اليمن الحر الأخباري

فلسطين..ليتها كانت في أمريكا الجنوبية!

د. محيي الدين عميمور*
عشرات الرفقاء هتفوا لي متسائلين عن غياب طويل ظنوا أن سببه هو إحباط وانهيار نفسي أعيشهما نتيجة لوضعية “الدياثة “العربية التي تابعتْ بها مأساةَ غزة والأرضَ الفلسطينية أمةُ “مُهنّد”، التي كانت يوما أمة “محمد”، والتي ثبت أنها مصابة بما يُشبه “البرود الجنسي” عند النساء.
ولقد سمحت لنفسي أن أستعمل هذا التعبير بصفتي الطبية التي تعطيني حق استعمال كل المصطلحات التي تعبر عن تشخيص حالة صحية معينة.
وكنت استعملت هذا التعبير في مقال لي كتبته في منتصف الثمانينيات، في مواجهة أحداث عرفها الوطن العربي، وندّدتُ فيها بحالة ” التبلد واللامبالاة التي نعيشها، أكاد أقول جميعا، والتي لا مثيل لها في الحالات المرضية إلا حالة البرود الجنسي، الذي هو أساسا حالة نفسية لا عُضوية، لكنها تؤدي إلى نتيجة عضوية، حيث نجد أن الأنثى في سن الخصوبة يستثيرها من تُحبّ فتتفاعل معه، وقب أن تصل إلى قمة نشوتها يتخلى عنها الرفيق، ضعفا وخورا، أو أنانية وجهلا، فتكبت مشاعرها، حياء وعفة، لتنتظر محاولة أخرى، ولكن ما حدث يتكرر….مرتان …ثلاثة …أكثر، وفي لحظة معينة يتوقف تفاعلها ….تموت مشاعرها وتتجمد إحساسها وتتحول إلى رخام بارد كرخام القبور.
ثم قلت: كان يكفي في الخمسينيات أن يُلقى القبض على مناضل عربي حتى يلتهب الوطن والعالم معه”.
هذه هي الوضعية التي أوصلنا إليها من ركبوا الوطن العربي من المحيط إلى المحيط، وكانوا صورة حقيقية لما أصبح يُسمّى الاستعمار الوطني.
ماذا يمكن أن أقول اليوم وغزة هاشم أصبحت أطلالا دُفِن تحت أنقاضها عشرات الشهداء، وأبناؤها يموتون جوعا قبل أن يرتفعوا شهداء في حرب الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني، ومناورات الأشقاء مع الكيان وأنصاره أصبحت تزكم الأنوف وتثير القيئ، ولا يخجل ممثل جامعة الدول العربية من القول بأن القمة العربية في البحرين هي قمة عادية، وهي التي كان يجب أن تكون قمة استثنائية منذ شهور.
وهكذا، وفي الوقت نفسه الذي كانت غزة تُباد عرفت عواصم عربية احتفالات ساهرة يخجل منها الخجل، وتولت دول عربية تزويد الكيان الصهيوني بالأغذية والوقود، وربما بالأسلحة.
وكان السؤال: كيف يمكن أن يدعي عربي بأنه نجا من الإحباط، بينما هو يبلع قوت يومه وكأن الخبز زجاج مسحوق، وقطع الخضر أحجار مدببة، وأي شراب حتى الماء الزلال أصبح له طعم السوائل الحمضية.
وكيف يمكن أن يدّعي مسلم بأنه لا يُعاني من الإحباط بينما هو عاجز عن قيادة سيارته لأن الدموع تحول بينه وبين الرؤية.
هنا أجرؤ على القول بأنني توقفت عن الكتابة لأنني رغم كل شيء، أشعر بسعادة لم أعرفها يوما، وهذا التناقض في المشاعر وقف سدّا منيعا أمامي، كأنه معبر رفح في وجه قوافل الإغاثة العربية والدولية.
لم أكن أتصور أن يقرأ لي مجاهد مثل وائل الدحداح كلمات تُعبّر عن السعادة بعد أن دفن بنفسه كل أفراد عائلته.
لكنني شعرت فعلا بالسعادة وأنا أرى بداية تصدع الكيان الصهيوني الذي وصل العالم كله قبل السابع من أكتوبر 2023، ونحن قبله، إلى أنها واقع ثابت نهائي تحميه قوة قاهرة لا قبل لأحد بها، وإذا بالعالم كله يشهد أنها دولة عاجزة ويكتشف أنها كيان ديكوري يعيش على ابتزاز العالم الأوروبي ماليا وإنسانيا، وتعيش تمزقا داخليا لم تستطع كل الجيوش العربية تحقيقه خلال ثلاثة أرباع قرن، وحققته نخبة من المجاهدين الحقيقيين، يجرؤ أنذال الأمة على السخرية من لثامهم لأن ما حدث فضح الجيوش والعروش.
وكيف لا أشعر بالسعادة والسابع من أكتوبر 2023 أصبح عقدةً، لا عند الإسرائيليين فحسب بل عند القيادات الأوربية الأمريكية التي خدعتنا طويلا بأناشيد حماية مخلوقات رب العزة، التي تشمل حتى القطط والكلاب والفقمات، وإذا بكل المزاعم عن المشاعر الإنسانية تتساقط كأوراق الخريف، ويبدو السلطان عاريا، كما جاء في القصة المشهورة، وإذا بفضيحة التعامل بمكيالين تبدو واضحة يراها الأعشى في ظلام الليل.
وكيف لا أشعر بالسعادة وأنا أرى نظرات الاحتقار التي كان معظم الديبلوماسيين الدوليين في الجمعية العامة للأمم المتحدة يرمقون بها مندوب إسرائيل وهو يمزق قانون المنظمة الدولية التي لولاها لما كان لدولته وجود، ومن المؤكد أن ممثلي معظم دول مجلس الأمن كان يطأطئون رؤوسهم خجلا لأنهم لم يجرؤوا على أن يقولوا لمندوب الكيان الصهيوني: إحشم على عرضك.
