اليمن الحر الأخباري

ماذا يحكي غبار النجوم؟

خالد شــحام*
لطالما كانت النجوم البعيدة جاذبة لآنظار البشر على مر التاريخ نظرا لنورها وحضورها بعد غياب الشمس وكذلك لبعدها وغموضها وسحرها الخاص ، لكن سيتبين لكم بأن النجوم قد تكون حاضرة أمام ناظريك أو قربا منك .
تقول الأفكار العميقة بأننا جميعا مجرد غبار للنجوم القديمة جدا ، مجرد غبار تكاثف في خطة ربانية ليصير بشرا وأرواحا تتنقل في ثوب من لحم ودم ، أفكار العلم لم تستطع إلا أن تؤكد هذه الحقيقة العجيبة التي لا يصدقها الكثيرون.
في أعماق الفضاء السحيق يكون عنصر الهيدروجين الغازي هو أساس كل شيء ، تقوم النجوم بطهي الهيدروجين وعجن ذراته معا لتنتج منها عنصر الهيليوم ، وبعجن الهيليوم وخبزه مع بعضه البعض تتوالد العناصر الأثقل مثل الكربون والاكسجين والنيتروجين ثم الحديد والنحاس وغيرها حيث تستخدم الذرات الأصغر لبناء تلك الأكبر ، هذا الحدث العلمي المجرد هو حدثٌ بالغ القسوة ومفرط الطاقة وموغل في القدم بما يفوق تصور أي عقل واعٍ ، عندما تستعر النجوم بفعل عمليات الخبز والشوي تلك فإنها تتفتت كل يوم وتلقي غبارها في أرجاء الكون المجهول مثل امرأة تنثر جمالها ذهبا في الفضاء ليعمر هذا الكون الخاوي الصامت ، وعندما تختتم النجوم حياتها تُنهي ذلك في كَبَـد وتنفجر بأقصى ما تمتلك من قوة لتمزق محتواها من العناصر والمركبات وتلقي بها بعيدا جـــدا وتضيف المزيد من الغبار إلى هذا الفضاء المترامي واللامنتهي ، هذا الغبار السحري المكنوس هو أساس كل شيء بلا منازع.
إذا وفي خلاصة الحكمة فما نحن سوى كائنات حية جديدة عمرها بضع عشرات من السنين ولكنها لسخرية القدر مؤلفة من غبار عمره يفوق المليارات من السنين وهذه الغبار يقود نفسه في عملية تدوير لا تنتهي أبدا ليحمل روحا في يوم ما ثم يحمل روحا مختلفة في زمن آخر وروحا ثالثة ورابعة ، بعد مئات او ألوف من سنين يصبح من الصعب أن نعرف او نفهم كيف يمكن لغبار نجمي في جســد ما ان يحمل ألوف الارواح التي سكنته في رحلة الدوران العجيبة ، فقط وحدها المنطقة المجهولة بين العلم والخيال هي التي يمكنها فتح البوابة بين عالمين متضادين من العقلانية في هذا المجال وفهم انتقال الروح بين ذرات الغبار وارتدائه مرة تلو المرة .
بالمناسبة هذه ليست مقالة علمية ، بل هي جرعة سرية المفعول أسوقها إليكم لتذهبوا في رحلة كمومية أكثر قيمة من التحليل والرؤية والهراء السياسي الذي يدمنه عشاق هذه الزاوية ، هذه المقالة هي ناتج من التفاعل الاندماجي بين العلم مع ذرات الأدب الموجوع سياسيا لتنظروا بعمق أكبر في عتمات السديم العربي و فيما يجري في غزة التي تحولت إلى السوبر نوفا الأرضي والذي سيغير شكل المنطقة بالكامل حيث تستعر كل يوم أكثر لتشرق شمس جديدة لكل العرب .
هذا يعني في سياق الحقيقة أننا نتعامل كل يوم مع نواب عن النجوم أو خليط من هذه النجوم في شكل واحد والغبار لا يمكنه نسيان اصله ، بعض الأشخاص حين تلتقيهم تشعر بأن جينات النجوم لم تحترق أبدا بداخلهم بل بقيت حية وتزهر وتمتلك جاذبية مغناطيسية خاصة ورنينا تردديا جميلا تقع في سحره وعظمة وجوده حالا دون قيد أو شرط ، بعضهم يكثر فيها الغبار الرمادي الذي يخفي جوهرا حيا متوهجا لكن الاحداث والاحزان وسوء الحظ غطى وجهها بشيء من الرمادي وتكفي مسحة واحدة ليظهر النور الحقيقي ، بعض هذه النجوم البشرية لم تأت إلا من رماد المستعرات العظمى أو الثقوب الكونية وربما لا يحملون في نهاية أرواحهم سوى الخراب والدمار.
في بلاد العرب التي اعتقل فيها الحراس ضياء النجوم ودفنوا غبارها بين الأوساخ والرماد رحل الضياء والتوهج من مساحات واسعة في المجرة الأرضية ، لكن هنالك مساحات لا تزال تتقد ، في الشرق والغرب ، اذهبوا إلى لبنان لتشاهدوا سماءا جديدة تضيء فيها نجمات التحرر لكل العرب ، اذهبوا إلى اليمن لنكتشف غبارا نجميا يتجمع من جديد ليصنع النجم العربي من جديد الذي يضيء نوره عتمات بحر العرب ويضرب بشرره المقدس نحو الارض المقدسة.
