اليمن الحر الأخباري

غثاءٌ.. خطابٌ.. قوةٌ!

علي الزعتري*
لِمَنْ سيقولُ ما هو الحل، أُجيبُ أنهُ في القوة. ليست قوة الكثرة و لا قوة الكلمة بل قوة الإيمان و العزيمة و الصبر و الصمود. هي كذلك قوة الذكاء و الخدعة في الحرب و استعداداً لها و قوة البناء المؤسسي الأخلاقي والإيماني وقوة البناء الوطني المعتمد على الذات ما أمكن. قوة المعرفة بقوتك و قوة استخدامها ضد عدوك.
لكن التناقضات العربية مُذهلةٌ في تنوعها و انتقالها من حالةٍ إلى حالةٍ كلها ضعف و هي قوية. إنها كملعبٍ فيه فرقٌ تمارس كل أنواع الرياضات في نفس الوقت بلا تنسيق و تشتبكُ مع بعضها البعض في قوةٍ بلا رحمة و في فوضى عارمة، فبأسهم بينهم شديد. و بين اللاعبين جماعةٌ تقرأ الشعر و غيرها ترقص و تغنى و بعضها يضحك ويهزأ و قد يبكي وينتحب أو يكتب في الهواء أو ينادي ويصيح. ملعبٌ سيريالي عنوانه العريض العالم العربي. لاعبيهِ هم نحنُ، و الحُكَّام من طينتنا، و من الغريب، و هم الذين يرون الملعب من منصةٍ مرتفعة و بيدهم أدوات التحكم لكل لعبة و بيت شعر و أنشودة، و بعضهم ينزل للملعب ليشترك بهذه و تلك من الملاعيب ليقول هأنذا مُشاركاً من الناس و زعيماً و صديقاً و مُتسَلِّياً. وحدهُ المقاوم في هذا الملعب في لعبته الخطيرة خارج تلك اللعب و الألعاب و التحكيم و التخايل. وحدهُ القوي الذي يتفادى الغث والضعيف. و المُقاوم ليس بالضرورة أن يكونَ كما نرى في السنوار و فضل و أبو عبيدة
و أبوحمزة أقوياء باتصالٍ ما بينهم و تآخٍ، بل بعضنا من عامةٍ وخاصةٍ يقوى بقوتهم عن بعدٍ، عن إعجابٍ و ربما عن غيرةٍ و تقليدٍ. و يستفيدُ من قوتهم. و قد يصحو المُقَلِّدُ لقوتهم بعد غفوةٍ صحوةً من حلمٍ كاذبٍ ليتبعهم ثم يعود لأصله؟ في الأثناء ذاتها لا يتوقف الملعب أو اللاعبون و الحُكَّامُ عن الدوران و الاشتباك. و لا المقاوم عن المناورة و كسب النقاط. لقد وصفَ المصطفىٰ عليه أفضل الصلاة وقتاً نعيشهُ اليوم وكأننا غُثاءٌ. و الغُثاءُ هو فضلاتُ الطرق و البوادي و الوديان مما يرميه الناس و هو كثيرٌ يأتي به السيلُ ليرميهِ بمكانٍ آخرٍ لا يستفيد منه أحدٌ لا في جريان السيل و لا عند انتهائه. كثيرٌ بدون نفعٍ. و هو وصفٌ قاسٍ لأمةٍّ قال سبحانهُ و تعالى أنها خير أُمَّة. لكننا لم نتخلف عن هذا الوصف النبوي في كثرتنا و لا في الوصف الإلهي لخيرنا و كيف و القائل لا ينطق عن الهوى! خيرُ الناس من يقاوم بوجه الظلم و غثائهم من يلعب لهواً فيما الناس تُظلم. التوصيف للحال العربي مؤلمٌ و متكررٌ لكن فيه ما يجعلنا نتوقف عنده للتعجب و للأمل. فهل من يتذكر، و نحن في أتون غزة، أتون السودان؟ السودان الذي يتمزق على يد الجنجويد أو الدعم السريع الذي تنقل الأخبار القليلة أنه يحرق القرى في دارفور و يطبق على الخرطوم. الخرطوم الخارجة عن نطاق الاتصال بالعالم لأن مطارها المتواضع قد خرج عن الخدمة. هل يذكر أحدٌ السودانيين المفتقرين للمعونة الإنسانية؟ هذا وطنٌ عربيٌ متنوع الأعراق ثريٌ بأهله الكرماء المتعلمين و البسطاء يذوي تحت وطأة الاقتتال الذي كما قال أحد قادة جيشه مؤخرا أنه اقتتالٌ تنفخ في كيره نصرةً للجنجويد دولةٌ عربيةٌ خليجيةٌ هي الإمارات. الدولة التي تحتفي بالرئيس الصهيوني و وزرائه و هو الكاذب الأَشِر على غزة و فلسطين. بهذا تخرج الإشاعة للعلن ليصطف السودانيين بين قابلٍ لهذا الاتهام و رافضٍ. لكن السودان يحترق فعلاً بغض النظر من أين تأتي الرصاصة و النار. و هل نتذكر السوريين و معاناتهم تحت الحصارِ و العازةِ و الهجرةِ القسريةِ و الاعتداءاتِ الصهيونيةِ عليهم؟ هل تذكرون الاتفاق العربي لتزويد لبنان بالغاز عبر سوريا الذي أوقفته أمريكا؟ أم الاتفاق المصري العراقي الأردني للتعاون الاقتصادي الذي دخلَ السباتَ العميق؟ هل تذكرون سيول ليبيا التي حصدت أكثر من عشرين ألفاً في ساعات و أزالت للبحر أجزاءً من مدينة؟ هل تذكرون هذا من ماضينا الحاضر الذي ننسى ونتذكر ثم نعود للملعب ذاته.
ننتقل إلى جلسة الإحاطة حول الوضع في فلسطين التي عقدها مجلس الأمن. كلماتٌ شجاعةٌ من المندوبة الأمريكية لم تُقلْ من قبل أمريكياً إلا في عهد أندرو يونغ سفيرَ جيمي كارتر للأمم المتحدة، لكنها كلماتٌ. أمريكا أعطت مفاتيح مخازنها للصهيونية و الصهيونية تمول الحملات الانتخابية، والانتخابات هذه على الطريق التي نَغَّصَ عليها الدم الفلسطيني الذي لم تستطع وسائل الإعلام الأمريكية التغاضي عنه. ما قالته المندوبة ليس نقداً للصهيونية بل خوفاً منها و عليها. كلهم في الغرب ينصح الصهيونية ليس ملامةً بل خوفاً منها و عليها فالصهيونية تسيطر عليهم مالاً و عقيدةً. الوزير أيمن الصفدي قال ما يدور في الوجدان الأردني العربي. كنا نود أن نسمع هذا القول قبل سنين لكن أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي. الوزير الصفدي استمد قوته من موقف الملك و الشعب الذي يتظاهر و الأردني الذي يكره الصهيونية و أيضاً من هول المجزرة في غزة وصمود الغزيين. اصطفافٌ مثالي بين قمة الهرم و القاعدة. لكن رئيس الوزراء الأردني أكد الالتزام بالمعاهدات و هو يعني معاهدة عربة وعشرات التعاملات مع “إسرائيل”. هذا في الوقت الذي لا يعاقب فيه النتن صهيونياً من جماعته يريد محو الأردن و تحويلها وطناً بديلاً و لو بالقوة بل أن النتن رفع الخريطة النافية للأردن كما فعل وزير ماليته قبل أشهر، و لا هم احترموا الوصاية الهاشمية على الأقصى. كلمة الصفدي القوية يلزمها أنيابٌ و أظافر أردنيةٌ ناهشةٌ موجعةٌ. لكنهُ غير مفهومٍ إلا في سياق المعاهدات و رغم الرفض الشعبي وجود القواعد الأمريكية في الأردن أو إعلان فتح مكتبٍ إقليمي للناتو في عمَّان. و فيما اختلج الصفدي باللغة العربية الأصيلة من عُصارةِ الأسى و استشراف الحقد الصهيوني اختار وزير السلطة الفلسطينية أن يتكلم بلغة القوم الآخر. لماذا؟ هل من نقصٍ في التعابير بلغتنا أم خوفاً من أن لا يفهم الطرف الآخر؟ لا نعرفُ لماذا التقمص هذا في اللحظات التي تتكلم فيها الأرض بالعربي والدم.
