علي الزعتري*
يمتلك الإنسان العربي الذكاء والوطنية والتمعن التحليلي، مع أنه ليس محللاً سياسياً و في معظم الحالات لا علاقةَ له بالحوار واللغة الدبلوماسية، وهو طبيعيَّ الحِسْ وصادقَ السريرةَ والوُجهةَ في اختياراتهِ الوطنية. يستقرئُ الخبر ويبني عليه حكماً أساسه ليس في الخبر بل في التاريخ الذي تشربته روحه عن الخبر. يعلم أين تقع الحقيقة ويُميِّزَ بين الصواب والباطل في تناولِ قضاياهِ المعيشية والمصيرية. رأيهُ مغايرٌ لمسيرة التطبيع والتدهور المتعمد للأخلاق فهو لن يعترف بالتطبيع و بإسرائيل و هو يعرفُ من يُناصرها. قد لا يُعاديه وقد ينشد صداقته، بعكس مشاعره تجاه إسرائيل التي يعاديها ويبغضها ويود زوالها، لكنه لا يغفر لمن يحالفها استماتتهُ في الدفاعِ عنها ولا يحزن إن أصابته المصائب. وهو يتعايش مع التدهور الأخلاقي كمن يتعايش مع الأمراض المزمنة.
رأيهُ أنهُ لم يعد ممكناً تغييبهُ بسهولة لكن تجويعه و “مرمطتهُ” ممكنةٌ وحقيقية. كنا في الزمان منومين مغيبين بالإعلام الذي أعلن نصراً في ١٩٦٧ و الذي ما فتئ يؤلف البطولات. ثم انطفأ الإعلام الرسمي كمصدرٍ وحيدٍ للأخبار، فمن كثرةِ ما جانبَ هذا الإعلام الصواب والمنطق فَقَدْ فَقَدَ المصداقية. كان زمان بالكادِ ثلاثين إذاعةً عربية و قُلْ مائة صحيفة هي الإعلام الرسمي الذي كان يبدأ بالعناق الأخوي وينتقل للشتم والتخوين. وكان هناك هيئة الإذاعة البريطانية مصدرنا في ذاك الوقت لما لا يقوله الرسمي العربي، وكم كان في دسمها سُمٌّ كان أكثر قبولاً عند الناس من أخبارنا. ثم صحونا بفضل انفتاح العالم والتقنية فأخبارنا نستقيها اليوم بطرفةِ عينٍ من مصادر متعددة. ليست كلها ذات مصداقية لكنها تكشف المستور بالكلمة والصوت والصورة مما يجعلها أوثق من الإعلام الرسمي عند العربي حتى ولو صدق الرسمي. و لأن كثيراً مما يسمعهُ العربي عن بلادهِ يتناقض وما ينقله له الإعلام الرسمي الذي يُجاهد للبقاء، بل أن هذا الإعلام لم يعد يستطع أن يجاري لا في الصدق ولا التدليس والنفاق بعض الإعلام المتوالد في ذات بلده، فقد وصل الإنسان العربي لقناعاتٍ عن سياسات بلادهِ الماضية والحاضرة والمستقبلية ليست بالجميلة. ذلك لأن التغذية الإعلامية للعقل العربي، رسميةً و غيرها، كانت وبقيت حشواً لا يعني الكثير للإنسان في كثير الأحوال.
