العميد. محمد الحسيني*
انفجرت حمى الانتخابات الرئاسية الاميركية باكراً على الساحة الشرق أوسطية بين الديموقراطيين والجمهوريين وجهيّ العملة الواحدة للدولار الاميركي، في تنافس على استرضاء الأصوات الصهيونية للحملة المشؤومة على زعامة العالم، فأعطى كل منهما مباركته المسبقة لتنفيد عمليات هجومية ضد محور المقاومة تهدف إلى ردعه ووقف دعمه لغزة، بعد ان اتفقوا على تسميتها “عمليات ساحقة ومحدودة لكن ذات مغزى”، ففي أقل من 24 ساعة جرى استهداف أمريكي- صهيوني لثلاثة مواقع في ثلاثة بلدان مختلفة أولهم في لبنان عبر قصف العدو لمبنى سكني في ضاحية بيروت الجنوبية سقط خلاله العديد من الأبرياء بحجة استهدافه القيادي الكبير في “حزب الله” فؤاد شكر والذي ارتقى شهيدا، وثانيهم في العراق عبر قصف موقع عائد لقوات الحشد الشعبي في جرف الصخر، وثالثهم في طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية الأيرانية عبر قصف مقر اقامة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية خلال زيارته الرسمية للبلاد لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان ما أدى إلى استشهاده.
فرضت هذه الجرائم على ايران وحزب الله والحشد الشعبي الرد بشكل اكثر قسوة مما كانوا عليه، إذ بات يُهدد باندلاع حرب إقليمية يسعى اليها “نتنياهو” لجرّ كافة القوى الأمبريالية إلى حلبته من الصراع فوق دماء الشعب الفلسطيني، كي يحمي شخصه من المحاكمة الدولية والداخلية وبالتالي ينقذ سلطانه ويمنع حكومته من الانهيار، على أن يُعلن انتصاراً مزيفاً على محور المقاومة في رهانه على رد محدود من قبل إيران وحلفائها لا يؤدي إلى حرب اقليمية ولا يمتد إلى صراع أشمل، ما يفتح له الباب الدولي لاحقاً لقصف المنشآت النووية الإيرانية هدفه المنشود في الأساس، هذه الحرب وإن كانت “واشنطن” تتوجس سوءاً منها، في نفس الوقت تستبعد انجرار ايران اليها بالرغم من أنها تعترف بأن جريمة طهران أوجدت وضعاً أخطر بكثير مع احتمال أكبر للتصعيد، تأتي هذه الجرائم مجتمعة إن في المكان أو الزمان أو حجم الأهداف، في ظل أسوأ تقدير استراتيجي أمريكي – صهيوني للموقف يمكن اتخاذه، من بعد غزو افغانستان والعراق على خلفية احداث 11/9، وذلك للأسباب التالية:
تعترف إدارة بايدن بأن اسماعيل هنية “مهدور دمه” وبأن هناك مخاوف من أن اغتياله سيقضي على المفاوضات غير المباشرة مع حماس بشأن الأسرى ووقف إطلاق النار، وفي نفس الوقت تتابع العمل بغية التوصل الى اتفاق، فكيف يمكن أن تنجح الوساطة الأمريكية المنحازة أساساً، عندما يغتال أحد الطرفين رئيس الفريق المفاوض للطرف الآخر ؟ ولا يكفي إنكار واشنطن عدم علمها المسبق بها، كونها متورطة مع هذا الكيان منذ نشأته وشريكته في شتى الميادين، وبالتالي تكون هي من أطلقت “رصاصة الرحمة” على آخر نشاط ديبلوماسي لها فيما خص القضية الفلسطينية.
لم تُهدّأ واشنطن من عجرفة نتيناهو خلال زيارته الأخيرة لها، بل ضاعفتها فزادته غرورا وجنوناً ممزوجاً بالحماقة، إذ استفاق يوم 31 يوليو وخمسة دول اقليمية لها ثأراً كبيراً عليه، لا بد أن تناله قريباً وهم اليمن ( قصف الحديدية في 20 يوليو هذا العام)، ايران (اغتيال اسماعيل هنية) والعراق ( قصف جرف الصخر) ، سوريا (الغارات المتواصلة عليها) ولبنان ( قصف الضاحية الجنوبية)، ما يؤسس لحرب مدمرة ينال منها الكيان قسطاً وفيراً.
باتت ايران وبغض النظر عن اعتبارات الثأر لدم اسماعيل هنية، ملزمة بالرد الحاسم والرادع على الكيان الغاصب أكثر من أي وقت مضى، حتى لا يتمادى باعتداءاته على ايران بصورة غير مسبوقة على غرار ما يمارسه من هجوم جوي شبه يومي لمواقع عسكرية وأمنية في الجمهورية العربية السورية، في ظل التهديدات الصهيونية المستمرة بقصف منشآت ايران النووية.
