العميد. محمد الحسيني*
لطالما شكلت الجزيرة القبرصية عبر التاريخ هدفًا جيوستراتيجياً لغزاة بلاد الشام ومصر لا تكتمل فصوله إلا عبر احتلالها والسيطرة عليها وذلك لموقعها الجغرافي المميز في البحر المتوسط بين قارات العالم القديم الثلاث، ما جعلها مسرحًا للصراع الطويل بين الشرق والغرب وبالتالي بين العالمين الاسلامي والمسيحي. هذه المميزات جعلت من الجزيرة موطئ قدم وقاعدة عائمة للغزو الخارجي من الإغريقيين، إلى المصريين القدماء، إلى الاشوريين، فالفرس، فالمقدونيين، فالبطالمة، إلى الرومان، والبيزنطيين… وصولاً الى الفتوحات الاسلامية…ومن ثم جاءت الحملات الصليبية المتتابعة على بلاد الشام، حيث اصبحت قبرص أخطر وأهم ميناء متقدم للاوروبيين الصليبيين بغية الوصول الى سواحل هذه البلاد على البحر المتوسط وقاعدة عسكرية ترفد وجودهم في الشرق بالرجال والعتاد…إلى أن استولى العثمانيون على الجزيرة سنة 1571 على يد السلطان سليم الثاني، فخضعت الجزيرة بالتالي للسلطنة العثمانية شأنها شأن كافة دول المنطقة، حتى وقعت الحرب الروسية – العثمانية في البحر الأبيض المتوسط في العام 1878 حين طالب الروس المسيحيين اليونانيين الأرثوذكس الانضمام اليهم في محاربة الدولة العثمانية، فحاولت قبرص الموازنة بين دعم العثمانيين بالحبوب، ومن ناحية أخرى عدم معارضة الإمبراطورية الروسية بأن رفدتها بالمقاتلين بناء لرغبتهم، وبعد هزيمة العثمانيين في هذه الحرب، جرى الأعلان رسميًا في 9 يوليو 1878 عن اتفاقية القسطنطينية التي أسندت بموجبها السلطنة العثمانية ملكية وإدارة قبرص إلى بريطانيا العظمى، على أن توافق المملكة المتحدة بالمقابل على دعم الدولة العثمانية في حربها مع روسيا…
خضعت من بعدها قبرص للاستعمار البريطاني حتى العام 1960، حين توصل الفريقان البريطاني والقبرصي الى اتفاق بأن تصبح قبرص جمهورية مستقلة تنضم إلى دول الكومنولث، وعلى دستورٍ للبلاد أهم ما جاء فيه ثنائية الطائفتين المسيحية والإسلامية في الحكم، وبالمقابل تحتفظ بريطانيا بقاعدتين عسكريتين هما “أكروتيري” في جنوب غرب الجزيرة و “دكليا” في شرقها على الحدود بين قبرص التركية في الشمال واليونانية في الجنوب، وتخضع هاتان القاعداتان للسيادة البريطانية الكاملة، وتشكلان ما نسبته 3٪ من اجمالي مساحة الجزيرة. في حين أن قبرص التركية تشغل الجزء الشمالي بمساحة تصل إلى 35%، وتشغل الجزء الجنوبي قبرص اليونانية بمساحة حوالي 59%، أما عن بقية مساحة الجزيرة والبالغة ايضاً 3%، فهي منطقة عازلة ترابط فيها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على طول الخطّ الأخضر الفاصل بين شطري الجزيرة منذ العام 1964 تاريخ تقسيم الجزيرة. يتم استخدام هاتين القاعدتين كوحدة دعم للعمليات الخارجية في الشرق الأوسط، بهدف “حماية المصالح الإستراتيجية للمملكة المتحدة”. وتستفيد الولايات المتحدة الأمريكية بصورة كبيرة من هذه القواعد في كافة المجالات الاستخباراتية والعسكرية واللوجستية، بعد أن ساهمت في دفع وتغطية تكاليفها للحكومة البريطانية التي غضت النظر عن خطة الإغلاق في بداية السبعينيات.. ونظرا لموقعهم الاستراتيجي القريب من الشرق الأوسط، استخدمت هذه القواعد ضد المنطقة العربية لأغراض عسكرية متعددة، منها:
