فؤاد البطاينة*
ليس جديد على النظام وحكوماته أن نشهد احتجاجات ومظاهرات واعتصامات تعبيرية في الشارع . ولم يسبق لهذه الفعاليات كحق دستوري أن خرجت عن القواعد السلمية، ولا انعكاسات سلبية لها على سلامة الأمن الداخلي والنظام. وغالباً ما تكون بالعشرات أو المئات القليلة وهو ما لا يعبر عن حقيقية حجم المعارضة الشعبية التي تغطي كل الأردن. ومع ذلك تجهد السلطة بنكهة الغباء السياسي في استعداء هذه الفعاليات من جهة، ويصر المنظمون لها من جهة أخرى على نمطهم الفاشل والمُحبط. فما هو التأثير الردعي لهذه الفعاليات على النظام؟ وما هو تأثيرها الإيجابي على مطالب الشعب ومعاناة الدولة والوطن إذا بقي الحال على حاله.
أمامنا في الساحة فريقين ناشطين باللعبة، هما النظام بأجهزته من ناحية، ومن يقدمون أنفسهم نخباً وطنية عاملة من ناحية أخرى . وبكل ثقة أقول، التأثير بالإتجاهين معدوم فلا هذه الفعاليات رادعة للنظام ولا هي منُتجة للشعب وقضيته . فالتأثير هنا مرتبط تحيققه بجماهيرية الفعالية وطبيعتها التنظيمية وبرؤيتها السياسية. ليصبح السؤال هنا هو لمصلحة من هذه العدمية وكيف التخلص منها. لا شك بأن هذه الفعاليات بوصفها القائم هي لصالح النظام وطالح الشعب، وليس من الفريقين من يُدرك ذلك. فلا النظام يعرف أو يعي أن تلك الفعاليات الفاشلة تخدمه، ولا من يقدمون أنفسهم نُخباً قيادية للشعب يعون بأن فعالياتهم الفاشلة تضر بأهدافها وبقضية الشعب ووحدته وبأنه لا بد من بناء أسس نجاحها. لماذا يحدث هذا وكيف؟
فبالنسبة للنظام، فإن عقله الإداري والأمني والسياسي عندما يكون ممثلاً برويبضاته على رأس حكوماته وأجهزته، يكون منتوجه مُجسداً لمقولة الجاهل عدو نفسه . فهذه العقلية البوليسية لا تدرك على سبيل المثال بأن تلك الفعاليات الأمنة كما أسلفنا عندما تخرج كمعارضة للشارع بحجمها وعدم مأسستها وبفقدانها للمرجعية السياسية والرؤية سيشكل خروجها عملاً تراكمياً للفشل وإحباط الشعب، وصيداً للنظام يُمكن استغلاله والاستفادة منه. فبدلاً من أن تسمح وترحب هذه الأجهزة بهذا النوع من الخروج وتُسوق زوراً للمجتمع الدولي بأن هذا هو حجم المعارضة والمعارضين في الاردن لا يساوي أكثر من مئة أو مئتين من عشرة ملايين، فإنها ترتكب بغباء وبلا مسوغ مخالفات قانونية ودستورية فاضحة وتسيء لنفسها وتعزز من السمعة السيئة للنظام دولياً . أما تفسير ارتكاب الأجهزة لهذه الحماقات وخاصة في الحالة الأخيرة فهو إن لم يكن في إطار مؤتمرات الخيانة والعار في المنطقة، فسيكون رغبة قادة الأجهزة بإشعار النظام بقدراتها ونجاحاتها المزيفة كقطاريز مستفيدة.
أما من يقدمون أنفسهم نخباً وطنية كفريق مقابل فهم المشكلة والعقبة الأساسية لنجاح العمل الوطني . إنهم منخرطون في حالة تنافس وتزاحم لا مبرر ولا أساس موضوعي له إطلاقا، مما يكشف عن قصور سياسي وفقر وطني ويشكلون عبئاً على الحالة الوطنية والشعب. وتشكيلاتهم السياسية المتوالدة تقتصر على أشخاصها المعدودين فقط، في تجمعات بمسميات كبيرة جداً عليهم. إنها تشكيلات وهمية ولا تعكس الحقيقة والواقع ولا محتوى مسماها، وليس لدى الأردنيين قناعة بها ولا التزام معها . فيمكن لمئات الألاف أن يؤيدوا بياناتها المنتقدة للنظام والتوقيع الألكتروني عليها، ولكنهم لا يلبون نداءها للخروج أولغيره من أنواع المشاركة، فقصتهم تنتهي عند التوقيع. وحتى لو كان عنوان الخروج من أجل الوطن فلا يخرجون خروجاً جماهيرياً.
