اليمن الحر الأخباري

المسمار الاخير في نعش الجنائية الدولية!

د. تدمري عبد الوهاب*
المحكمة الجنائية الدولية تصدر قرار اعتقال الرئيس الروسي بوتين قصد التحقيق معه في جرائم حرب ارتكبها في أوكرانيا متعلقة بتهجير الاطفال من منطقة الدونباس الى روسيا حسب ما ورد في صك الاتهام.
القرار تصدر عناوين القنوات الإعلامية الغربية والأمريكية وتلك التابعة لها في بعض دول الجنوب. بل تناولته و كان الامر قد قضي، واته انتصار قضائي للحق بعد ان فشلت العقوبات وآلة الحرب الأطلسية في إلحاق الهزيمة بروسيا. وهو ما ذهب اليه المسؤول عن العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل عراب السياسة الامريكية في اوروبا حين اعتبر القرار اعمال للعدالة و مبدأ عدم الإفلات من العقاب للمسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية التي وللمفارقة اعتبرها كذلك الرئيس الامريكي بايدن تهمة ثابتة في حق الرئيس بوتن متناسيا ما ارتكبه الرؤساء الامريكيين في حق الشعوب الاخرى من جرائم وحروب إبادة جماعية. ابتداء من مما ارتكبوه في حق شعب الهنود الحمر الأمريكيين, مرورا بإلقاء أول قنبلة نووية على الشعب الياباني في هيروشيما ،ومجزرة ماي لاي في الفيتنام، إلى الحرب على العراق و افغانستان وليبيا و سوريا الخ…بل ان الولايات المتحدة الأمريكية الغير العضو في المحكمة الجنائية الدولية هي من عملت عبر رئيسها دونالد ترامب على تجميد ارصدة قضاتها ،و منع عنهم تأشيرات الدخول الى أمريكا سنة 2020 كعقاب للمحكمة وذلك لمجرد ان ابدت هذه الاخيرة استعدادها فتح تحقيق ضد الجنود الامريكيين ،وليس ضد الرئيس الأمريكي ،في ما ارتكبوه من تجاوزات قد ترقى الى جراىم ضد الإنسانية في أفغانستان .وهي المحكمة التي وضعت كذلك إسرائيل خارج اي محاسبة رغم ارتكابها لأكثر من تهجير و من مجزرة سواء في حق الشعب الفلسطيني او في حف الشعب اللبناني خاصة في قانا سنة 2006 اي بعد اربعة سنوات من تاسيس المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 .
ان هذا القرار اذن يطرح اكثر من سؤال ليس فقط حول مدى قانونيته بل كذلك حول مصداقيته. خاصة اذا ما استحضرنا السجال الذي حصل بين المدعي العام كريم خان و رئيسة المفوضية الأوروبية المنحازة لواشنطن في دجنبر 2022، أثناء انعقاد المجلس السنوي لأعضاء المحكمة الجنائية الدولية الذي خصص لكيفية الالتفاف على القانون من اجل محاكمة روسيا غير العضو في المحكمة، إما من خلال إنشاء محكمة اوروبية خاصة مدعومة من الأمم المتحدة حسب اورسولا فون دير لاين لمحاكمة العدوان الروسي على اوكرانيا. او من خلال دعم المحكمة الجنائية وإعطائها الوقت الكافي لاستكمال تحقيقاتها من اجل متابعة بوتين بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية حسب مقترح المدعي العام كريم خان .الذي انساق مع ما قالته نائبة الرئيس الامريكي كمالا هاريس التي اعتبرت بوتين مسؤولا عن جرائم الحرب في أوكرانيا. واستكمالا كذلك لما جاء في التقرير الأخير للأمم المتحدة الذي وصف نفل روسيا لأطفال الدونباس المعرضين للقصف الاوكراني الى مناطق امنة داخل الاراضي الروسية بالجريمة ضد الإنسانية.
وما الدعوة الاخيرة لعقد جلسة في القريب العاجل في بريطانيا من أجل دعم المحكمة الجنائية الدولية الا معزوفة صغيرة من هذه السنفونية التي تتكامل فيها الأدوار بين الحلفاء في الغرب الأطلسي وبعض المؤسسات الدولية المسيطر عليها غربيا من اجل الضغط على الرئيس الروسي بعد ان فشلت كل الخيارات الاخرى .
