اليمن الحر الأخباري

النفاق السياسي!

د. أنيس الخصاونة*
عرف عن الأردنيين جديتهم وصراحتهم وقولهم وخطابهم المباشر دون مواربة أو ممالئة مقارنة ببعض إخواننا من جنسيات عربية أخرى لدرجة أصبح يعرف الأردنيون العاملون في دول الخليج أنهم يصلحون للعمل في الوظائف المالية والاستشارية التي تحتاج إلى أمانة وصدق ووضوح وصراحة في حين أنهم ربما يكونوا أقل ملائمة لوظائف العلاقات العامة التي تحتاج إلى قدر من المجاملة واللين والبروتوكولية في الخطاب لإرضاء الزبائن وأرباب العمل . والحقيقة أن مثل هكذا خصائص هي إيجابية ومبعث فخر واعتزاز للكثير من الأردنيين ناهيك عن أنها منسجمة مع ونابعة من قيمنا العربية والإسلامية الأصيلة التي تدعوا إلى الصدق وقول الحق في التعامل مع الآخرين والنأي عن الممالئة والتزلف .
الصورة ربما تصبح شيئا ما مختلفة عندما نتحدث عن العمل السياسي والتعامل مع أولي الأمر والمسئولين إذ نلحظ انتشار التزلف والتقرب والمديح المفرط لمن يتولى أمورنا ووزرائنا ومسئولينا وأحيانا مديحا بما ليس فيهم كما يلمس كثير من الأردنيين أن البعض لديهم خطابات متعددة لنفس الموضوع ولكن في مقامات ومقالات مختلفة يقولون فيها أشياء متناقضة ومتعارضة وينطبق عليها خطابات المناسبات . بعض المتزلفين “والمسحجين” ينقلبون على مواقفهم وزملائهم وأحيانا أحزابهم ويتأرجحون بين الشيء ونقيضه وآخرون يتحدثون عن الوطن وخدمة الشعب والأداء والإخلاص والتفاني في الوقت الذي يظهرون فيه أدنى درجات الإخلاص والتفاني في خدمة الوطن . ملفت للنظر ومثير للدهشة أن تسمع بعض من يتم مقابلتهم من قبل التلفزيون الرسمي أو من يتحدثون من خلال وسائل الإعلام الحكومية يقولون أشياء ويظهرون مواقف محددة تجاه قضايا سياسية وانتخابية وإصلاحية ثم ما يلبثون عقب انتهاء المقابلات من إظهار مواقف عكسية ومضادة رأسا على عقب لما صرحوا به وعند سؤالهم عن هذا التناقض بين ما يقولون وما يعتقدون ويؤمنون به يجيبوك بأن ذلك للإعلام ولا يستطيعون التضحية بمستقبلهم ومصالحهم وامتيازاتهم أو تعريض سجلاتهم الأمنية للاستفهام والشك.
التزلف أو ما اصطلح على تسميته محليا” بالتسحيج والمسحجين ” موجود في كل دول العالم لكن وجوده أكثر نطاقا وأكبر اتساعا في الدول غير الديمقراطية أو الأقل ديمقراطية في حين يقل نطاق هذه الظاهرة في الدول الديمقراطية التي لا داعي للنفاق والتزلف للقيادات السياسية والمسئولين فيها لأن مصدر شرعية القيادات من الشعب ومن صناديق الاقتراع التي تتيح للناس تغيير المسئول ومسائلته لا بل ومحاكمته إذا ما أساء استخدام السلطة المناطة به. أما في الدول التي ما زالت أقرب إلى الدكتاتورية منها إلى الديمقراطية فإن الحاكم والمسئول والوزير ومدير الدائرة يدين بالولاء للجهة التي عينته في موقعه وهذه الجهة قد تكون واسطة أو محسوبية مما يقتضي منه تملق رؤسائه والإفراط في مديحهم والتزلف لهم من أجل المحافظة على موقعه واستمرار امتيازاته. هذه الظروف كلها تهيئ الناس لتقبل النفاق السياسي واعتباره “فهلوه” وحنكة لدرجة أنه يصبح سلوكا مؤسسا ومقبولا من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
