اليمن الحر الأخباري

إلى أين يتجه العالم؟

د. سنية الحسيني*
تركز الدورة ال٧٧ للجمعية العامة هذا العام على الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل وجود أشد حالات الاستقطاب العالمي، والتي لم يشهدها العالم منذ الحرب الباردة. هذا الاستقطاب الذي بدأ منذ ستة أشهر، يصاحبه توترات عالمية مشحونة في أماكن مختلفة من العالم، اذ بات الحديث عن حرب نووية ثالثة أمراً متداولاً. وتتبنى الولايات المتحدة اليوم بشكل جلي تأجيج هذه الحالة العالمية الخطيرة من التوترات والاستقطابات، من أجل الحفاظ على النظام الدولي القائم على أساس القطبية المنفردة التي تتربع على قمته، والتصدي للأطراف الرئيسة في النظام الدولي الوليد، والمؤهلة لقيادة النظام الدولي الجديد المتعدد الأقطاب. وتحاول الولايات المتحدة قلب هذه المعادلة الدولية والتي تتطور بشكل طبيعي ومنطقي، متجنبة الوصول لحرب نووية، تعلم أنها ممكنة الحدوث نظرياً في مثل هذه التطورات، فإلى أين يتجه العالم في ظل هذه اللحظات الخطيرة؟
خلال العقود الثلاثة الماضية تغيرت معادلات القوة في العالم تدريجياً، ولم تبق الولايات المتحدة صاحبة القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المطلقة في العالم. فشهد العام الماضي تنافساً واضحاً بين الاقتصاد الأميركي، الذي مثل وحدة ٢٤٪؜ من إجمالي الاقتصاد العالمي، واقتصاد الصين، الذي وصل إلى ١٨.٥٪؜ واقتصاد الاتحاد الأوروبي، الذي وصل إلى ١٧.٧٪؜ وهو الأمر الذي شكل خطورة على مستقبل معادلة القوة العالمية القائمة لصالح تفرد الولايات المتحدة. ورغم بقاء الولايات المتحدة المتربع الأول عالمياً على المستوى العسكري أيضاً، الا أن الصين تخطت روسيا عسكرياً وباتت القوة العسكرية العالمية الثانية والمنافس العسكري الأهم للولايات المتحدة. وتعتبر روسيا المنافس العسكري والمتحدي المعلن الأول للولايات المتحدة، حيث يتواجه البلدان في كثير من المناطق والمصالح في العالم بدءاً من الساحة الأوروبية، ومروراً بالشرق الأوسط والفضاء الأسيوي، الأمر الذي يفسر علنية المواجهة بين البلدين، والذي تختلف عن المنافسة الصينية مع الولايات المتحدة. لم تخف الولايات المتحدة موقفها صراحة من الصين، وبدأت بتصنيفها بالمنافس أو العدو الأول منذ عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. أمًا فيما يتعلق في العلاقة مع الطرف الأوروبي الحليف، لا تخفي الولايات المتحدة الأميركية تذمرها من عدم تحمل الحلفاء الأوروبيين لمسؤولياتهم المالية والعسكرية بالدرجة الكافية، ما قد يؤثر على مقدرات ومكانة الولايات المتحدة الاقتصادية عالمياً.
قبل أن تبدأ الحرب، دعمت الولايات المتحدة القيادة الأوكرانية كي تتحدى روسيا، وتصر على موقفها الرامي للانضمامها لحلف الناتو، في مخالفة صريحة لتعهدات أميركية سابقة مع الاتحاد السوفيتي. وتبنت الولايات المتحدة مساعدة أوكرانيا في هذه الحرب مالياً وعسكرياً، رغم أن دول رئيسة في الاتحاد الأوروبي لم تكن متحمسة لتصعيد المعركة مع روسيا. وتعهدت الولايات المتحدة بدفع ٥٤ مليار دولار كمساعدات عسكرية لـ كييف، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف المساعدات المقدمة من جميع دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة. والتزمت الولايات المتحدة في إطار هذه الحرب بخطوط حمراء في حدود تسليح أوكرانيا وضعتها لنفسها، كي لا تخرج الحرب عن السياق الذي رسمته لها، والتي تعكسها تصريحات روسيا حول إمكانية الوصول لاستخدام السلاح النووي. أدت نتائج الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن، بالإضافة إلى حالة الاستنزاف الاقتصادي والعسكري الروسي، إلى تراجع في قيمة اليورو أمام الدولار الأمريكي لأول مرة منذ عشرين عاماً، الأمر الذي عكس تصاعد قلق الأوساط الاقتصادية والمالية الأوروبية، التي تعتبر الخاسر الاقتصادي الأكبر من هذه الحرب واستمرارها، نتيجة لارتباطاتها الاستراتيجية مع روسيا. يأتي ذلك أيضاً في ظل تصعيد الولايات المتحدة لتحدي الصين إقتصادياً وعسكرياً.
