اليمن الحر الأخباري

بين نموذجي ثورة إيران وحركة الاخوان

بشير عمري*
ليس يتمظهر إشكال العمل السياسي في أكثر ما يتمظهر في الواقع العربي والاسلامي، من بعد أزمة الوعي طبعا، في البُنى الوظيفية من مؤسسات، ومنظمات وحركات ومراكز، تتجاوز الصراعات فيها سلطة القانون وميكانزيم العمل وعُرف التوظيف، وهو ما أعاق ولا يزال حركة العقل السياسي في هذا الفضاء الحضاري الضخم بموروثه التاريخي، القزم في واقعه.
ولعل تجربة الإسلام السياسي كأيديولوجيا طارئة على العصر، تروم تبرير الحاجة إلى العودة إلى أصول الأمة في الحكم كحل لأزماتها في “الوطنية” في خارطتي التاريخ والجغرافيا، هي (التجربة) أكثر ما يجسد أزمة البُنى الوظيفية السياسية تلك، لبعدها الشعبي وثرائها من حيث الأحداث والوقائع الصدامية والسلمية مع سلطة وسطوة الدولة “القُطرية”، ودون ريب يظل نموذج المؤسسة الارشادية لدى الاخوان وما يقبله ايران الأهم في عملية المقاربة والمقارنة لكشف مسار التطور “البنيوي” لهذا الأنموذج السياسي المؤسسي المتجاوز لطبيعة العصر هيكليا ووظيفا .
فمذ برزت للوجود نهاية عشرينيات القرن الفائت عل يد مؤسسها التاريخي، الشهيد حسن البنا، لم تتمكن حركة الاخوان المسلمين من تجاوز أزمتها الخاصة على مستوى الهوية الوجودية، المتمظهرة خاصة في طبيعة النشاط كما في بنيتها المؤسسية، بين أمميتها وقُطريتها، وكل ذلك يعكس أزمة الفكر السياسي السني وعدم قدرة العقل فيه على التحرر من مورثاته ومواجهة اسئلة واشكالات العصر بالموضوعية اللازمة.
هكذا وضع ثابت ومستديم في لحظة النشأة وشاكلة سريان السلطة داخل الحركة، أعطى للمرشد قوة وشرعية دائمة مستمدة من شرعية المؤسس، فباتت “الارشادية” هي طوق النجاة وأساس الوحدة والتعبير عن الحقيقة الحركية دونها من المؤسسات الأخرى، حتى إذا ما جاءت لحظة الانقلاب باتجاه الحزبية، وجد حزبيو الاخوان في مصر أنفسهم رهائن لوعي أعتى وسلطة أطغى من سلطان مؤسستهم الحزبية فبرز الصراع والشقاق وانهار كل شيء بعد تبوئهم لرئاسة البلاد من بعد ثورة لم تكن ثورتهم الخاصة !
في مقابل ذلك أجاد إسلاميو الشيعة من “فُرس” إيران التعامل مع ثورة لم تكن في منطلقها ثورتهم الخاصة هم أيضا، ولكنهم استثمروا فيها باقتدار، عبر توظيف ذكي لكاريزما الخميني الذي حمل لقب المرشد وجعل البلاد كلها حقلا للوظيفة الارشادية، تضمنت في أبعادها كما الاخوان التمدد الأممي، وفي مشروعها تصدير “الثورة” وحتى تتمكن من الانبساط كلية بنشاطاتها وحراكها ذلك قامت بتفكيك منظومة الحكم السابق للشاه في تعاط موضوعي، منطقي وصارم مع قانون الثورة، الذي يقضي في سبيل نجاحها، بحتمية مرور بمرحلة “الهدم الثوري” قبل إعادة “البناء” وفق البديل الجديد المطروح، ولولا ذلك لما حققت تلك الثورة استمراريتها رغم كل ما صاحبها من أخطاء البداية وتأمر الخارج عليها.