1- التدخل الأميركي في لبنان العام 1958 وهي أول عملية قتالية تشنّها القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وكذلك في وصول القوات المتعددة الجنسيات إلى لبنان (MNF) كقوة حفظ سلام دولية في أيلول العام 1982 عقب الاجتياح الصهيوني للبنان، وفي استقبال المصابين الأميركيين بعد تفجير مراكزهم في بيروت عام 1983، كما ودعمت عمليات الأمم المتحدة في لبنان خلال الحرب الأهلية. وأثناء حرب تموز 2006 استخدمت القوات الجوية الأميركية هذه القواعد ولا تزال تستخدمها منصة لإطلاق طائرات “يو-2” بغية القيام بعمليات استطلاع جوي فوق الأراضي اللبنانية حول مقاتلي “حزب الله”… اضافة إلى عمليات النقل اللوجيستي وغيره بالطوافات من والى السفارة الأميركية في لبنان.
2-توجيه الطائرات الحربية الصهيونية خلال هجومها على مفاعل تموز النووي في العراق خلال العام 1981، كما استخدمت هذه القواعد كمنصة لانطلاق طائرات الدعم المشاركة في التحالف العسكري ضد العراق إن في حرب الخليج الثانية في العام 1990 ( تحرير الكويت) أو في حرب الخليج الثالثة في العام 2003 (غزو العراق). وفي أغسطس 2014 نُشرت في “أكروتيري” قاذفات بريطانية لتنفيذ ضربات جوية على العراق، في أعقاب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
3-تنفيذ هجمات جوية ضد ليبيا خلال منتصف الثمانينيات بعد اتهام زعيمها آنذاك معمر القذافي بالتورط في تفجير ملهى ليلي في برلين. وكذلك المشاركة في التدخل العسكري ضد ليبيا بقيادة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في العام 2011
4- استخدام قاعدة “أكروتيري” لدعم الضربات الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة ضد مواقع حكومية متعددة في سوريا في العام 2018.
5- تستخدم لعمليات الاستطلاع الجوي فوق تركيا وشمال العراق لنقل المعلومات إلى السلطات التركية، وفوق سوريا للتجسس على القواعد الروسية على الساحل السوري.
6- أصبحت هذه القواعد مخازن آمنة للعتاد والذخيرة الأميركية، وضعت في تصرف الكيان المحتل في حربه ضد قطاع غزة ولبنان…وتنطلق منهم الغارات الجوية الأميركية والبريطانية ضد الحوثيين في اليمن التي بدأت في الشهر الأول من العام 2024، وذلك باستخدام طائرات “تايفون” المقاتلة، على خلفية الحصار الذي فرضه الحوثيون على العدو الصهيوني في البحر الأحمر في إطار دعمهم للمقاومة الفلسطينية في غزة. كما شاركت هذه القواعد بإطلاق صواريخ دفاع جوي لاعتراض المسيرات الإيرانية قبل وصولها إلى الأراضي المحتلة، وذلك خلال الرد الإيراني على الكيان المحتل في 13 أبريل الماضي…