ad
ورغم تصاعد حدة ووهج هذه الحرب على الجبهة الأوروبية، لم تغفل الولايات المتحدة الجبهة الآسيوية، وعدوها الرئيس الصين، رغم عدم ارتباطه بهذه الحرب، انطلاقاً من أهدافها الكبرى. زارت خمس مجموعات من مسؤولين أميركيين تايوان، خلال الشهر الماضي والحالي، من بينهم أعضاء مجلس شيوخ ونواب. وأقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مشروع قرار يخصص ٣.٥ مليار دولار كمساعدات عسكرية لتايوان. وصرح الرئيس بايدن، في تطور خطير وتجاوز لسياسة واشنطن المعهودة، استعداد بلاده للدفاع عن تايوان، في حال واجهت أي اعتداء من قبل الصين، اذ تلتزم واشنطن عموماً بعدم تأييد استقلال تايوان، واعتمادها على استراتيجية الغموض الاستراتيجي. وجاء اعلان البنتاغون مؤخراً عن زيادة ميزانية تطوير سلاح البحرية الأميركية بقيمة تقدر ب ٢٧ مليار دولار لامتلاك ٣٥٠ سفينة حربية لرفع سقف التحدي مع الصين، بعد إعلان الصين عن خطة لتطوير قدراتها العسكرية البحرية. وزادت حدة التحركات والمناورات العسكرية الصينية مؤخراً بالقرب من مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، في إطار تطور الاحتكاكات البحرية والجوية مع تايوان التي درجت خلال العامين الماضيين. كما صعدت الولايات المتحدة من المنافسة الاقتصادية مع الصين خلال هذه الحرب، استكمالاً لمعركة مفتوحة معها لضرب شركاتها المصنعة للأجهزة والخدمات التكنولوجية والخلوية، بحجة حماية الأمن القومي الأميركي.
إن تطورات الحرب خلقت معادلات جديدة مهمة مثل التحالف الصيني الروسي في هذه الحرب. فقدمت الصين لروسيا المعونة اللازمة لضمان صمودها أمام العقوبات الأميركية والغربية المدمرة، ما يخفف من حدة آثارها، ويخلق تحالفاً استراتيجياً قوياً بين البلدين، ومزيد من التواجد الروسي في الساحة الآسيوية ومنطقة المحيطين الهندي والهادي، وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة. كما ساعد وجود الصين إلى جانب روسيا في هذه المحنة على عدم اتخاذ العديد من الدول الحليفة والصديقة للصين في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا مواقف معادية لروسيا في هذه الحرب. ولم تنحاز الهند في مواقفها من هذه الحرب لصالح الولايات المتحدة والغرب، فامتنعت عن التصويت ضد هجوم روسيا على أوكرانيا، رافضة تحميل روسيا المسؤولية، وطورت علاقات تجارية للطاقة مع روسيا خلال فترة الحرب، وهو أمر الذي لم يكن موجوداً قبل هذه الحرب. وتعتبر روسيا مورداً رئيساً للسلاح الهندي وداعما سياسياً مهماً للهند في قضية كشمير. إن ذلك يجعل مساعي الولايات المتحدة لخلق تحالفات معها في إطار القارة الاسيوية ضد روسيا والصين وايران ليس بالأمر السهل. وتسعى الولايات المتحدة لضم الهند إلى العديد من المبادرات الاقتصادية والأمنية في القارة الآسيوية، في إطار حالة استقطاب حادة بدأت تروج لها الولايات المتحدة منذ سنوات، وعملت على تفعيلها بشكل ملحوظ الآن. فقد أطلقت واشنطن منتدى إقتصادي لدول آسيا يضم ١٤ دولة في أيار الماضي، في المقابل انطلقت مؤخراً قمة منظمة شنغهاي بقيادة روسيا والصين في اول قمة تجمع الشركاء في هذه الحرب. وأحيت واشنطن الحوار الأمني الرباعي “كواد” الذي يضم الهند واستراليا واليابان بالإضافة الى الولايات المتحدة، في العام الماضي، ضمن ذات الهدف المتصدي للصين، كما تم الإعلان عن “اتفاقية أوكوس” الأمنية، التي تضم استراليا وبريطانيا بالإضافة الى الولايات المتحدة.
