خالد شــحام*
يا للهول يا حكام القبيلة ! ألم يهزكم أولئك الأطفال في مستشفى الاحتضار وقد تكشفت عظامهم وجَفَّت أجسادهم ؟ ألا من شيءٍ في أهوال غزة يمكنه أن يؤرق منامكم ؟ أليس من حرمة توقف القيان وتمنع رقص الجواري في خيام سهركم؟ يا حكام القبيلة ماذا فعلتم بسيف النبي المسلولة ؟
يا للهول يا أمير قشتالة ! ألم تذرف لك كلمة أو دمعة على الطفلة التي بلا ساقين أو يدين ؟ ألم ينتفض قلب جيشك لأجل أمهات عربيات تحت قذيفة اسرائيلية ؟ يا للهول يا آل عباد و آل الأفطس و آل الأحمر ! ألم ترتجف قلوبكم بخمسين ألف شهيد ؟ أليست فيكم جينة واحدة من رجولة أو كرامة لتسمعوا صوت معتصماه من حجارة غزة المستغيثة ؟ أيها العالم الميت مليون مرة ألن تصحو بعد على سيل الدماء الهادر من غزة الكرامة ؟ الله أكبر منكم ومن زمانكم الذي يبكي حالكم والردى الذي وصلتوه سبقا على يدي بني اسرائيل ! الله أكبر يا غزة كم أنت عظيمة لتقهري كل هذه الأحزاب وكل أصنام الرذيلة ، الله أكبر يا غزة كم أنت كبيرة وكم هذا العالم ضيق وصغيرة ! ، الله أكبر يا غزة كم فيك من آيات للمتبصرين ونذر عذاب للمتفرجين !
بالأمس فقط وقفت جامد البصر أمام الشاشة وأنا أقرأ عبارات بايدن وترامب في المناظرة التي تمت بين الجثتين ، كانت غزة تقف بين الإثنين رغما عنهما وتؤكد أنها أكبر منهم جميعا ومن صغار القامة إلى الحد الذي صارت فيه مادة سباقهم الانتخابي نحو الجريمة ، لم يفتني أيضا أن أستمع وأتابع الرؤية الإبداعية (السموترتشية) ذات الشوارب الشقراء حول الضفة وخطط التهجير وحماسته للاستيطان واللعب مع جماعة السلطة الفلسطينية ، لم أجد فرقا أبدا في معاني التصريحات التي يلقي بها القتلة متعددي اللغات والوجوه والتمثيليات والميك أب ، كنت أتمنى لو ألتقط ذرة واحدة من العقل أو ذرة من انسانية وسط هذه الشحنات الستاتيكية المنتشرة عبر قارات العالم في زمن العدوان على الكرامة العربية ، بعد شهور تسعةٍ من العدوان على غزة اعتقد بأنه قد آن الأوان لإعادة تقييم فهمنا لما يحدث ولطبيعة البُنية المعرفية التي نمتلكها حول المشهد المتسع للخارطة الصهيونية ، لوهلة ما قفز في خاطري بأنني لم أعد أعرف شيئا عن هذا العالم الصهيوني بالكامل الذي تفشى فيه وباء معاداة غزة ، معاداة الحق العربي ، معاداة الأطفال والنساء والأبرياء ، معاداة الإسلام والمسلمين ، معاداة التحرر والنهوض العربي ، معاداة الإنسانية والنزاهة والحقيقة وحتى مجرد الكلمة النابعة من حرقة الحقيقة ، لقد اكتشفت بعد هذه الشهور الدهرية بأن مصطلحاتي والمبتكرات اللغوية قد أفلست أمام جرائمهم المادية والكلامية التي كسرت عنان الســماء ، وما دامت اللغة تقف مشدوهة عاجزة فمعنى ذلك أن هنالك خلل ما ، لقد بات من الواضح بأن كل فهمنا السابق لظاهرة الصهيونية هو فهم قصير ومليء بالثقوب ومجانب للحقيقة التي يكشفها حقل التجارب المقام في غزة ، لقد خرجت الصهيونية الحديثة عن كل الإطار السابق الذي كتبت فيه الكتب والدراسات والأبحاث ، لم تعد المؤلفات من إدوارد سعيد حتى المسيري والأطر الفكرية التي وضعها المؤلفون العرب والأجانب والمترجمون العرب كافية أو دقيقة بالقدر الكافي لمواجهة وفهم الظاهرة الصهيونية التي تشتغل اليوم في هذا العالم ، لقد أماط السابع من أكتوبر غشاوة عظيمة لم نكن نراها وتكسرت الرقاقات شبه الموصلة التي يختفي خلفها كل هؤلاء ، الحقائق تقول بأننا لا نفهم إلا شيئا بسيطا من خزان الظاهرة التي أمامنا ، الظاهرة الصهيونية الممتدة المتشعبة من القارة الامريكية الشمالية وصولا إلى أصقاع هذه المعمورة بكل تحوراتها وأصنافها ومذاهبها ومدارسها ، الظاهرة العجيبة التي تجمع اليانكي والأوربي مع البدوي والمسلم والفلسطيني والمسيحي والأسمر والأبيض في وعاء واحد اسمه الصهيونية الحديثة .