لكن السؤال المطروح هو كيف للمحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام ان يقبل التحقيق في ملف يتعلق بمنطقة متنازع عليها بين أوكرانيا وروسيا التي تعتقد هذه الاخيرة بأحقيتها التاريخية فيها، وسكانها في غالبيتهم العظمى مواطنون روس. وان تدخلها العسكري جاء بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية لحث كييف على وقف حربها على شعب هذه المنطقة منذ 2014 التي ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيين بين فتيل وجريح بدعوى استئصالها للقوى الانفصالية المنحازة لموسكو.
ان هذا القرار الذي تبنته المحكمة الجنائية الدولية بتوافق تام مع المفوضية الاوربية وامريكا و الذي يعد منحازا لأوكرانيا التي لم تصدق بعد على ميثاق روما. والحيثيات التي اسردها المدعي العام لقبول دعوى التحقيق بما فيها الدعم الذي قدمته الدول الغربية للمحكمة من اجل تبني الملف. لا تعد كافية وتتناقض حتى مع ديباجة الميثاق الذي ينص على عدم التدخل في النزاعات بين الدول بهدف تغليب طرف على اخر. ناهيك على كون هذا الملف يهم دولتين متحاربتين لا يتمتعان بصفة العضوية في المحكمة الجنائية الدولية . ان القرار اذن لا يمكن فهمه دون الرجوع الى التاريخ المهني للمدعي العام السيد كريم خان الذي كان مستشارا قانونيا للتاج البريطاني. وكذا الرجوع الى كواليس توليه هذا المنصب سنة 2021 عندما حاز على 72 صوت من أصل 123 بعد ان تم استبعاد منافسه القاضي الإيرلندي فرغال غاينور المعروف بنزاهته و تعاطفه مع القضية الفلسطينية وذلك بتدخل اسرائيلي . اقرت به القناة التلفزيونية “كان ” المملوكة للحكومة الإسرائيلية التي أعترفت بدعم ترشيحه في الكواليس، عبر الدول الصديقة لها و العضوة في الجنائية الدولية، لكونه الشخص المناسب والأقل ضررا للكيان الاسرائيلي .
بالاضافة الى ان السيد المدعم العام الذي أصبح حسب صك الاتهام الذي صاغه ضد بوتين من المدافعين عن الإنسانية. هو نفسه الذي ترافع ضد ضحايا الجرائم المرتكبة ضد الانسانية في اكثر من ملف بما فيها ملف الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، ومجرمي الحرب في دارفور ، و مجرم الحرب بيير بيميا في الكونغو، وهورورو كينياتا في كينيا الذي برأه من الجرائم المنسوبة اليه بعد ان اغتيل أحد الشهود وغاب الاخرون عن المحكمة.
ان استحضار المسار المهني المنفصم للسيد المدعي العام كريم خان هو من اجل القاء المزيد من الضوء على الازدواجية في المعايير المتبعة من طرف قوى الغرب الاطلسي في تعاطيها مع القضايا المطروحة على الساحة الدولية و شخصية المدعي العام تعبر بشكل صارخ عن هذه الازدواجية. من مدافع على مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في افريقيا الى مدافع عن الضحايا في اوكرانيا!.
بالاضافة الى كون القرار الذي اصدره السيد المدعي العام يأتي ضمن السياقات التي تشهدها الحرب في اوكرانيا والتي اظهرت عجز الغرب الاطلسي ،رغم المجهود الحربي الذي يبذله في دعم كييف، و العقوبات القاسية التي فرضها على روسيا ، هزم هذه الاخيرة التي بدأت تتقدم ميدانيا لتحرير كل منطقة الدونباس التي تعبرها مناطق تعود لها تاريخيا و سكانها مواطنون روس في غالبيتهم العظمى .
ان استحضاري للمسار المهني للسيد المدعي العام الذي يعكس في شخصه ما نعيشه من ازدواجية في المعايير و كذلك الحيثيات القانونية التي صاغ بها صك الاتهام والسياقات العامة التي تحيط بهذا القرار لم يكن من اجل الدفاع عن روسيا ولا عن بوتين .انما من اجل القول انه بهذه الخطوة السياسية، ولا افول القانونية، يكون قد دق المسمار الاخير في نعش الجنائية الدولية التي على غرار باقي المؤسسات الدولية والأممية تحتاج الى اعادة النظر فيها بما ينسجم ومتطلبات النظام العالمي الجديد الذي ينبئ به الصراع الدولي الحالي في أكثر من جبهة.
*كاتب مغربي

Exit mobile version