لا تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية حرب العالم ضد روسيا، كما تريد الولايات المتحدة أن تصورها، فعلى الرغم من أن قضية اعتداء دولة على أخرى أمر غير قانونية أو شرعية أو حتى أخلاقية، ومتفق على ذلك بين دول العالم أجمع، الا أن قرار الجمعية العامة بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الانسان نجح بأغلبية ٩٨ صوتاً فقط، حيث امتنعت ٥٨ دولة عن التصويت، وصوتت ضد القرار ٢٤ دولة، فدول مهمة مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وأندونيسيا والمكسيك لا تقف مع الحرب لكنها ليست ضد روسيا، في ظل حالة من الاستقطاب تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها في هذه الحرب. كما أنه ليس من المتوقع أن تنجح الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في ظل إطالة أمد هذه الحرب، وهو الأمر الذي يعول عليه الرئيس الروسي بتصريحاته “روسيا ليست في عجلة من أمرها لحسم نتيجة الحرب”. من الصعب استمرار المساعدات الأميركية لكييف بهذه الوتيرة، وهو ما أكده خبراء ومشرعون أميركيون. كما أنه من الصعب استمرار المقاطعة الأوروبية لروسيا، في ظل الرغبة بتحقيق استقرار في سوق الطاقة، اذ بدأ الاتحاد الأوروبي يعلن بهدوء عن خطوات لتخفيف العقوبات عن روسيا، خصوصاً مع قدوم فصل الشتاء.
وفي الختام، ومن مفارقات هذه الحرب، لم تنجح الولايات المتحدة باستصدار قرار من مجلس الأمن ضد روسيا، بسبب الفيتو الروسي، الأمر الذي جعل سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة تحدد في بيان أصدرته في الثامن من الشهر الجاري ستة التزامات تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها بهدف تطوير قوة ومكانة المنظمة الدولية، على رأسها التزام أكثر صرامة بنصوص الميثاق الساعية لتحقيق السلام ومنع الاعتداء، والتعهد بتقليل استخدام الفيتو للحد الأدنى. فاكرانيا جعلت الولايات المتحدة تتذكر ما دعت اليه بنود ميثاق الأمم المتحدة التي تتعلق بتحقيق السلام والأمن الدوليين، وخطورة استخدام الفيتو على تحقيق ذلك، وهي الدولة صاحبة أكثر استخدام للفيتو طوال العقود الماضية لتقويض تحقيق العدالة للفلسطينيين في مجلس الأمن. إن الولايات المتحدة التي تدعم بمليارات الدولارات مقاومة الاوكرانيين للغزو الروسي على حد وصفها، والتي جعلت دولة محدودة القوة مثل أوكرانيا تصمد أمام روسيا، ثالث قوة عسكرية في العالم، وتصف مقاومتهم للغزو الروسي بصفات بطولية، تقف ضد المقاومة الفلسطينية، وتصنفها بالإرهاب، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي الذي يقر به العالم ومنظماته ممتد لعقود، وليس لستة أشهر فقط.
*كاتبة فلسطينية

Exit mobile version