خالد عياصرة*
لا يوجد شيء يتعب العقل الإسرائيلي أكثر من ” الذاكرة ” التاريخ دوما يسير صوب ” الكشف ” مهما حاول السدنة إظهار الوجه الجميل له، كما لا يوجد شيء يفرح إسرائيل أكثر من سقوط التاريخ – لا نهايته – حولها باعتبار سردية روايته واحدة تسرد فيه – إسرائيل – سيرتها وحكايتها الدينية والأسطورية والعنصرية و الاقصائية.
لكن السياسي في الشرق – العربي – يملك اصرارا اعتيادياً في التعامل مع “العدو” من اللحظة لا من الفكرة، رغم انه محبط ومصاب بالملل، لا يمتلك عبقرية التفاوض والصبر، يصر على مخاطبة ” العدو ” ككل متماسك واحد، لا متعدد متنوع متصارع، يراه مرعباً، فيما يرى العدو ذاته مهددة في بحر من محيط بدأ وكأنه يعيد النسق لحركته التاريخ، لا على مستوى الإقليم الجغرافي بل العالم.
هذا النسق المتجدد، لم يحرف مسار السياسي – الأمني كما العسكري – إذ مازال مصراً على فعله، رغم أن أحادية نظرته أخذته إلى أسطرة السيرة، إسرائيل في مخياله “كيان” متماسك، قراراته ذو مشرب واحد، لكن عند تعامله المباشر يجده متعدد الأذرع والعقول، فتنقلب نظرة الحمل الوديع الى ذئب مفترس، يجند من خلاله هؤلاء وكأنهم جزء يتسق مع مشروعه.
فهل عقل السياسي الذي يقيم في تل أبيب، متخلف ومختلف جذريًا عن العقل المتواجد في القدس؟
السياسي – الشرقي – يعتقد أن الخطورة تأتي من شواطئ البحر المتوسط، فيما الحقيقة والخطر يأتي من جبال القدس، الأمر ببساطة، أنت أمام دولة داخل دولة متعددة الرؤوس – ميدوسا Medusa – علمانية في تل أبيب، ودينية في القدس، الأولى تسيطر على أجهزة الأمن والمخابرات، فيما الثانية تسيطر على الجيش الديني المتطرف، الأولى تعشق التفاوض الأبدي الذي لا ينتهي، فيما الثانية من رأسها يخرج الأساطير بكل ما فيها من تاريخ ومرويات ودمار واستعباد وسير وحكايات متطرفة، توجه العالم إلى إشعال حرب دينية، المطلوبة بشدة للخلاص!
وعليه، هل يجب على السياسي في المنطقة – خاصة الأردن – التفكير في استبدال طريقة التعامل لا الاسترسال مع الحذر من النظر – للعدو – مباشرة وإلا تحول إلى حجر سيما وأن قادة الأنظمة مازالوا يصدقون غواية ” بوسيدون ” وفي عين اللحظة ينتظرون ” بيرسيوس ” لقطع رأس الأفعى حتى يولد ” بيغاسوس ” المجنح، مع أن العدو ينظر لهم لا كأعداء بل كشركاء، مصيرهم مرتبط بمصير و وجود اسرائيل !
هذا الاستبدال يمهد الطريق لإعادة ” تموضع ” التفكير الشرقي الكلاسيكي القائم أساسا على العقيدة والحرب، والقائل بضرورة أسلمة السياسة، كدرع للرد و ردع ” العدو ” أسلمة لا تتهرب من تدشين الصراع والحرب الدينية ضدها إن أخذت لها.
أليست كل الطرق – حاليا – تقود لذلك – انظر إلى ما يجري في الضفة الغربية بكل تطرف – حتى في ظل الإنكار من كافة الأطراف؟ الجغرافيا قد تكون عامل لكنه جانبي، أما العامل الأساسي الذي يشغل الجميع يتجسد في الدين، الدين الذي يحرك الشعوب والأساطير والجيوش ويعيد ترتيبها حسب مساراته، مسارات تمهد بل تخلق حروب الجميع ضد الجميع: حروب مكتوبة على الغرب كله، لا لأنه يريد فرض سيطرته وسلطته الرأسمالية النفعية ما بعد الشاذة، بل لأنه يمشي ويعيد صياغة داخله، وهذا لا يصح إلا بخلق حروب تعطيه روح البقاء، حروب تعيد تشغيل وتشكيل مكانته و ماكنته الإقتصادية والسياسية والعسكرية والصناعية على حساب الإجتماعية والدينية والثقافية، لحفظ بقائه وإلا اشتعل داخله، وأدى إلى تقسيمه وسقوطه وربما احتلاله، احتلال يسقط معه مستعمراته المتقدمة و وظائفها.
هذه المنطقة من الجغرافيا تمثل ميزان العالم، لهذا كُتب على العالم أجمع النظر لرؤية ما ينتج فيها وعنها، فأثر الفراشة يطال الجميع، مصر في الشرق مثل اليابان في أقصى الخارطة، وجنوب أفريقيا مثل لبنان في قلبها، يطال نيكاراغوا كما يضع ألمانيا كمتهم أمام الجميع، فالعدالة تصنع ذاتها – بالدماء والأرواح – ومن هذه المنطقة يٌعاد تشكيل العالم من جديد، انطلاقا من فلسطين، حتى وإن بقي العالم الرأسمالي الغربي ينظر للصراع في كل مكان من عين المصالح المادية المكيافيلية والنفعية وما بعد الشاذة، لا من عقل الدين، فيما ينظر الشرق لكل ذلك من عين العقائد الجغرافية المقدسة، ربما لأن ايمانه الخفي يجعله مؤمنا بالوعد الحق !!!
*كاتب اردني