أقامت قبرص علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي منذ العام 1960 من دون ان تفتح سفارة للعدو حتى العام 1994، والسبب أنه في تلك الفترة كان رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس مكاريوس الثالث زعيم البلاد آنذاك، الذي رحب بقيادات عربية مثل جمال عبد الناصر، متعاطفا مع القضية الفلسطينية فاحتضنت الجزيرة علانية مقاتلي المقاومة الفلسطينية…. وما أن حلت موجات التطبيع مع العدو على بعض البلاد العربية، حتى رست بسفنها على الجزيرة، فتعززت خلال العقد الماضي العلاقات الاقتصادية بين الكيان الإسرائيلي من جهة وبين قبرص الرومية وحليفتها وراعيتها اليونان من جهة أخرى. حيث أن قبرص، مثل اليونان، استفادت أيضاً من تدفق الاستثمارات العقارية الصهيونية في السنوات الأخيرة، كذلك بدأت تتعاون قبرص مع الكيان الصهيوني في المجالين الأمني والعسكري، حيث أجرى جيش العدو مع قبرص مناورات عسكرية مشتركة خلال السنوات الماضية ووقعتا مجموعة من اتفاقيات شراء الأسلحة، ومع احتدام القتال في غزة وعلى طول الحدود مع لبنان، استغل العدو علاقاته الاستراتيجية مع قبرص لأغراضه العسكريّة والأمنية، إذ استخدمت القوات الجوية الصهيونية المجال الجوي القبرصي لإجراء تدريب يحاكي سيناريو هجوم إيراني على الكيان. والأخطر إذا ما صحت المعلومات حول عمليات تقوم بها القوات الخاصة الصهيونية في قبرص بالتدرب على حرب ضد لبنان تحاكي تضاريسه الطبيعية… أما في التعاون القبرصي الأمني مع الموساد فقد أخضعت السلطات القبرصية عدة أشخاص للتحقيق معهم بتهمة التعامل مع”حزب الله”، وأوقفت بعضهم أبرزهم اللبناني “حسام يعقوب”، الذي يحمل الجنسية السويدية، بعد ان اتهمته بالتخطيط لمهاجمة مصالح صهيونية. عدا عن توقيعها مؤخراً على اتفاقية تعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية.
من هنا لا يبدو مستغرباً كلام الأمين العام ل”حزب الله” حول قبرص إن في تحذيره لها من خلال دعوته الشهر الماضي إلى تنظيم رحلات هجرة للاجئين السوريين نحو الجزيرة، وإن في تهديده المباشر لها منذ أيام معدودة عبر اعتبارها جزءاً من الحرب على لبنان، في حال فتحت مطاراتها لانطلاق الطائرات الصهيونية لقصف الأراضي اللبنانية. كما لم يكن مستغربا الردّ الديبلوماسي القبرصي بأنها “ليست جزءاً من المشكلة، بل جزءاً من الحل”… ما يؤكد أن تهديدات السيد حسن نصر الله “قد أتت أُكلها” كونه في أولها أثارت مخاوف القبارصة من أن تصلهم موجات اللاجئين من لبنان في ظل قلقهم المستمر حوله وثانيها أن تمتد اليهم الحرب الشاملة بين العدو الصهيوني و”حزب الله” فتصلهم موجات الصواريخ عبر شرق البحر الأبيض المتوسط، قد يصل صداهم حتماً إلى اليونان، التي تلقفت الرسالة بامتياز إذ من المتوقع أن تبادر إلى ممارسة الضغط على الكيان المحتل لكبح فكرة هجومه على لبنان التي ما انفك يتبجح بها! …فهل ترتدع نجمة الهلال…وهي الأدرى بقضايا المنطقة الاستراتيجية؟ أم تبقى خاضعة للاستغلال الغربي فتقع في الفخ الصهيوني، الذي يسعى جاهداً لإقامة تحالف إقليمي يشمل قبرص واليونان وبعض الدول العربية؟ خاصة وأنّ المؤشرات التاريخية للجزيرة تُبرز وجهها المقاوم ضد أشكال الاستعمار بما في ذلك رفض السكان المحليين لوجود هاتين القاعدتين العسكريتين، بحيث يعتبرونهما “بقايا استعمارية”، فكيف الحال بالتدخل وإن بغير المباشر في شؤون البلاد المجاورة؟ وهل سيكون ذلك محفزاً للجزيرة القبرصية اليونانية في اجتراح حل ما يُنهي حالة الحرب هذه، أم تقع فيها؟…
*كاتب لبناني