نرى تورّطاً لبعض الأطراف العربية في إشعال هذه الأزمات أو عدم تسهيل الحلول المنشودة لها؟!. أليس ذلك أيضاً بدلالةٍ كبرى على مخاطر تهميش دور مصر في أمّتها العربية منذ توقيع المعاهدة مع إسرائيل في نهاية عقد السبعينات؟!. وهل يجوز أن يتقرّر الآن مصير أوطانٍ عربية من خلال مؤتمرات دولية أو عبر تفاهماتٍ بين دول كبرى، ولا يكون للعرب دورٌ في تقرير مصير أنفسهم؟!.
فمن المهمّ عربياً في هذه المرحلة عدم الفصل بين الحاجة لتغييراتٍ وإصلاحات داخلية في بعض الأوطان وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على المنطقة ككل، ثم ما تحتّمه أيضاً دواعي الأمن الوطني، كما هو الحال الآن بالنسبة لمصر، بينما تشتعل نيرانٌ في “البيوت العربية” المجاورة لها. فمصر معنيّةٌ الآن بدورٍ أكثر فعالية في مواجهة ما يحدث في جوارها الإقليمي المباشر من مخاطر واحتمالات، بعدما جرى تدويل الأزمات في كلٍّ من السودان وليبيا واليمن، وما نتج عن هذا التدويل حتى الآن من تقسيم للسودان أولاً، ومن تهديد لوحدة وأمن ليبيا، ومن عدم ضمان لوحدة اليمن ولاستعادة أمنه واستقراره.
مصر أيضاً معنيّةٌ بجبهتها الشرقية وبما يحدث في سوريا ولبنان والمشرق العربي عموماً، وبمصير غزّة والقضية الفلسطينية في ظل انعدام أي أمل بتسوية سياسية شاملة للصراع العربي- الإسرائيلي.
مصر معنيّةٌ كذلك بحفظ عروبة منطقة الخليج العربي وبرسم حدود العلاقات العربية مع إيران وتركيا، وهي كلّها مسؤوليات تصبّ في صالح الأمن الوطني المصري المباشر وتتطلّب دوراً مصرياً أكثر فعالية في “جامعة الدول العربية” المتهالكة عملياً، وفي قضايا المنطقة عموماً.
آمال العرب هي على مصر، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة كانت تخضع دائماً لتأثيرات الدور المصري إيجاباً كان أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب وأنّ استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.
ألم تنقل صحيفة “الشروق” المصرية في عددها الصادر يوم 4/6/2011 عن الجيش المصري تحذيره من مخطّط لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات! وبأن “القوات المسلحة لديها وثائق تشير إلى مؤامرة تحيكها أطراف داخلية وخارجية لتفتيت مصر الى ثلاث دويلات، وطرد الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وتقسيم الدول العربية على غرار ما حدث في السودان”!.
***
لكن المؤسف في واقع الحال العربي أنَّه، رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، تتعامل الحكومات العربية مع قضاياها من منظورٍ فئويٍّ خاصّ وليس في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تصون الحقَّ وتردع العدوان وتحقِّق المصالح العربية.
فلقد كان من المفترض أن تشكّل صيغة “الجامعة العربية”، عند تأسيسها في مارس/آذار 1945، الحدّ الأدنى لما كانت تطمح إليه شعوب المنطقة من تكامل وتفاعل بين البلدان العربية، لكن العقود الماضية وتطوّراتها الدولية والإقليمية جعلت من صيغة “الجامعة” وكأنّها الحدّ الأقصى الممكن، بل ظهرت طروحات لإلغاء هذه الصيغة المحدودة من التعاون العربي واستبدالها بصيغ “شرق أوسطية” تضمّ إسرائيل ودولاً غير عربية، ممّا يزيل الهويّة العربية عن أيّ صيغ تعاون إقليمي في المستقبل.
صحيحٌ أنّ “جامعة الدول العربية” هي في الأصل “جامعة حكومات”، وهي محكومة بإرادات متعدّدة لمصالح وأنظمة مختلفة، لكنّ ذلك لم يكن مانعاً في التجربة الأوروبية من أن تتطوّر من صيغة سوق اقتصادية مشتركة إلى اتّحاد أوروبي كامل. وكم هي مصادفة محزنة أن تكون بداية التجربة الأوروبية قد تزامنت مع فترة تأسيس “الجامعة العربية” في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، فإذا بدولٍ لا تجمعها ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، دول شهدت فيما بينها في قرونٍ مختلفة حروباً دموية طاحنة كان آخرها الحرب العالمية الثانية، تتّجه إلى أعلى مستويات الاتحاد والتعاون، بينما التعاون بين الدول العربية أشبه ما يكون بمؤشّرات سوق العملة، يرتفع أحياناً ليصل إلى درجة الوحدة الاندماجية الفورية بين بعض الأقطار، ثمّ يهبط معظم الأحيان ليصل إلى حدّ الانقسام بين الشعوب والصراعات المسلّحة على الحدود، وإلى الطلاق الشامل بين من جمعتهم في مرحلة ماضية صيغ دستورية وحدوية ..