ويلزمنا أن نذكر متلازمة الغاز و النفط للأردن و مصر و العراق و سوريا. كانت مصر تورد الغاز الطبيعي للأردن حتى فُجِّرتْ الأنابيب في سيناء بفعل مجهول و استدرنا في غفلةٍ لنجد أن الأردن و مصر تستوردان الغاز من “إسرائيل”! بل أن مصر تستورد هذا الغاز الفلسطيني المسروق ثم تصدره لأوروبا بعد عملياتٍ تصنيعية. اليوم في الأردن اعتمادٌ على الغاز الفلسطيني المسروق و دعواتٌ لمقاطعته لم تُجدِ نفعاً للآن. ثم يستورد الأردن النفط الخام من العراق ويكرره و يبيعه منتجاتٍ للمواطنين. على الحدود العراقية مع الأردن أقسم الحشد الشعبي على قطع الصادرات النفطية للأردن طالما لا يسمح الأردن للحشد بالدخول للاشتباك مع “إسرائيل” من داخل الأردن. في الوقت نفسه تنتقل صهاريج النفط الخام السورية المسروق كردياً و أمريكياً عبر الحدود العراقية و لا يتظاهر الحشد لمنعها. و فيما تُهاجم مكامنَ أمريكية في العراق و سوريا من الحشد و غيره يدعو بلينكن العراق لحماية “ضيوفه” الأمريكيين و معاقبة “المعتدين” و في الوقت ذاته يعطي للصهيونية الإذن لنحر غزة لأن حماس كما قال أفشلت الهدنة. أما المطالبة باستخدام قطع النفط عن الغرب تحديداً، و هو ما سخر منه الوزير السعودي المختص و كانت سخريةً في غير مكانها و زمانها، فهو مطلبٌ عجيبٌ إن كان من دول الخليج فقط و لا يشمل ليبيا و الجزائر و مصر و العراق ضمن مفهومٍ عربي. كل الدول العربية تبيع نفطها وغازها للعالم و هو مصدر الدخل الأساسي لها و قطعه ليس فيه الحكمة و لا الفائدة دون استراتيجيةٍ واضحة. لنتذكر أن قطع النفط في ١٩٧٣ تبعه إجراءاتٌ غربية لتفادي إعادة القطع و أن قطعه لم يكن ليستمر فترةً طويلةً على أية حال و إن قُطِعَ الآن، و هو مستحيل، لكن فرضاً أنه توقف، فسينقلب العالم على العرب كرها و بغضاً بلا فائدةٍ بعيدة المدى. كما قيلَ أن ولي العهد السعودي ألقى كلمةً حول غزة من مكتب عمه الملك الراحل فيصل مما أثار الظن بتلويحه بقطع النفط، الذي نفاهُ وزيرهُ، لكن الأخبار لم تتوقف عن استمرار مسار التطبيع السعودي الصهيوني و لا نفتها السعودية، و في خضم المجزرة كانت السعودية تقيم احتفال الرياض الذي شهد أنشطةً غريبةً و مستهجنةً، و ليس هذا هو وجه السعودية الذي يركز الإعلام عليه بل أن البلاد لا شك تذخر بالوطنية و التوق للتخلص من الصهيونية و لا يتحدث الإعلام عنها. تناقضات. و في الإمارات يتصافح الرئيس الصهيوني و أمير قطر و هو الرئيس الكاذب كما نعلم لكن المصافحة مع بدء العدوان على غزة مجددا غير مفهومة ولم تتأخر الصهيونية عن تدمير مساكن “حمد” القطرية في غزة. و كذلك المغرب الذي يبدو شارعهُ بعيداً عن التطبيع بينما تُبحر سفينة الدولة فيه في الاتجاه المعاكس لرغبة الشارع مع الفارق الواضح لوجود تظاهراتٍ شعبية ضد التطبيع لا تمنعها المغرب، و لا الأردن، بينما تُمنع هذه الممارسة في دول التطبيع العربية، بل ربما ينتهي منتقد التطبيع فيها للعقاب. و الكل يعلم و يرثي لحال الممارسة الديموقراطية المشوبة بشراء الذمم والأصوات بالاختيار و الترغيب بالتقريب للسلطة النافعة بدلاً من الانتخاب الحر. هذا يجري في معظم البلاد العربية حيث المجالس البرلمانية أو الشورى قد وافقت على التطبيع و العلاقة مع “إسرائيل”، ولن تستطيع هذه المجالس تظهير موافقتها هذه لو اُستفتي الشعب استفتاءً حراً فالأغلبية الشعبية هي ضد العلاقات مع الصهيونية. ثم إن الأساطيل سُفُناً و غواصات تُبحرُ من خلال قناة السويس و لا تخفى مهامها العسكرية و هي فعلت ما فعلت في العراق و سوريا و السودان و اليمن فلماذا لا يُطلب منع الأساطيل من قناة السويس؟ كما انتشار القواعد الغربية بأساطيلها الطائرة في كل بلدٍ عربي و لا سلطةَ لحكومةٍ عربيةٍ عليها. الإجابة هي أن الدول العربية ملتزمةٌ بالمعاهدات التي وقعت عليها و لا تستطيع أو تريد نقضها.