في حين عجز الاخوان عن الارتقاء إلى مستوى فهم قوانين الثورة، ولا أدل على ذلك من أنهم ليس فقط لم يباشروا، من بعد وصولهم لقمة هرم سلطة البلاد، مرحلة “الهدم” الثوري وتفكيك المنظومة الأمنية والعسكرية التي يتستحكم في البنى السياسية والاجتماعية للبلد ككل ولو سلميا على الشاكلة الاردوغانية، بل حاولوا البناء عليها، نافين بذلك طابع الثورة التي أتت بعهم إلى الحكم، على حركة الشعب التاريخية، وعندما أدركوا حجم الزلل التاريخي ذلك الذي ارتكبوه وقبل أن يقعوا تحت حصار العسكر في رابعة، هددوا باللجوء إلى “الثورة” في حال حُيّد الرئيس مرسي، فكانت المحرقة وكانت نهاية الثورة التي لم تبدأ.
واليوم تمضي الثورة في ايران، من بعد القيادة “الارشادية” المطلقة للزعيم الكاريزمي آية الله الخميني، أين تقلص نفوذها السياسي في مقابل بروز سلطة الدولة على يد الهاشمي رفسنجاني، الذي أعاد النظر، عبر هيئة تشخيص مصلحة الثورة في وظائفها وأهدافها ومؤسساتها، بحيث تحررت من مثقلاتها الأولى وأعبائها الكبرى وتكاليفها الباهظة، من خلال تجاوز المشروع الأول “تصدير الثورة” الاهتمام بتحقيق نموذجها في الداخل عسى أن يغدو فيما بعد مسوقا تلقائيا لنفسه بنفسه في حال نجح – تمضي الثورة – في مسارها باتجاه التموقع في اللعبة الاستراتيجية الدولية تقارع كبار الحضور في شطرنجها الدقيق بالمنطقة، حيث تفرض نفسها كلاعب أساسي يهز القطريات العربية ويؤزها أزا، على الرغم من الإشكالات الفقهية التي لا تزال جدليا تصنع السجال الكبير والازلي بخصوص المعنى الزمني والوظيفي لسلطة الأمام الغائب الذي ينوبه الولي الفقيه وما تداعى عنه في مسار الثورة، في حين ارتكست الاخوانية إلى مربعها الأول تتساءل بشأن أسباب انكسارها، مشيرة في نقديات بعضها إلى التداخل بين مؤسستي الحركة والحزب، خطاب الدعوة وخطاب السياسة، سلطة المرشد بين الرمزية والسيادية، وهنا أشار الإعلامي بقناة الجزيرة المقرب من الحركة أحمد منصور في مقال نقدي لاذع لرجالاتها إلى الصراعات الشخصية حول المكاسب والمناصب داخل الحركة على حساب رسالتها ووظيفتها السياسية والمجتمعية، كسبب لانتكاسة 2013.
لا تعدم الثورات والحركات في التاريخ تجاربا في القيادة “الارشادية” لكنها تبرز في ما عدا المنطقة الإسلامية والعربية منفصمة ومنفصلة عن الأبعاد القدسية والتقديسية، بحيث تغدو سلطة غير زمنية مؤثرة سلبا على الحركة السياسية وسياسة الحركة، ففي الغرب بات الارشادية نموذجية انتقائية تختص بالأفراد أكثر منها الجماعات، فكثير ما كشف زعماء من بعد ما مارسوا السيادة والقيادة عمن كان يرشدهم ويؤثر فيهم ويؤطر توجهاتهم ويصنع مثلهم الأعلى في العمل السياسي، وكثيرا ما كانت تلك النماذج المرشدة من خارج مؤسساتهم الحزبية !
خلاصة الأمر هو أن الاسلاموية لم يزلها أبعد من إعادة تشكلها ذاتيا من خلال تجاربها الخاصة وتجارب غيرها، كي تنخرط مجددا في حركة التاريخ، فالوعي بالذات لا يتم دونما ملامسة الآخر، وهو، مثلما سقناه في سابق مقالاتنا، ما ظل يعوز الاخوانية وكثيرا من تنظيمات وحركات الإسلام السياسي المكتفية بأرصدتها الفكرية، السياسية والحركية، الذاتية والمستريبة من كل ما هو ابداع بشري بحجة أنه بدعة وبالتالي هو ضلالة مؤداها حتما النار!
*كاتب جزائري

Exit mobile version