سنأخذكم في رحلة مع غبار النجوم الخاص في غزة حيث يمكنكم التجول كل يوم مع قطع الأخبار بين الخرائب والدمار والأكفان البيضاء التي أصبحت أيقونة سنة القتل الاسرائيلية التي نعاصرها ، في داخل شوارع غزة يمكنكم الإلتقاء بطفلة صغيرة تحمل أشياء مجهولة حزينة تسير بصحبة ما بقي من أمها ، مذهولة من صوت القصف ومرعوبةً من فكرة الحياة ، يمكنكم مسح الرماد عن وجهها المشرق كي تعرفوا حكاية غبار نجمي حديث تشع بالطهر والبراءة وتمنح بسمة للعالمين ورحيقا للصابرين ، تحت الوجه الحزين للأم يمكنكم لمح ميلاد نجمي مبشر ، نور على نور ، والله يهدي بنوره من يشاء !
تجولوا بعيدا في غزة والتقوا بخيمة صغيرة يعلو فيها حديث الصغار وصيحاتهم ، افتحوا الخيمة وتعرفوا على غبار نجمي لو أقسم على الله لأبره ، صغار يتعلمون دروس العربية والحساب والبقاء على قيد النجومية في وقت تنطفىء فيه كل نجوم العالم أمام بريق هؤلاء ، نجوم تتحمى لتصعد من بين الموت وفتات الحياة التي خلفها جيش المخربين المجرم .
تعالوا نأخذكم داخل خرابات غزة لتلتقوا بأحد كبار السن ، غبار نجمي يتمثل بشرا سويا يلهو قرب الموت بالبسمات ويحكي لكم بأننا هنا باقون حتى لو تحولنا إلى رماد مرة أخرى لأننا سنعود مرة ثانية وثالثة ورابعة في غبار نجمي آخر على شكل مقاتلين ومقاومين لا يحني عزيمتهم شيء ولا أحد .
في داخل غزة يمكن لكم السير قليلا والتوجه إلى مخيم جباليا او اذهبوا إلى رفح أو النصيرات أو أسماء السدم الجديدة ، في جباليا تحديدا دخل جيش من مؤلف من سخام ، زبالة السُدم التي لم تتمكن من التحول الى نجوم أبدا ، مجرد كتل مدمجة من نفايات فضائية تجمعت من تلاحم غاز المستنقعات مع فضلات عضوية دنيئة الرائحة أنتجت كائنات من إجرام ووساخة وانحطاط لا مثيل له ، دخل ليواجه مستعرات عظمى ، في جباليا يمكنكم هنالك معاينة نموذج مخلوق من غبار نجمي لا نظير له في كل هذا الكون ، مخلوق من غبار لكنه يحمل النار بين يديه ليدافع عن كرامة الأمة بأكملها من النهر إلى البحر ، ربما كان هذا الغبار النجمي يحمل ذات يوم روح صلاح الدين أو عبد القادر الحسيني أو عز الدين القسام ، امسحوا قليلا بعض التراب والرماد عن وجهه وأغمضوا أعينكم بحضور هذه الوجوه النورانية لأن وهجها يخطف الأبصار ، كائنات نجمية تحمل بندقية أو قاذفة صاروخ صغير نورها يطغى كل عهر الشرق وأضواء حفلات السهر حتى الصباح .
فلنذهب إلى شاشات الأخبار لتتعرفوا غبارا نجميا من نوع آخر ، حيث يطل علينا مجرم من المجرمين الناطقين بالعبرية أو ناطقي العبرية باللهجة العربية ، تعرفوا على كتل من أوساخ قاتمة جاءت من نجمات متقزمة مصيرها معتم جدا انطفأت من فرط وحشيتها والتهامها لأجساد النجوم الأخرى ، تعرفوا على ثقوب سوداء ملعونة في الذكر وبين الذاكرين ، ثقوب سوداء لا امل فيها لشيء ولا حياة ولا بريق ، بالوعات تسرق من نظرك بهجة الحياة وتشعرك بالسوء عند رؤيتها وتشعر معها بأنك تتقلص وتنكمش وتكاد الأرض أن تبتلعك من شدة قبح إطلالتها وعباراتها التي تشعرك بالتقزز والرغبة في التقيؤ.
لنختم زيارتنا النجمية إلى رفح أو خانيونس أو البريج أو أي مكان في داخل غزة حيث يمكنكم الالتقاء الباذخ بغبار نجمي لنجوم زرقاء وبيضاء وأخرى حمراء ومن شتى الألوان المبهجة ، كلها تُرى في صبايا وسيدات غزة الجميلات ، بطولة وصبرا وايمانا وجمالا ، هذا الغبار النجمي الفائق هو الذي انتج المقاتلين وصانعي المعجزات ، بعض هذه النجوم حين تراها لا يمكن سوى الاستجابة لقوانين فيزياء الحب الكامن فيها وحين تصنع هذه النجوم شيئا اسمه الابتسامة فعلى نجمك أن يشتعل من جديد .
*كاتب فلسطيني

Exit mobile version