الغُثاءُ يمتدُ للآراء الصادرة عن رجال الدين و شخوص الإعلام و من لا يزال يعتقد بالتأثير على المجتمع و جوقة الفنانين فلقد صدرَ منهم ما يغيظ و يؤلم في المقاومة. و السمين أتى من نقيضهم من بلاد العرب و الغرب حتى بِتَّ تؤمنُ بعروبةٍ ما خفيةً و شريفةً تقود نادي سيلتك الاسكتلنديّ و ذاك الفنان و تلك الممثلة و هذا المؤرخ و المفكر الذين يمتلكون ضمائر حية و لم ترهبهم إمكانية فقد الرزق و الوظيفة و منهم يهود الدين لكن أن ترى و تسمع شيخاً مسلماً يتهكم على المقاوم و يقذفه فهو لعمرنا من الموبقات.
و انظر في لبنان الذي يحتفي و يمتاز و يتغنى بالكتاب و الشعراء و الأدباء و نبض الحياة و يبقى بدون رئيس جمهورية، ولو كان رمزاً. خلافات السياسيين وأحزابهم تختلط مع طوائفهم الدينية و مصالحهم العائلية و المال و النفوذ و بين ما هو غَثٌّ مبتذل و ما هو متزنٌ محترم في الإعلام اللبناني. بلادٌ تسري فيها محبة الوطن لكن على وجهين أحدهما يقول بالوطن الشوڤيني و ما غيره فليذهب للجحيم و الجحيم عنده تتسع لغريمه من إبن الوطن و هو لن يتوانى عن دفعه نحو الجحيم لو استطاع، و الثاني مع الوطن المقاوم الذي يرى مظلوميةً تاريخيةً يريد تصحيحها و عقيدته جهاديةٌ راسخةٌ. فلا يتفقون إلا لمماً و ليس من غير تداخلاتٍ للتوافق بينهم يا ليتها كانت من بينهم أو من العرب بل يقودها مُستعمرٌ قديمٌ جديدٌ يزورهم ليسمعوا منه و يسمع منهم و يذهب. لبنان في نقطة التوازن و لو كان التوازن بلا توازن.
نعم نحن الغثاء و نعم نحن خير من يخطب و في النوعين نحن أقوياء بلا فعل. أما القوي الفاعل فهو المقاوم. منهُ يستمد سيل الغثاء و منبر الخطيب قوةً سرعان ما تخور و يبقى هو وحيداً في الملعب العربي يناور و يتفادى و يضرب و يكسب و يستشهد و يرجو ما لا يرجون. نصرٌ أو شهادة. إنه الطوفان و الجلمود في آنٍ واحدٍ، في تضادٍ مع الطبيعة و مع العروبة الحديثة التي أصبحت وأمست غثاءً في سيلٍ. نسألُ عن الصلصال الذي خلق اللهُ منه المقاوم و صلصالنا المخادن؟ ما الفرق بين من لا يهادن، و من يصالح و يهادن و يرحب و يصافح؟ إن الفرق هو في القوة التي وُلدت من الاحتلال. الاحتلال الذي أذاق الفلسطيني الويلات خلق من حيث لا يدري و لا يريد قوةً في الفلسطيني ستنتزعهُ من فلسطين. ليس الحل للغثاء العربي أن يُستعمرَ العرب لا سمح الله ليقووا، بل في الاقتداء بمن هو قوي بذاتهِ، من المقاوم. مِنْ هجرِ المعاهدات
و العودة للعهد الإلهي: إن تنصروا الله ينصركم. صعبةٌ هذه المعادلة؟ يبدو أنها كذلك لعربِ اليوم و مسلميه الذين يفعلون المستحيل لينصروا عدوهم على أنفسهم. غُثاءٌ وخطابٌ فارغٌ و بأسٌ بيننا و علينا هو العربي اليوم باستثناء المقاوم. و سينصره الله. قولوا آمين.
*كاتب أردني ودبلوماسي أُممي سابق

Exit mobile version