د. مصطفى التل*
“موتي كريستال ” أحد كبار الخبراء الإسرائيليين في إدارة المفاوضات مع المقاومة , في العدد الصادر من مجلة “ذي ماركر” الاقتصادية الشهرية (تموز/ يوليو 2024)، يقول :
(فإن الاختيار الواعي لإدارة إسرائيل الصراع مع الفلسطينيين مثلما انعكس ذلك في سياستها حيال المسألة الفلسطينية على الأقل منذ عام 2000، انطوى على ثلاث قنابل موقوتة: الشعور الوهمي بالأمن، انعدام منظومات إلغاء التصعيد، التغاضي عن تغييرات خارجية تؤثر في “استقرار” إدارة الصراع.)
إدارة الصراع في كثير من الأحيان تكون مغرية لأي طرف، إذ أنها تُعتبر من غير كلفة باهظة في كثير من الأحيان. عدا عن أنّ ( إدارة الصراع ) تعمل على حجب حقيقة معالجة جذور الصراع , والعوارض الخطيرة لأي صراع تهدئه إدارة الصراع نفسه , ولكنها لا تكون حاسمة في عدم تصعيده .
نتن ياهو وتياره اليمني ومعه الوسط المتطرف يدير الصراع منذ عام 2009 , واصبح مفهوم إدارة الصراع هو المحور المركزي لدى هذا التيار , والقاعدة التي وضعوها لمسارهم في هذا الصراع كإدارة مفادها :
1- الطريق الأصوب للتعامل معه هو طريقة العلاج المرحلي ضمن فترات متباعدة , ولا مانع من جولات صدامية قصيرة خلالها على الأرض من خلال جولات قتالية .
الأمر الذي سيبقي الواقع الأمني في قطاع غزة والضفة الغربية على ما هو عليه وبالتالي ترسيخ لأمرٍ واقع بدون تغيير لسنوات طويلة قادمة .
2- نتن ياهو وفريقه وجّه انظاره نحو ايران كتهديد وجودي فعلي , بينما لحزب الله اللبناني تهديد دراماتيكي فقط ( ردة فعل أنصار ) , وأصبح الصراع القائم على الأرض الفلسطينية صراعاً ثانوياً كما وصفه رئيس الحكومة الصهيونية السابق “نفتالي بينيت ” بأنه ( بقايا شظايا في أسفل الجسم لا أكثر ) .
3- هذا الصراع الثانوي لا يستوجب على الحكومة الصهيونية السعي نحو أي تسوية مع أي طرف فلسطيني مهما كان هذا الطرف , وبالتالي تجنّب اتخاذ أي قرار جوهري بحل الصراع على الأرض , مما يعني أن الملف تم تكريسه كملف أمني فقط .
رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في جامعة تل ابيب , رأى بدوره ان طوفان الأقصى أثبت ان سياسة اليمبن المتطرف الصهيوني بزعامة نتن ياهو سياسة عمياء .
(الحرب الحالية أثبتت وجود تجديداتٍ في عقيدة المقاومة التي كانت تعتمد على عدّة أسس أبرزها أنها بقيادة جهات غير حكومية، وتلتزم رؤية إسلامية، وهي مواجهة غير متكافئة، سيما في قوة المدفعية، وهي حرب أنصار، وحروب قصيرة من غير حسم، وحرب استنزاف من خلال إيقاع خسائر ومنع الحياة المستقرّة في إسرائيل.) كما قال .
حيث يرى أن محاور التغيرات الجذرية التي فرضها طوفان الأقصى هي :
1- الحرب القائمة حاليا , تحولّت الى تهديد استراتيجي , المقاومة لا تركز على حرب الأنصار والمؤيدين , ولا ترتهن بقراراتهم , بل طوّروا أنفسهم ليرتقوا الى ما أشبه بجيش شبه تقليدي .
2- بينما تركيز المقاومة في هذه الحرب لا يرتكز على مبدأ (الانتصار عبر عدم الخسارة ) , بل تركيزها يقوم على ضرب اهداف عسكرية صهيونية استراتيجية , مع العمل على اعماء الاستخبارات والدفاعات الصهيونية .
