اليمن الحر الأخباري

يومان في تاريخ لبنان وقائع رحلة بحرية!

د. هاني سليمان*
جاء رجل الى سقراط الذي رفض ان يكون ملكاً على اليونان رغم الضغوط الشديدة عليه وقال له :” طالما انت رفضت ان تكون ملكاً هل توافق على ان اتولى هذا المنصب ، خاصة وان الملك الحالي غير جدير بهذه المسؤولية .” فاجابه سقراط :” يا عزيزي الافكار لا تقاس بالافراد بل بالمهمات الماثلة امامك. ففي البحر لا تنظر الى قدرة البحار الجسدية بل انظر الى مهارته في قيادة السفينة .”
تعود بي الذكرى الى نهاية الحرب الأهلية في لبنان، حيث احتشد عشرات الآلاف على طرفي بيروت المقسمة آنذاك فاعتلوا السواتر الترابية الفاصلة بين شرقها وغربها معلنين ان بيروت بوحدتها تستطيع ان تنهي هذه الحرب اللعينة .
في المسيرة البحرية التي انطلقت من كل لبنان نحو بلدة الناقوة تكرر المشهد ، وتأكدت المعاني وترسخت مفاهيم الوحدة بين اللبنانيين.
على مدى ستين يوماً والناشطون في عمل يومي دؤوب وقد افرحهم شعار “نفط لبنان للبنان”، وأقلقتهم فكرة عدم انجاز هذه الرحلة الصعبة ، بل المضنية في البحر مروراً بكل الموانئ اللبنانية.
من أين تمويل هذه الرحلة ؟ “والناس ما معها تاكل “، لكن رب همّة أحيت أمة”.
تأجل انطلاق الرحلة ، مرة بسبب عدم اكتمال الاستعدادات، ومرة بسبب حركة البحر المعيقة لانطلاق السفن، ونحن اليوم عشية “استقبال” هوكشتاين اللاعب على وتر الوضع اللبناني المأزوم لنقول له: لبنان الواحد القوي عصيّ على التهديد والمماطلة والتحايل والتذاكي ، ولنقول له ، واجهنا الغطرسة الاسرائيلية باللحم الحي ومن ثم بالزيت المغلي، ثم الرصاصة بالرصاصة والمدفع بالمدفع واليوم، ومقابل سفينة كاريش سنواجهكم بأسطول بحري .
الانطلاق هو يوم الأحد 4 ايلول، وقبل يومين “وقع الفأس بالرأس” فُاختفى المازوت من السوق، فكيف تسير البواخر؟ وبدأ حبس الأنفاس.
هل نلغي الرحلة لمرة ثالثة بعد الاعلان عنها بمؤتمر صحفي غطته وسائل الاعلام على اختلافها؟ الكابتن علي نعمة، الآتي من اليونان على يخته في البحر يقطع رحلته البحرية ويعود بالطائرة ليصل يوم السبت ظهراً ، وتبدأ المداولات. هل نلغي الرحلة بكاملها ونصبح عرضة للسخرية والشماتة والاتهام بالارتجال ومن ثم التقصير .
هل نلغي رحلة السفن الآتية من طرابلس والتي ستستقبلها زوارق وسفن عمشيت ومن ثم زوارق وسفن جبيل والتي تنتظرها زوارق ضبية وبيروت؟ وما هو مصير شعار ” من شمال لبنان الى جنوبه مروراً بكافة الموانئ”، خاصة وان تدخلات مشبوهة جهدت لمنع اطلاق البواخر من طرابلس . وبدأت الاتصالات بأصحاب محطات المازوت لتأمين هذه المادة (النعمة – النقمة ).
الكابتن علي نعمة يسأل، والمجيب على الهاتف يقول المازوت متوفر لكن بالسوق السوداء. والدكتورة هبة قبيسي تقول أنا أدفع الفرق
– – من وين يا هبة بدك تجيبي المصاري ؟
– – عندي سيارة رح بيعها اليوم ؟
هواتف ترن من كل حدب وصوب، منها من يسأل عن الطعام والماء وأدوية دوار البحرعلى السفن والمراكب، ومنها من يسأل عن امكانية اصطحاب عائلته معه ، ومنها من يستفسر عن مكان تجمع الباصات الذاهبة براً الى الناقورة .
ووسائل الاعلام تسأل عن السفن التي يمكن استخدامها للبث المباشر، فيكون الجواب بعد ساعتين منجاوبكن . انفاس محبوسة واعصاب مشدودة . وتبدأ الابتسامات على وجه على نعمة , نجحنا في تأمين ثلاث يخوت. ومع كل ابتسامة تبدو على محياه كانت ملامح باخرة مزدانة بالاعلام اللبنانية تلوح في الأفق . وقف ذلك الرجل وقال :” الحمد لله اليخوت على عدد اشهر السنة” .