عندما تأسست عصابة (الهاجاناة ) في عام 1920 على يد المجرم ديفيد بن غوريون كان هدفها المعلن هو تفريغ الأرض من الفلسطينين بالقتل والإرهاب ، يتوصل لاحقا أحد الأعضاء داخل العصابة بأن كمية الإرهاب التي تقدمها العصابة ليست كافية بحق الفلسطينين فقرر الانفصام عن جسد (الهاجاناة ) وتأسيس عصابة جديدة أشد تطرفا وإرهابا اسماها (الأرغون ) وكان نجمها المفضل هو رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن المجرم الغني عن التعريف ، بعد صولات وجولات من الذبح والقتل قرر أحد أعضاء هذه العصابة أن كمية الإجرام المقدمة لم تعد كافية لإشباع الحلم الصهيوني فقرر الآنفصام عن الأرغون وتشكيل عصابة جديدة سُميت على اسم صاحب المبادرة (شتيرن ) والتي أوغلت في دماء الفلسطينين بالقدر الذي تتخيلونه ، إلى الحد الذي ظهر فيه البطل القومي بن غوريون المجرم ليتهم عصابة شتيرن (بالإرهاب ) ويندد بالمجازر التي قاموا بارتكابها ويطالب بحماية المدنيين تماما كما يفعل بن غوريون الأمريكي اليوم ويطالب بيبي ببعض الترفق بذبح المدنيين في رفح !
يذكر هنا أن كثيرا من عمليات الاغتيال والقتل التي تصدرتها هذه العصابات نالت البريطانيين أنفسهم الذين دعموا وساعدوا نشأة الكيان الصهيوني ، ليس من داع لكي اكمل لكم سلسلة التكوين في تصاعد الإرهاب الصهيوني والإجرام الذي يعتبر مقياس الصعود في هذه العصابات ولكن تذكروا أن كل هؤلاء المجرمين تحولوا لاحقا إلى سياسيين وتحولت مثلا الأرغون إلى حزب (الليكود) المحترم الذي تعرفونه جيدا وتخيلوا عظمة التاريخ المعاصر حيث نال مناحيم بيغن جائزة نوبل (للسلام ) وتحول أحد زعماء شتيرن( اسحاق شامير ) إلى رئيس وزراء معترف به !
هل يتفكك نصف التاريخ عن شطره الآخر ؟ الجواب هو لا يا سادتي ! لأنكم اليوم تعايشون النسخ المولدة من رحم السباق التاريخي نحو ذروة الإجرام والجريمة ، سياسيين وعسكر وشعب ، يشتركون في فكر واحد ونهج حياتي واحد قائم على القتل والسرقة واغتصاب الحقوق وامتهان حياة من حولهم ، كلهم نسخ وطفيليات تتسلق عمود التاريخ وتتنافس فيما بينها أيهم أشد قتلا وفتكا بالأطفال والنساء والعجائز وابراز أكبر كمية من الحقد والكراهية والانحطاط ، المجرم نتانياهو قدم لنا لتوه أوراق اعتماده كأكبر جزار عرفه التاريخ أسقط كل من خلفه ، هذا هو ما ترونه بأعينكم ويرفض العالم أن يفهم هذه الحقائق وجذورها ، نحن نتعامل مع الصهيونية بشكلها المحدث الذي فاق كل الأفكار السابقة وكل الجرائم السابقة وكل التشريح السابق لها وأعتقد تماما بأننا لم نكتشف سوى عدة سنتمترات من رأس جبل الجليد المغمور بالمياه الباردة.
إن هذا الفهم المتأخر أو المشـوه هو أحد أسباب الهزائم العربية الرسمية والشعبية التي كانت لفترة تؤمن بأن (التفاوض ) أو (الصلح ) أو ( التعايش ) مع هؤلاء هو شيء ممكن ، إن ما كشفته هذه الشهور من القتل المتواصل وحمام الدم العربي الإسلامي النازف سيلا يؤكد بالمطلق أن كل المشاريع السابقة مما قبل اوسلو وحتى التطبيع القادم كلها مجرد سراب او حلم ليلة صيف قائظ ، هنالك مهمة كبيرة أمام المفكرين والباحثين العرب وغير العرب من كل مكان وكل قطر لإعادة فهم من هم هؤلاء والتحذير الجاد منهم وكشف الخريطة التي يقيمون فيها وما هي حقيقة معتقداتهم التي تشكل خطرا ليس على فلسطين أو مصر أو الأردن أو لبنان بل على كل هذا العالم وشعوبه .