لكن الوضع في الماضي كان مقبولاً نوعاً ما لانعدام الإعلام الموازي وقدرة الجهات الرسمية التشويش على الإذاعات الخارجية و منع دخول مطبوعاتها فكان العربي “يتمتع” بشرنقةٍ إعلاميةٍ وطنيةٍ تكذب وتصدق و كنا نكذبها أكثر مما نصدقها لكن لم يكن باليد حيلة فهي احتكرت عقولنا وكانت تحدد ما تعطي وتمنع. أما الآن فينطبق على عالمنا المثل “إن رُمْتَ تحييرهُ فخَيِّرْهُ” حين أصبح العربي يلتقط المعلومة عن وطنه بكل ألوان الطيف السياسي والمجتمعي والأخلاقي وعدمها ويتبناها أو يرفضها بالكثير من الإيمان بها أو السخريةِ و الألم. إن قبلها فلن يصفق له أحد لأن “واجبه الوطني” أن يقبلها، و إن يرفضها و يسخر منها فكأنه يرفض بلاده ويتوجع لها. آلاف المواقع الإخبارية على وسائل الاتصال الاجتماعي تبث ما هب ودب فيه كل ما تتخيله ومالا تتخيله من الزين والشين يُمطِرُك كل ثانيةٍ من كل مكانٍ في العالم. وأنتَ حَكِّم عقلك وعواطفك فيما تريد تصديقه. صار الواحد منا مصدراً إخبارياً يعيد بث ما يصله ولو كان نكرةً، أو يخترعه، ليساهم في تشكيل الرأي العام. يسمونهم “مؤثرين”
كل هذا يتعامل معه العربي في تكوين رأيهِ المتوافق و المغاير لكل شيء. لكن الثابت في رأيه المغاير، أو ما آمل أنه ثابت، هو رفضه الهوان العربي و تقهقره عسكرياً في مواجهة الصهيونية. هو لا يتفهم السعي المتواصل لسلامٍ لم يحمل منذ معاهدات السلام سوى التراجع في موازين القوة. أستخدمُ كلمة التراجع بكثيرٍ من الأدب بعد أن زُكِمَتْ وجوهنا بالإنجازات النابتة من السلام و لا نزال محتلين و عاطلين فقراء. فمن حسنات الإعلام الحديث أنه يُعْلِمُ الجميع بالحقائق الفَجَّة، مثلاً عمن يتاجر مع الصهيونية ويغنى منها ومن يسرق المال العام ومن يكذب ويبيع بلاده. وبينما تذخرُ تقارير الأمم المتحدة بالأرقام والبيانات الملونة عن مواقعنا التنموية الإنسانية غير المتناسبة مع بلادٍ تطفو على الثروات بأنواعها، فإن بياناتَ التبايع مع الصهيونية توضح هي الأُخرى بالتفصيل هذه العلاقة الشائنة، التي هي بمئات الملايين من الدولارات الأمريكية، و تعطينا تفسيراً من بين تفاسير لماذا نتراجع تنموياً. كانوا زمان يقولون أن السبب في ضعف اقتصادنا و تنميتنا هو الصهيونية التي زرعها الاستعمار لهذا الغرض. لكن ببساطة، أن تخصص دولنا ما بين ٢٠-٣٠٪ من دخولها المليارية للتسليح والأمن لمجابهة عدو تتاجر معه وتسعى للتصالح معه أمرٌ يحيرنا. فلا هي حاربته و لا هي صرفت المال علينا، و إن صالحته تستمر بنفس وتيرة النفقات العسكرية و لا ننال منها إلا النذر اليسير الذي تستدير الدولة لتأخذه بشتى الحِيَلِ الجبائية. ونبقى أرقاماً سالبةً بتقارير الأمم المتحدة.
الإعلام والتقارير تفضح خيباتنا التنموية والوطنية والفوالق العميقة بين من يملك ويستعبد ومن يُمْلَكْ ويُستَعْبدْ ليس بين البلاد فقط بل في البلد الواحد وفي المدينة الواحدة. و ليست الخيبة طبقيةً وحسب بل الأخطر أنها نافذةً كالنصلِ الشيطاني الملتهب نخراً في ثقافتنا وعاداتنا وديننا تَجُزُّ الفواضل التي أُرهِقَتْ يأساً من عودةٍ لصحيحِ مبدأ و كريم خُلُق إلا ما هو استثناء. إنه الجمرُ في اليد. وكأن المطلوب، بل هو المطلوب الذي ينجح، تحويلنا لقطعانٍ ناطقةٍ تُحْبَسُ للمرعى وتتناسل كالهوام بانتظار الذبح. سيقولون ما هذا الظلم؟ نحن لسنا كذلك. أنظر لجيوش المتعلمين والنهضات التقنية والمدن الذكية بل أننا وصلنا الفضاء وفينا الشعراء والحائزين على الجوائز. وأقول أنا بالفعل أنظر وأُقَيِّم، وأُذُنيَّ تسمعان همس الإنسان العربي الذي يشكو فسادات حكوماته ومجتمعاته بالمعظم وهوانَ مكانتهِ بين العالمين و هي أعلى وأوضح. هو قد يلهو بلحظات “النهضة” تلك وينخدع بلذتها لكنه فعلاً كالماعز الذي يتقافز في ربيعٍ لا يملكه ونهايته أن يُعَلَّقَ ويُؤكل. بل أنه صار يُؤكلَ فلا يقاوم الآكل.