التجربة الأوروبية لم تكن حصيلة القناعة بهُويّة أوروبية مشتركة بقدر ما كانت تسليماً بالحاجة إلى الاتحاد والتعاون كخيار وحيد أمام الدول الأوروبية لبناء مستقبل أفضل لشعوبها، بعدما عجزت الحروب والصراعات والانقسامات عن تحقيق ذلك.
تجربة الاتحاد الأوروبي قامت على المصالح المشتركة وعلى التعاون الاقتصادي أولاً كمدخل للاتحاد الدستوري الشامل. لكن هذه التجربة قامت وما تزال على جملة عناصر وشروط كان أهمّها رفض التدخّل في شؤون البلد الآخر، واحترام إرادة الشعوب داخل هذه البلدان.
وبحالٍ معاكس تماماً، سارت تجربة “جامعة الدول العربية”، فهذه التجربة العربية لم تعتمد في مسيرتها سوى على توافق المواقف السياسية الآنية، أو على تحدّيات طارئة على هذا البلد أو ذاك، سرعان ما تعود بعدها العلاقات السلبية إلى سابق عهدها .
وسيبقى واقع حال الجامعة العربية على وضعه الراهن طالما أنّ الجامعة هي “جامعة حكومات” وليست فعلاً “جامعة دول” بما هو عليه مفهوم “الدولة” من تكامل بين عناصر الشعب والأرض والحكم. فالأوضاع الراهنة في البلاد العربية تفتقد عموماً للمشاركة الشعبية السليمة في صناعة القرار الوطني، وما زالت المجتمعات العربية كلّها تعيش الحالة القبلية والطائفية كمحصّلة طبيعية لصيغ الحكم السياسي السائدة منذ قرون عديدة.
صحيح أنّ المنطقة العربية هي منطقة صراعات دولية بحكم موقعها الجغرافي الهام وثرواتها الطبيعية الضخمة واحتضانها لمواقع الرسالات السماوية كلّها، وبأنّ حدودها الراهنة هي محصّلة تسويات أوروبية تمّت في مطلع القرن الماضي، وبأنّ الأمّة العربية ينخر في قلبها جسم صهيوني غريب استنزف لعقود طويلة طاقات الأمّة، لكن هذه العوامل كلّها هي أيضاً أسباب مهمّة للتكامل والتوحّد السليم بين الأقطار العربية. فلا الأمن الوطني لأيِّ بلدٍ عربي يمكن تحقيقه بمعزل عن الأمن العربي العام، ولا التنمية العربية الشاملة ممكنة بلا تكامل الثروات والطاقات العربية المبعثرة والمستنزفة من قبل شركات الخارج أو أحياناً في بلدان الخارج!!.
بلا شكّ، فإنّ المدخل السليم لتكامل الدول والأوطان هو صلاحية النظام السياسي الذي تقوم عليه هذه الدول. فالبناء الدستوري السليم الذي يقوم على مرجعية الناس في الحكم وفي الوصول إليه، هو الأرض الصلبة المطلوبة لأي عملية تكامل بين الدول. هكذا كان درس التجربة الأميركية التي وضعت أولاً دستورها الشهير قبل أكثر من مائتي عام وجعلته في ثلاث عشرة ولاية المرجع الوحيد للحاكمين والمحكومين، فإذا بهذه التجربة الدستورية والتكاملية تتطوّر على مدى قرنين من الزمن لتضمّ الآن خمسين ولاية أميركية هي في مجموعها اليوم أكبر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، لكن ليس بمقدور أي ولاية منها أن تعيش وتزدهر بمعزلٍ عن الولايات الأخرى وعن نمط الحياة المشتركة الرابط بينها جميعاً، فهي وحدة “الكل” الجامع لخصوصيات متنوعة ومختلفة.
إنّ تطوير العلاقات العربية/العربية باتجاه أفضل ممّا هي عليه صيغة “الجامعة العربية”، أصبح يتطلّب تطويراً أيضاً لصيغ أنظمة الحكم في الداخل العربي، ولإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل. فتحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي هو الآن المدخل الصحيح لبناء علاقات عربية أفضل، وهو الضمان كذلك لاستمراريّة أيّ صيغ تعاونٍ عربيٍّ مشترك. لكن المشكلة الآن ليست في غياب الحياة الديمقراطية السليمة فقط، بل أيضاً في ضعف الهُويّة العربية المشتركة وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. ففي هذا الأمر تكمن التسهيلات للتدخّل الخارجي وأيضاً مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلد عربي، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي، ولوقف كافّة أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون العربية.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن