اليمن الحر الأخباري

ماذا في جعبة بلينكن؟!

د.رجب السقيري*
يأتي وزير الخارجية الأمريكي طوني بلينكن إلى الشرق الأوسط هذه المرة ، وهي الثامنة في سلسلة زياراته المكوكية منذ عملية طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي ، وتشمل كلاً من مصر وإسرائيل والأردن وقطر ، وفي جعبته ملفٌ ثقيل ربما يتأبطه كارهاً أو متثاقلاً نظراً لما فيه من تعليمات مشددة من رئيسه جو بايدن الذي يساوره القلق حول ما ستؤول إليه الانتخابات الأمريكية القادمة في ظل التحولات في الرأي العام وحراكات شباب الجامعات الأمريكية بسبب دعم بايدن اللامحدود لإسرائيل ، وكذلك نظراً للظروف الصعبة التي تحيط بالشرق الأوسط حالياً في ظل المذبحة الإجرامية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة والتي أدت إلى استشهاد 274 فلسطينيا وجرح حوالي 700 من أجل استرداد أربعة أسرى إسرائيليين وفي ظل تبني مجلس الأمن أمس الإثنين قراراً يعكس ما تضمنه اقتراح الرئيس الأمريكي جو بايدن وما يحمله ،على علاته ، من آمال عريضة حول وقف حرب الإبادة التي يشنها على غزة بنيامين نتنياهو وحكومته الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة الصهيونية. إضافة إلى ذلك ، تأتي زيارة بلينكن بينما تشهد إسرائيل توترات سياسية جعلت حكومتها على كف عفريت بعد أن انسحب من مجلس الحرب التابع لها كلٌ من وزير الدفاع السابق غانتس ورئيس الأركان السابق آيزنكوت مما أسال لعاب وزير الأمن القومي المتطرف بن غفير وجعله يطلب من نتنياهو الانضمام إلى مجلس الحرب ، مما أفقد نتنياهو صوابه ووضعه في ظرفٍ لا يحسد عليه.
مهمة بلينكن
يأتي بلينكن وفي نيته ممارسة أقصى ما يمكن من ضغوط على الوسطاء العرب وبالذات مصر وقطر بهدف إجبار حماس على قبول مقترح الرئيس الأمريكي الذي يتماهى ، كما يقول بايدن ووزير خارجيته ، مع الاقتراح الذي كانت حماس قد قبلته سابقاً . أما عندما يخاطب بايدن أو بلينكن إسرائيل فإنهما يصفان الاقتراح المطروح على أنه مطابق لما اقترحته تل أبيب سابقاً . وقد التقى بلينكن أمس والوفد المرافق له الرئيس المصري ولم يرشح عن اللقاء سوى أن الأخير قد أكد للوزير الأمريكي حرص مصر على وقف حرب الإبادة وعلى تسهيل وصول المساعدات إلى الغزيين . أما في قطر فقد تواردت الأنباء حول نوايا بلينكن الضغط على قطر وإقناعها بضرورة طرد القيادة السياسية لحماس من الدوحة إذا لم تقبل الاقتراح الأمريكي .
في إسرائيل حاول بلينكن تسويق اقتراح رئيسه بايدن عن طريق إقناع نتنياهو بأن قبول الاقتراح سيؤدي إلى الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية إضافة إلى أنه سيؤدي أيضاً إلى وقف الأعمال العسكرية في الجبهة الشمالية وعودة النازحين الإسرائيليين إلى مستوطناتهم وعدم توسع الحرب وهو ما يخشاه نتنياهو رغم ما يردده يومياً عن استعداده للحرب مع حزب الله ولكنه يعرف ما يمكن أن تصاب به الدولة الصهيونية من دمار إذا توسعت الحرب واستخدم حزب الله جزءاً ، ولو يسيراً ، من ترسانته الصاروخية التي يقدر حجمها بحوالي مائتي ألف صاروخ .
قرار مجلس الأمن الجديد
لكثرة ما استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد قراراتٍ في مجلس الأمن حمايةً لإسرائيل تخيلت وأنا أتابع التصويت على شاشة التلفاز أنها ستستخدم الفيتو هذه المرة أيضاً لإجهاض مشروع القرار الذي تقدمت به هي نفسها إلى المجلس ، ولكن الله سلَّم .
يرحب القرار بمقترح وقف إطلاق النار “الذي كانت إسرائيل قد قبلته” ويدعو حماس إلى قبوله كما يحث الجانبين على تنفيذ جميع بنوده دون تأخيرٍ ودون شروط . وعلى خلاف ما توقع بلينكن الذي ردد قبل الشروع بجولته وأثناء الجولة ، لكن قبل أن يصدر قرار مجلس الأمن أن حماس تتحمل مسؤولية فشل اقتراح إنهاء الحرب وأن الكرة في ملعبها ، مما يدل على أنه قادم وكله عزم على تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية فشل الاقتراح سواءً قبلته أو رفضته ، ولم يتطرق أبداً إلى قبول إسرائيل أو عدمه .
رغم ما في القرار من مثالب ونقاط ضعف وغموض كما قال مندوب روسيا في المجلس الذي امتنع عن التصويت ، إلا أنه أي القرار يحقق ، ولو نظرياً حتى الآن ، أهم المطالب الرئيسة للمقاومة الفلسطينية . وهي وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى والانسحاب من قطاع غزة وفتح المعابر لإيصال المساعدات إلى أبناء القطاع ثم البدء في الإعمار.
أما بالنسبة لما فيه من غموض خاصة بعد المرحلة الأولى فلعل أهم ما جاء في القرار ، وهنا نلمس الأثر الإيجابي للتعديلات التي أتوقع أن وفد الجزائر ، العضو العربي في المجلس ، قد أدخلها على مشروع القرار الأمريكي ، هو ما جاء في الفقرة التي تنص على أنه “إذا استغرقت المفاوضات أكثر من ستة أسابيع في المرحلة الأولى فإن وقف إطلاق النار سيستمر طالما استمرّت المفاوضات”
هذا الشرط لن يتيح لإسرائيل استئناف القتل والمذابح إذا لم تسفر المفاوضات غير المباشرة عن نتائج ملموسة حول العديد من التفاصيل مثل عدد الأسرى الذين سيتم تبادلهم ومدى انسحاب القوات المعتدية وتعريف بعض المصطلحات الواردة في القرار مثل المناطق الآهلة بالسكان وما إلى ذلك .
بناءً على ما تقدم حسبما يرى كاتب هذه السطور فقد جاء ترحيب حركة المقاومة الفلسطينية بالقرار حيث قالت في بيانٍ أصدرته أمس أنها “مستعدة للتعاون مع الأخوة الوسطاء للدخول في مفاوضات غير مباشرة حول تطبيق هذه المباديء التي تتماشى مع مطالب شعبنا ومقاومتنا” .
أخيراً وخلاصة القول يأتي السؤال الأهم في كل هذا الحديث وهو هل ستقبل حكومة نتنياهو هذا القرار ؟ وإذا قبلته هل ستنفذه بحذافيره وبأمانة ودقة وحسن نية ؟ والجواب أن تاريخ هذه الحكومة وكل حكومات إسرائيل حتى تلك التي كنا نحسبها معتدلة ، لا يشجع على أي تفاؤل بهذا الخصوص ، فأرفف الأمم المتحدة وأدراجها وخزائنها مليئة بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من أجهزة المنظمة الدولية التي راوغت تل أبيب وماطلت ورفضت تطبيقها مسترخيةً ومتمتعةً بالحماية التي توفرها لها واشنطن .
ومع ذلك، ومع أن الشيطان في التفاصيل نقول ربما يتوقف الجواب حول انصياع تل أبيب وتنفيذها للقرار الجديد المقدم من حليفتها الكبرى يتوقف على عوامل متعددة أهمها ما ستؤول إليه حكومة نتنياهو بعد استقالة غانتس وآيزنكوت وفي ظل تهديدات الوزيرين الأكثر تطرفاً بن غفير وسموتريتش بالانسحاب من الحكومة إذا وافق نتنياهو على وقف إطلاق النار ، وعندها سيتحجج هذا الأخير بأن حكومته قد انهارت وأن عليه إعادة تشكيلها قبل أن يفكر بتنفيذ قرار مجلس الأمن، وكذلك في ظل ما تسفر عنه زيارة بلينكن الذي حمل معه ملفاً آخر وهو التفاوض بشكل أحادي مع حماس على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأمريكية وعددهم خمسة ، لكنه أي بلينكن لم يذكر مقابل ماذا.
وهنا يعتقد كاتب هذه السطور أن الوزير الأمريكي ليس جاداً في هذا الأمر رغم أنه لو تحقق فسيؤدي خدمةً ولو طفيفة لرئيسه بايدن في الانتخابات الرئاسية ، ولكني أكاد أجزم بأن هذا المسار يقصد به ممارسة بعض الضغط (ولو بعصا من حرير) على نتنياهو كي يقبل بالمقترح الأمريكي الذي اتخذ الآن شكل قرارٍ لمجلس الأمن.
بقي أن نقول أنه في سياق سياسة العصا والجزرة فقد حاول بلينكن وسيحاول مجدداً إغراء رئيس الوزراء الإسرائيلي بأمرين لجعله يقبل بالمقترح الذي تحول إلى قرار وهما عدم توسع الحرب وتوقف الأعمال العدائية مع حزب الله في شمال فلسطين المحتلة، إضافة إلى الجهود التي تبذلها واشنطن من أجل التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ، علماً بأن هذه الجائزة الأخيرة التي تعدها واشنطن لمكافأة الدولة العبرية ليست ممكنة حتى الآن رغم أن واشنطن تقترب من تحقيق اثنين من الشروط الثلاثة التي تطلبها السعودية وهما معاهدة الحماية والمفاعل النووي . لكن تبقى العقبة الكأداء أمام هذا التطبيع المزعوم هو الشرط السعودي الثالث وهو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية، وهو شرط لا تستطيع واشنطن أن تضغط على حليفتها الصغرى لتحقيقه وأن الجناح اليميني الأكثر تعصباً في حكومة الليكود الحالية والمتمثل في بن غفير وسموتريتش لن يقبلا بذلك . وقد صرح سموتريتش في مؤتمره الصحفي يوم أمس أن “ما يجري من تحركات، في إشارة ربما إلى زيارة بلينكن والمقترح الأمريكي، سيؤدي إلى توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حكم السلطة ثم إقامة دولة فلسطينية في قلب إسرائيل وهو أمر مرفوض من قبل أغلبية الشعب الإسرائيلي” وعليه وفي ظل ما تقدم فإن التنفيذ الكامل للقرار العتيد لمجلس الأمن قد يصبح في مهب الريح . والله من وراء القصد .
*سفير سابق لدى الأمم المتحدة /جنيف

Exit mobile version