لا تريد واشنطن استخلاص العبر السياسية والاستراتيجية من حروبها المتنقلة عبر العالم، وتحديداً في أنها غير قادرة على إنهاء حركات المقاومة للاستعمار والهيمنة، إذ تكتفي فقط لا غير باستخلاص الدروس التكتيكية والعسكرية المستقاة من هذه الحروب لتعمل على تفاديها في حروبها المستقبلية، فهي وان فشلت في معظم البلدان التي هاجمتها أمثال كوريا الشمالية وكوبا والصين وفيتنام وفنزويلا والصومال ولبنان وسوريا والعراق…فان الفشل الأكبر في هذا كله غزوها لافغانستان بحجة القضاء على حركة طالبان، والنتيجة أنها لم تستطع القضاء عليها، لا بل استعادت طالبان السيطرة على كابول بعد عقدين من الاحتلال الأمريكي، فخرج الجيش الامريكي بصورة سريعة من افغانستان، خلدتها اللقطات التاريخية للصور المذلة له في مطار كابول.
غزا العدو الصهيوني لبنان في العام 1982 بحجة القضاء على المقاومة الفلسطينية ذات أيدولوجيات قومية واشتراكية….فنشأت ضده مقاومات عديدة ذات أيدولوجية إسلاميه، منها “المقاومة الاسلامية” في لبنان (حزب الله) وحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين (حماس)، والجهاد الاسلامي وغيرهم.
حاول العدو القضاء على “حزب الله في العام 2006 او إضعافه ففشل فشلاً كبيرا، حيث تعاظمت قوته بعد أن ازداد تجهيزاً وتسليحاً، وازداد التفاف المواطنين حوله. وحاول محاصرة قطاع غزة خلال العقدين الماضيين فازدادت الفصائل المقاومة بداخله قوة ومناعة، ما جعلها قادرة على الصمود والقتال لسنوات على الرغم من التدمير الحاصل من قبل العدو، وهذا ما أثبتته وتكرسه المقاومة في غزة يومياً من خلال الحرب الأخيرة (طوفان الأقصى).
قد تختلف النوايا بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان المحتل اتجاه ايران وحلفائها، فالأولى ربما تسعى الى تغيير نظام الحكم فيها او أقله كسر إرادتها لإخضاعها، وما يستتبعه من انعكاسات على حلفائها في المنطقة، في حين يسعى الكيان المحتل إلى تدمير إيران إذا ما قدر له ذلك ومن خلفها حزب الله من خلال التدمير الشامل للبيئة الحاضنة له، لكن واقع الأمر يقول أنه قد يكون للعدو القدرة على التدمير، على غرار ما ارتكبه من مجازر في قطاع غزة، وبغض النظر عما قد يصيب الكيان بحد ذاته من ردات فعل تدميرية لمدنه الرئيسة من قبل المقاومة، يبقى السؤال الأبرز، هل يستطيع بذلك القضاء على حزب الله؟ طبعاً لا، لأن “حزب الله” سيبقى بالرغم من حجم القتل والدمار الذي قد يفتعله العدو الصهيوني…فهو لغاية تاريخه لم ولن يستطع القضاء على المقاومة في غزة…ومن قبله لم يستطع حليفه الأمريكي من تصفية حركة طالبان في افغانستان…أو حتى فصائل المقاومة العراقية كافة، بل ازدادت نشاطا ً وقوة…
أما الآن ماذا بعد أن انتهى قادة الكيان من الهذيان والاغتيالات؟ فعلى الرغم من دأب قادته منذ اندلاع المواجهات الحدودية مع لبنان على التهديد بحرب شاملة حيناً ومحدودة حيناً آخر، فإنهم من بعد جرائمهم الأخيرة سارعوا الى الإعلان “أنهم لا يريدون حرباً لكنهم مستعدون لكافة السيناريوهات” لكن في الواقع لديهم “سيناريوهين اثنين” لا غير، الأول ثابت منذ بداية الأزمة وهو: أن لا خطط لليوم التالي، فلا حلول في الافقً، ولا شمال ولا جنوب لكيانهم ولا عودة للمستوطنين والأسرى…أما الثاني فهو متحرك عبر دعوتهم المستوطنين من حين لآخر الى تجهيز الملاجئ، لكن هذه المرة بانتظار الرعب القادم من الجهات الأربع من الشمال ومن الشرق ومن الجنوب وغزة في الغرب.. فإنهم لويدرون عددهم وحجمهم، لاستكثروا من الخير بدل من شرّ جرائمهم.
*كاتب لبناني