هذا الإنسان العربي واقعٌ بين فطرتهِ الصحيحة في استنباط الحق من الباطل و حاجته المشروعة لأن يعيش. واعٍ هو بمصيبته الوطنية وساعٍ للعيش الكريم بقدرةٍ فِطريةٍ للصبر و للتفريق بين عالم الإنكسار وعالم الإنتصار. الانكسارُ عنده هو وقوف عسكر العرب بانتباهٍ لتأدية التحية لصهيوني وحليفه، وأن يرونه يذبح فلا ينجدوه. والانتصار هو المقاومة بكل أشكالها للذابح اللئيم ومن معه. الإنكسار هو الانهزام الداخلي الطوعي أمام الصهيونية والفساد والمحسوبيات والطبقية وتدهور الأخلاق، والانتصار هو العكس لهذا كله. لكننا نعلم كل هذا، أليس كذلك؟ نكاد لا نملُ من ترديد وتأكيد مآسينا عندما نلتقي على فنجان قهوة. و لا أحد يذكر الفضاء الذي وصلناه ولا البرج الأعلى أو الشارع الواسع الممتد أو شاعر القرن. في حديثنا ألم الانهزام وفساد الأقوام وبقاء الحال حالاً لا يتغير للأحسن من عامٍ لعام.
فما هو الرأي المُغايرُ أيها الكاتب؟ رأيي المتواضع أن فِطرةَ الرأي المغاير في التعرُّفْ على الانكسار والانتصار تسقط ذليلةً أمام رأيٍّ مغايرٍ واقعي هو في حاجة العربي المشروعة أن يعيش. فهو محكومٌ مثل أي فقيرٍ مغلوبٌ على أمره في العالم و عليهِ أن يرضى لكي يعيش فحياته لا تسر الصديق ومماته لا يغيظ العِدا. عليهِ أن يرضى باختيار ولاةِ أمرهِ أن يكون بأسهم عليه وبينهم شديد ومع عدوه رضاً وحبور. عليهِ أن يرضى بالتصفيق للإنجازات وإن سخفتْ وأن يُستعبدَ لها صغرت أو كبُرَت أو اقتربت وبعدت عن ترفيع حياته. عليهِ أن يرضى اغتيال المبدأ والأخلاق و بعث الفواحش على أنها الفطرة وأن يطأطئ الرأس لها لا غاضَّاً بصراً من إيمانٍ وحسب بل موافقاً مكسوراً ومشاركاً. عليه أن لا يغضب للمذابح وإن غضب أن يستتر. عليه أن يقبلها واقع حال. عليه أن يدرك أنه يعيش ليأكل ما قد يكفيه لكن الهدف من عملهِ هو ليأكل غيره أكثر. هي شهواتٌ عِظامٌ مفروضةٌ تحَلَّلَ الحرام وتزدري الحلال و علينا أن نرضى بها لنعيش. لنحزن لخسارة أرجلٍ تلعب بكرةٍ ولا نشعر بخسارةِ الأقصى و نشغفُ بمطربٍ يراود حرماتنا بينما حرماتنا تُغتصب من الكلاب بأنواعها. و نرضى استسلاماً بغفواتٍ طوالٍ عن مجازر أهلينا من غزة فلسطين للسودان ومن اليمن للبنان. فها نحنُ، لسنا إلاّٰ ذا، رأياً مغايراً يعلم الصواب ويُشيح بوجهه عنه ليعيش في عالمٍ رأيهُ فينا كالنصلِ يذبحنا، لأننا بتنا نقبلُ رأينا المغاير، الذي أصبح وأمسى، أننا “رسمياً” الحُملان.
* كاتب أردني ودبلوماسي أُممي سابق