تشير القراءات التاريخية الماضية في السجل الفلسطيني إلى اعتكاف سلطات العدو على دراسة النسيج الاجتماعي الفلسطيني في فترة الاحتلال الأولى لما بعد فترة النكبة ، تلك الدراسات الاجتماعية كانت جزءا حيويا في فهم الخطط اللازمة للتعامل مع العقلية العربية وترتيب المنهجية الصهيونية للتعاطي معها ، كانت الدراسات تهتم بكل شيء ، التركيب الأسري ، الأشخاص المؤثرون ، الحرام والحلال ، طبيعة تأثير العشائر والقبائل ، توزيع العائلات ومناطق سكناهم ، تطور هذا القسم لاحقا ليدرس ظاهرة التنظيمات الفلسطينية والعربية وكل دولة عربية كاملة ويفهم معتقداتها وخطوطها ، هذا الرصيد المتراكم عبر سنوات تحول اليوم إلى أغلال خفية تحكم خناقها على الضفة وغزة وكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة وحتى بلاد العرب ، تمكن العدو من خلال قاعدة بيانات عملاقة من حصار الفلسطينين والتضييق عليهم في كل القارات والعبث بمعظم الدول العربية ، تمكن من قصف وقتل وتصفية ألوف مؤلفة من الشعب الفلسطيني والعربي من خلال قاعدة البيانات هذه ، لكن كما نكتشف نحن حجم جهلنا بالصهيوينة ما بعد 7 أكتوبر تبين أن عدونا أيضا لا يعرف شيئا عن شعب فلسطين وشعوب العرب ، وكل وعيه القائم عبر نمذجة الشعب الفلسطيني وفقا لمسطرة أوسلو ومشاريع التطبيع تبين بأنها خاطئة وفاشلة وغير قادرة على تفسير الصمود والبطولة والحدث العظيم الذي تجلى في 7 أكتوبر .
أمام حقول العمى التي أبصرنا أننا نعيش فيها بعد السابع من اكتوبر حول حقيقة الصهيونية ومدى اتساع ظلامها وعمق دهاليز ظلمتها واتساع مملكتها من الدول والأشخاص وحتى الجامعات وشركات الغذاء والدواء ، تكشفت حقول جديدة في الجانب الثاني المضاد ، حقول تتسع كرامةً وخضرةً وبهاءا ولا تغيب عنها الشمس ولا تتلوث مهما دمروا وحرقوا وقتلوا ، حقول تتزعمها الشجاعية وخانيونس ورفح وجباليا وجنين والخليل والمدن المقدسة في غزة وفلسطين التي باركها الله برجال وشعب تتوقد مشاعل البطولة بين يديه .
حقول مشمسة يصنعها لبنان واليمن والعراق ويتوجب على الطبقة المفكرة ذات الرفعة العليا أن تكتب عنها وأن تشخصها وتضعها في درة التاج العربي الحقيقي الذي يليق بها ، ظاهرة المقاومة العربية التي اندلعت مثل النور في بحر الظلمات العربي ، ظاهرة متفردة تقودها غزة التي كسرت كل التابوهات والقوالب المسخرة حول العرب وهوان العرب وضعف العرب ، غـزة التي سوف تغير تاريخ كل هذا العالم وتكنس مراحل كاملة من الذل والهوان ، نعم نحن لم نعد كذلك وهؤلاء الشرفاء سيعيدون تنظيف اسم العروبة والإسلام ، ويعيدون كتابة الحقائق وكتابة فصول التاريخ الناصع الجديد ، لم يعد من المسموح لأحد أن يمس العرب بكلمة أو يقذفنا بالهوان والتذلل أو الانحطاط التاريخي والحضاري ، هؤلاء هم قدوتنا وواجهتنا ووجهنا المشرق قبل صعود الظهيرة ، هؤلاء هم الصناع والزراع والحكام العادلون من فلسطين حتى لبنان ومن لبنان حتى اليمن العظيم ، ومن اليمن حتى العراق ثم إلى كل حدود النار، هذا هو نحن بناة هذه الأرض وزارعوها خيرا ومحبة ورحمة ، وما انتم إلا خرابها ودمارها .
*كاتب فلسطيني