وكان صوت الاستاذ معن بشور المتهدج بسبب الكورونا يعطينا كمية من الاوكسجين من القنينة الرابضة بجانبه .
حتى السابعة مساء كنا نتنفس تحت الماء، ومع كل دقيقة قادمة وكل ثانية كان القلب يعود الى طبيعته ، لتنتظيم دقاته على وقع انشودة الفرح المعلنة بدء انطلاق الرحلة البحرية صباح اليوم التالي .
في الواحدة ليلاً اعلنت طرابلس الفيحاء كلمتها على لسان المناضل الكبير فيصل درنيقة :” سفننا انطلقت باتجاهكم ، ومع ارتطام كل سفينة بموج البحر كان الفرح والشكر رائدنا. وما أن أنهيت صلاة الفجر حتى يرن هاتف هبة قبيسي قائلة : اليخت المنطلق من بور الضبية أصبح مزداناً بالاعلام اللبنانية واليافطات المكتوبة باللغات العربية والفرنسية والانكليزية والعبرية، تؤكد على التمسك بحقوق لبنان بثروته وحدوده مع فلسطين العزيزة.
وتفتح هاتفك لتقرأ تغريدة للرئيس ميشال عون تحيي شباب لبنان الذاهبين الى الناقورة تمسكاً بالحقوق الوطنية.
ومن ثم يرن هاتفك فإذا بالرئيس نجيب ميقاتي مؤكداً على معاني هذه الرحلة الجامعة لكل مناطق لبنان واطيافه الاجتماعية والثقافية والتربوية .
هل انتهى الجهاد الأصغر وبدأ الجهاد الأكبر ؟ كلا فالمقولة الان مقلوبة، فقد انتهى الجهاد الاكبر وأبتدأ الجهاد الأصغر وهو الانطلاق من بيروت صباحاً مروراً بالجية وصيدا وصور لمواجهة البوارج الصهيونية . ويا للمفارقة، وعلى عدة امتار بين بواخرنا المدججة بالايمان والعزيمة والتمسك بالحقوق كان بحرنا هادئاً ولطيفاً ، وكان البحر الذي ترسو فيه بوارج العدو المدججة بالسلاح مضطربا وقلقاً . راحت سفننا تتحرش به وهو مهيض الجناح بعد ان سربت وسائل اعلامه انه ابلغ اليونفيل انه سيطلق النار على اية سفينة أو شخص يقترب منه.
وقفز الشباب والصبايا في البحر حاملين العلم اللبناني. انه منظر لا ينسى.
وعلى الجهة المقابلة للسفن كانت بلدة الناقورة بكل فعالياتها تحتضن الآتين بالبر طرابلس وبيروت ومن قرى ومدن الجنوب كافة ليكتمل المشهد المهيب تمسكا بالحدود والحقوق والثوابت، محصنة بقوة لبنان الواحد، وجهوزية مقاومته لصد اي اعتداء محتمل .
ولعل أعمق معاني هذه (الرحلة – المواجهة) هو مشاركة الشاب اللبناني الأصيل شربل ابو ضاهر ابن بلدة عاريا الاصيلة (برفقة عائلته) . ذلك الشاب الذي حاز بطولة لبنان باللياقة البدنية ورفض المبارزة مع نظيره الاسرائيلي ، فجمع بين البطولة الجسدية والبطولة الاخلاقية والوطنية الرافضة للتطبيع مع كيان صنّع في مختبرات الغرب ليجعل من نفسه كياناً طبيعياً.
فانطلقت من مرفأ بيروت باخرة عليها يافطة( باخرة شربل ابو ضاهر.)
هذا اضافة الى مشاركة الشابة الاصيلة ابنة بلدة شحيم الآبية (برفقة عائلتها) تلك الشابة التي رفضت المبارزة بلعبة الشطرنج مع نظيرتها الاسرائيلية فجمعت بين التفوق الذهني وبين البطولة الوطنية المحصنة ضد التطبيع مع كيان هجين، فانطلقت من ميناء الجية باخرة تحمل اسم (باخرة ناديا قاسم فواز.)
مع ما رافق هذه الرحلة من معوقات وصعوبات وتحديات، وبالرغم من مشاركة العشرات من البواخر واليخوت والزوارق فقد شعر اللبنانيون بالأمس انهم في زورق واحد يواجهون العواصف والتحديات ، وانهم باتحادهم يمكنهم الوصول الى بر الآمان.
*كاتب لبناني، منسق الحملة الاهلية للحفاظ على الثروة الوطنية

Exit mobile version