3- ان المقاومة امتدت للتنسيق بين الخارج والداخل , مما سمح لها باستغلال ضغط دولي على المستوى السياسي وصفه اكثر من صهيوني بأنه غير مسبوق على إسرائيل حتى جعل من إسرائيل ( منبوذة ) دولياً .
* العقيدة الصهيونية بين تحرير الاسرى و تحرير إسرائيل ….
بعد اغتيال الشهيد بإدن الله تعالى ( إسماعيل هنية ) في عقر دار ايران , تعالت الأصوات في الداخل الإسرائيلي بأن العملية ( خطأ استراتيجي ) ضمن العقلية الصهيونية الاستراتيجية والتي ترى ان اطلاق سراح اسراهم مقدمة على أي شيء آخر .
الأصوات التي تعالت كانت من مبدأ تقديم ما ترسّخت عليه العقلية الصهيونية بخصوص أسراها , لا من باب أن الاغتيال ليس مهماً من الباب الأمني , واستعادة صورة الردع الصهيوني .
فالربط بين اغتيال الشهيد بإذن الله تعالى ( إسماعيل هنية ) وبين مصير صفقة الأسرى الصهاينة منطقي نوعاً ما , فالمقاومة لن تسارع الى تجديد الشروط والاتصالات مع الطرف الآخر , وستفرض شروطاً أكثر تشدداً في الصفقة , عدا عن أنّ الاغتيال سيشكل هاجساً لدى قيادة المقاومة بأنه لا ضمانات لأحد من المفاوضين على الطاولة لا من حيث حياتهم ولا من حيث قيمة ما يتم الاتفاق عليه , هذا من جانب .
ومن جانب آخر , التجارب الصهيونية مع المقاومة الفلسطينية على الأرض وخاصة تلك المقاومة التي يصفها البعض بــ( العقائدية ) , جرياً خلف تصنيفات غربية وشرقية , أثبتت أن الثبات على العقيدة القتالية للمقاومة أعمق بكثير من مجرد ربط المقاومة ومصيرها بمصير فرد منها وان أطلق عليه وصف ( قائد ) .
ومن جانب ثالث , فتح الباب على تصعيد أكبر خارجي من وزن ( ايران ) و ( أنصارها) , باغتيال ( فؤاد شكر ) , مزامنةً مع حرب طاحنة على الأرض بالداخل الفلسطيني , هو خلط كل الأوراق بالمنطقة , وهذا الأمر يؤدي لزاماً الى تراجع ملف الاسرى الصهاينة الى الدرجة الثانية من حيث الأولوية لدى العقيدة الصهيونية التي تتولى المشهد والإدارة الحالية مما سيؤدي الى تراجع ضغط الجمهور الصهيوني على حكومته بهذا الملف , طالما ان إسرائيل الآن مشغولة ببوادر حرب إقليمية شاملة أو جزئية .
على المستوى الداخلي الصهيوني , فإن حالة الانقسام والشروخ الكبيرة واضحة تجاه هذا الملف تحديداً , ليس من أهمها تراجع التعاطف العام للجمهور الصهيوني مع ذوي الاسرى الصهاينة داخل المجتمع الصهيوني نفسه
لهذا أهمية جوهرية , مفادها ان القاعدة الراسخة في العقيدة الصهيونية وهي ( فداء الأسرى ) من شأنها الاختفاء , وهذا مفاده ان هناك شعور عميق بعدم الثقة بالجهاز الحكومي الصهيوني الذي غيّر هذه القاعدة لمجرد أنه استشعر ان هناك ثمناً سيدفعه مقابل عملية ( فداء الأسرى الصهاينة )
“شمغار ” تلك اللجنة المعنية بتحرير الاسرى الصهاينة منذ جلعاد شاليط , هذه اللجنة عمليا استثنت المعايير التي تم تطبيقها على صفقة الأسير الصهيوني (جلعاد شاليط ) , ممدخل المجتمع الصهيوني في صدمة مفادها ان الدولة الصهيونية غير مستعدة لدفع الثمن عن طريق الانتقائية الواضحة في المعايير التي من المفترض أن تكون موحدة أمام جميع الاسرى الصهاينة بدون استثناء .
اسرائيل وقعت بمعضلة الحفاظ على الردع العام أمام معضلة الأسر التي أصبحت عنوان للاختراق الأمني الواضح لدى الأجهزة الصهيونية المختلفة .
إسرائيل خلصت امام هذه المعادلة الصعبة الى نتيجة مفادها , القوّة كفيلة بإعادتهم، ويضع أولويّة القضاء على المقاومة قبل أولويّة إعادتهم، قد يمهّد لبداية تغيير جوهريّ يفضّل (فداء إسرائيل) على (فداء الأسرى) , وينسف كلّ ما قيل على مدار عقود عن “الروح الصهيونية “.
عملياً على الأرض نحن أمام مشهدين متضادين:
الأول : ليس لدى المقاومة ما تخسره بعد 300 يوم من القتال المباشر على الأرض , ليس من باب الانتقاص من قدرتها على احداث أثر فعلي على الأرض , بل كل ما تريده وتبيحه العقيدة الصهيونية العسكرية ِمن قتلٍ وتهجير ونسف , قد تمّ فعلاً على الأرض بدون قيد أو شرط , ولكن الجيش الصهيوني حتى اللحظة لا يزال يراوح مكانه على الأرض , بين انسحاب وإعادة الاشتباك من جديد , ( كر وفر ) , أمام مقاومة يقول عنها بأنها فئة معزولة عالمياً , لا تعرف كيف تقاتل ولا تدافع .
ولكن إعادة أعمار غزة وتبادل الأسرى , لن يكون في النهاية إلا من خلال اتفاق عام سيحدث عاجلاً أو آجلاً , وهنا مفارقة لا بد من الإشارة اليها وهي :
أن اتساع رقعة الحرب على مستوى الإقليم ولو كبوادر أولية ستجبر مختلف الأطراف الدولية والإقليمية على التدخل في محاولة احتوائه بأي طريقة كانت وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها .
وهنا المقاومة لعبت بذكاء حاد عندما اختارت السنوار خلفاً لهنية رحمه الله تعالى , اذ تركت امر توسيع رقعة الحرب لإسرائيل ذاتها , بدون تدخل مباشر , وهذا ما سنراه بالمشهد الثاني .
المشهد الثاني : عملية اغتيال الشهيد بإذن الله تعالى ( إسماعيل هنية ) في عقر دار ايران , وبعدها بساعات قليلة تم اغتيال ( فؤاد شكر ) , مع اعلان رسمي صهيوني بنجاح اغتيال ( محمد الضيف ) حسب زعم البيان , مقروناً بتصميم نتن ياهو على ابراز الاحداث أنها نجاحات صهيونية في حرب وجودية لإسرائيل في محاولة لإفراغ جهد الماكينة الاستخبارية والإعلامية الصهيونية الموجهة على ترسيخ هذا المفهوم على المستوى الداخلي والخارجي الصهيوني, الأمر الذي يعني انه لا بد من هذه الحرب نهاية واحدة هي القضاء على المقاومة في الشمال وانهاء حزب الله في الجنوب .
مقروناً مع ارسال سيل من الرسائل العملية لإيران مفادها أن يد إسرائيل طويلة تصل الى حيثما تريد ولو كانت تلك المنطقة هي قلب طهران نفسها .
المقاومة تركت هذا المشهد ليتطور بأيد صهيونية بحتة , واعتبرته جزء من حسم المعاركة النهائية لا جولة من جولاته , وهو الامر الذي أشار اليه محمد الضيف نفسه في التسجيل الصوتي في السابع من أكتوبر (تشرين الأول ) .
اكتفي الى هنا , وللحديث بقية ان بقي في العمر بقية ..
*كاتب اردني