وبهذا مفارقة مُسببة . فالأردنيون في الوقت الذي يشعرون فيه بالغبن والمهانة لسقوط ابنهم إو انجاح غيره لوظيفة حتى لو كانت وظيفة عميل في رئاسة بلدية يثورون تلقائياً في الشوارع احتجاجاً أو ابتهاجاً، بينما لا يشعرون بالمهانة ولا بالغبن أو المسؤولية إزاء دولة تتفكك ووطن يسقط بيد الأمريكي والصهيوني، فهم لا يخرجون. هنا يكمن السر في نجاح النظام وفشل النخب الوطنية. ولا يخرج هذا السر وسببه عن أن الأردنيين ما زالوا بلا هوية سياسية وطنيه تُنبت وتنمي فيهم مفهوم الشعب الواحد والرابطة الوطنية والهم الوطني بعد شُغل النظام عليهم لقرن كوكيل للمستعمر. وهنا أيضاً يتجلى القصور السياسي والإرتجالية لدى الشخصيات السياسية الفاعلة في الصالون والشارع عندما يتعامون أو تفوتهم هذه الحقائق ويُصرون على اجترار الفشل وتقديس تنظيماتهم والتمسك بسلوكهم ومردوده العكسي غير أبهين ببحث الأسباب وتصويبها وهم بهذا يشتركون مع النظام في التلاعب بمصير هذا الشعب ووطنه.
حان الوقت ليدرك أشخاص النخب بأن الشعب الأردني لا يتجسد بهم، بل يتجسد بملايين الصامتين والمتفرجين وغير المسيسين والغائبين عن الساحة بعد أن تخلى عنهم النظام كوكيل للمستعمر وتركهم بلا هوية سياسية وطنية وفريسة للفقر والبطالة والتهميش والتعصب العشائري واللارابطة بالوطن. وبأن هذه الملايين ما زالت معزولة عن العمل الوطني وساخرة من تعددية التجمعات السياسية وأشخاصها التي تتكلم باسمهم تأبطاً. وإن تدرك بأن النضال بدونهم عبثي وضار ومنظرة ويفسح المجال لعربة النظام وأسياده بالتقدم السريع وإنجاز المهمة. فلا بديل عن توجه عقلنا السياسي نحو عموم الأردنيين لصنع مفهوم الشعب لديهم ليكون الوطن أولويتهم وفخرهم ووجعهم وليس النسب والجاه والعشيرة والوظيفة، وهذا التوجه لا يصح إلا بصلاح المتوجهين كقدوة مضحية تترجم ما تقوله بطرح وبسلوك سياسي وتنظيمي وشخصي مقنع يحوز على ثقة الناس.
والبداية بنبذ التشرذم السياسي وتعددية التنظيمات وتنافسها بدون سبب موضوعي أو اختلاف في المفاهيم سوى مفاهيم الشخصنة والدلالات العشائرية والجهوية . والمباشرة بتلاقي ثلة وطنية تنشد المجد لوطنها وشعبها لا لأشخاصها، أو بتبرع جهة تمتلك القدرة، لمهمة اختيار وتشكيل قيادة سياسية – اجتماعية جماعية على مساحة جغرافيا الوطن، ترفض الأبوية والصورة. تضع وتطرح رؤية سياسية مقنعة تخاطب التحدي السياسي الوجودي وتصنع مآلاته الوطنية. وتمأسِس لتنظيم وطني إنقاذي للوطن والشعب.
فمعركتنا معركة وطن وشعب يندثران . ولا يمكن تحجيمها أو استخدامها وحرفها بمعارك وحسابات ورؤى ومآرب شخصية . وما يجري من نهب أموال في الأردن يجب أن لا يؤخذ بمعزل عن هدف وسيرورة تصفية الدولة وتجريد الشعب من وطنه على يد النظام. فنحن هنا لا نتحدث عن مجرد فساد وسرقات وسمسرات واستردادها بل عن وطن يباع. وهذا هو صلب معركتنا مع النظام ولا يجدر بنا خلط الحابل بالنابل فليس لنا عداء شخصي مع النظام أو قيادته. فالشرف الشخصي والوطني يتحقق اليوم بإسقاط كل الأسماء والألقاب ومشايخ السياسة وتراجع كل الهويات وإطفاء كل الأضواء العشائرية والجهوية والحزبية لصالح الإنتصار للوطن. ولا انتصار للوطن وبناء مفهوم الشعب لدى الأردنيين مع الشرذمة السياسية والإستشياخية وتعددية التجمعات السياسية، ولا المرحلة التي يمر بها الأردن تتقبل هذا.
*كاتب وباحث عربي