الوضع في الأردن لا يخرج عن السياق العام الذي تم الإشارة إليه ولعل شيوع استخدام مصطلح التسحيج في الأردن دلالة على التزايد في هذه الظاهرة المقلقة وخصوصا في المجال السياسي حيث مدح المسؤولين على “الطالع والنازل” والموظفين في دوائرهم وبلدياتهم يصرحون بأنهم يعملون بناءا على التوجيهات العليا مقتدين بذلك برؤساء الوزراء والوزراء والمدراء الذين لا ينفكون عن التذرع بأن كل شيء يقومون به جاء بناءا على التوجيهات العليا وكأن الوظائف التي يعملون بها لا يوجد لها وصف وظيفي يحدد لهم ما ينبغي القيام به مقابل الأجر الذي يتقاضونه.
أسباب هذه الظاهرة تكاد تكون في مجملها سياسية بامتياز فالنظام السياسي كان تاريخيا وما زال إلى حد كبير يحب ويطرب للمديح ويعتبره مؤشر ولاء وإخلاص له كما أنه ينظر للمعارضين والناقدين نظرة سلبية ويعتبرهم مزعجين على الرغم مما يعلنه النظام من احترامه للمعارضة. فالنظام السياسي نفسه يسلك سلوكيات متناقضة حيث يقول كلاما علنيا وطيبا عن المعارضة في حين أن تصرفاته وأفعاله تنم عن انزعاج من هذه المعارضة ناهيك عن محاولات الالتفاف عليها ومحاصرتها وعزلها واستعداء الشعب عليها. المقلق في الموضوع ليس فقط تزايد حجم هذه الظاهرة في الأردن ولكن تنامي الاتجاه القمعي لمن اصطلح على تسميتهم “بالهتيفة والسحيجة” الذين ينبرون لأي ناقد سياسي أو صحفي أو معارض بالتشكيك والطعن والعمالة والتخوين والتعريض بمقاصده وانتماءه وما نسمعه في المجالس السياسية ومن الحوارات والتعليقات والآراء القاسية والشتائم عل المقالات الصحفية إلا دليلا على تعمق هذا السلوك وتجذره في الثقافة السياسية الأردنية. بعض المسحجين ليس لهم موقف سياسي لا بل ليس لديهم رؤى أو قناعات أو مسوغات تدعم موقفهم المؤيد للنظام أو الناقد للمعارضة وكل ما يعرفونه هو أنهم مؤيدين للنظام على الرغم من أن أوضاعهم الاقتصادية والسياسية والمعيشية لا تسر صديق ويعتقدون أن المعارضة عميلة وخائنه للبلد ولكن دون أن يكون لهم سندا في ذلك.
مصطلح “التسحيج” دخل في القاموس السياسي الأردني والمسحجين يزدادون على شكل متوالية هندسية وهذه الظاهرة مرشحة لمزيد من الانتشار والتجذر إذا استمر النظام السياسي في مكافأة “المسحجين” والممالئين له عبر منحهم الامتيازات والمكافآت المالية وتعيينهم في المواقع القيادية في الدولة والجامعات والسفارات ومجالس إدارة الشركات ومجلس الأعيان في الوقت الذي يستبعد المعارضين ويتم محاصرتهم واستعداء الشعب عليهم . النفاق السياسي آفة مرعبة ومدمرة للقيم وضارة بالمجتمع وممزقة لنسيجنا الاجتماعي ولا علاج لها إلا بالديمقراطية وسيادة القانون والشفافية والمسائلة للمسئولين مهما علا شأنهم وارتفعت مواقعهم . النفاق السياسي “والتسحيج “ظاهرة أسبابها سياسية ومعالجاتها ينبغي أن تبدأ بسلوكيات سياسية واضحة من القيادات السياسية العليا عن طريق إظهارها احتراما متساويا للمؤيدين والمعارضين ووقوفها على مسافة واحدة من الفئتين دون منح امتيازات للمادحين والمتزلفين الذين يعولون كثيرا على مهاراتهم في تشنيف آذان القيادات السياسية والمسئولين للحصول على مكتسباتهم وامتيازاتهم التي لا يستحقونها.
*كاتب اردني

Exit mobile version