وكيف لا أشعر بالسعادة وأنا أرى أن من كان الشمال يقدمه كرمز للدولة الديموقراطية القوية التي لا يغلبها غلاب تتحول إلى كيان يتسول الدعم ويستورد المرتزقة لحمايته من مجموعات بسيطة لا تملك طائرات ولا دبابات ولا أسلحة متطورة، أذاقته الويل ولم ينجح في القضاء عليها فراح ينتقم من الأطفال، ويعيد لأذهان العالم كله، ذكرى هيروشيما وناغازاكي ومذابح 45 مايو في الجزائر والمذابح الأخرى في ليبيا وإثيوبيا وناميبيا وبقية المستعمرات الإفريقية.
ولأن الدولة التي تمارس الانتقام بهذا الشكل الإجرامي تفقد احترامها كدولة، ويرمي العالم في مزبلة الادعاءات الباطلة اتهامات “معاداة السامية” التي كانت إسرائيل تهدد بها كل من ينتقد مارساتها، وهذا في حد ذاته إنجاز كان مجرد التفكير فيها حلما بعيد المنال.
من هنا، وبدون أن أحاول التستر على ما يعتصرني من ألم وما أشعر به من مرارة، أشعر بأنني سعيد وأنا أرى الدولة التي أنشأها مانديلا تقف في وجه العالم المنافق بكل شجاعة لتضع شكواها ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية، وهو ما كان أول الغيث الذي تلاه وابل دول من امريكا اللاتينية… البعيدة جغرافيا عن فلسطين بُعْدَ فلسطين إنسانيا عن قلوب معظم الساسة العرب والمسلمين.
وكيف لا أشعر بالسعادة وأنا أتابع تظاهرات الجامعات الأمريكية الأوربية التي تندد بإسرائيل، وترفع العلم الذي حاول الكيان محوه من الوجود الإنساني، وأتابع في الوقت نفسه عمليات القمع التي مارستها سلطة الأنظمة في أمريكا وإسبانيا وغيرها، والتي لا تختلف عن عمليات قمع مارستها أنظمة بعض الأشقاء ضد شعبها..
أكثر من هذا، كان من أسباب سعادتي اهتزاز صورة عروش كنا نراها قدرا لا مفر منه إلا إليه، فإذا بها مجرد سراب بقيعة، وكشفت مواقف الدياثة أن معظم أصحاب الجلالة والفخامة والسعادة هم مجرد خُشب مسندة، لا تختلف عمن أكلت دابة الأرض عصاه، وكان “ترامب “على حق وهو يذكرهم بأنه هو حامي الحمى، وبأنهم لا شيء بدونه.
وهنا نفهم لماذا يُحس كل عربي ناضل في سبيل حرية بلاده بالسبب الذي يجعل الملايين تتذكر بكل اعتزاز عرفت فيها الأمة رجالا مثل عمر المختار وسلطان الأطرش وهنانو وعبد القادر الحسيني وأحمد بن بله وجمال عبد الناصر وهواري بو مدين وسعود وفيصل بن عبد العزيز ومحمد الخامس وعبد الكريم الخطابي وإسماعيل الأزهري وعبد الرحمن عزام، بل وصدام حسين ومعمر القذافي وآخرين كان مجرد وجودهم يجعل العربي قادرا على النظر لأي مخلوق في عينيه مباشرة.
ولا أجد ما أعبر به عن واقع قيادات حالية كثيرة إلا أن أذكر بتعبير قاله الجنرال شارل دوغول عن الرئيس لوبران، رئيس الدولة الفرنسية في فجر الاحتلال النازي.
قال الجنرال: رئيس دولتنا ينقصه أمران، أن يكون رئيسا وأن تكون هناك دولة.
لكنني، وسعادتي تختنق بالمرارة والألم، أعتذر عن مجرد استعمال كلمة السعادة لشعب فلسطين، ولضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وخصوصا للصغار الذين لم يفتهم أن يكتبوا أسماءهم على أجسادهم ليمكن التعرف عليهم عندما يرتقوا كشهداء.
ولن أقول: ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا، بل أقول: الحمد لله الذي جعلني أعيش بداية نهاية الكيان العنصري، وهي آتية لا ريب فيها، تماما كما كانت نهاية الدول الصليبية على أرض فلسطين.
ولقد كنت حذرت بعد 7 أكتوبر من الانتقام الجنوني الصهيوني لكن القوم كانوا سكارى وما هم بسكارى، وأقول اليوم إن ما حدث قد حدث، والخوف الأكبر هو ما يكن أن يحدث وما يخطط له الصهاينة وحلفاؤهم العرب، وهو بناء غزة بدون روح غزة، أي محو القضية الفلسطينية نهائيا وإقامة ديكور يحمل اسم فلسطين بدون أن تكون فيه روح فلسطين وإرادة فلسطين، شئ يشبه دولة حكومة فلسطين التي كان يُطلق عليها حكومة عموم غزة، وهي لم تكن لا هذه ولا تلك، بل كانت خطوة استكمل بها تقسيم فلسطين بين إسرائيل ودول عربية، ليختفي اسم فلسطين إلى الأبد..
ذلك هو المخطط القادم.
*كاتب ووزير اعلام جزائري سابق

Exit mobile version