علي الزعتري*
قريباً من انقضاء عامٍ نستوعبُ بكل إيمانٍ حقائقاً نسجلها لمن يريد أن يحيا حُرَّاً. لن نُجاملَ أحداً فيها ونأملَ أن يبتعدَ أُولي التحليل السياسي عن تكرير ذكر الحلول المشوهة و التشبثِ بعباراتٍ لا تخدم ما ينبغي أن يكون عليه وطننا، حُرَّاً من الصهيونية وسُتُرِها. يكفينا إذاعةَ التشويش وتسمية الأمور بغير ما هي. علينا أن نَسِمَ الأمورَ بما هي عليه وما يجب أن تكون عليه.
ـ أولاًّ: هذا صراعُ بقاءٍ لا حروباً عابرةً بين طرفينِ تنتهي بمعاهداتٍ وتتخللها مناوشاتٌ دبلوماسيةٌ أو جدلٌ بشأنِ اتفاقاتٍ تبادليةِ المنافع تطوي النزاع وتطمر جمرهُ تحت رمادٍ كثيفٍ آملةً ألاّ تظهر نيرانه، بل هو قتالٌ مصيريٌ عنوانه الواضح هو إما نحن وإما هم. يجب أن ينتهي بنصرٍ حاسمٍ يُحَرِّرَ فلسطين ويُعيدَ المستعمرين من حيث أَتوا. ومن يرضى بالبقاء منهم عليهم أن يكونوا طاهرين من جرائم الاستعمار المرتكبة بحق الفلسطينيين ومُحاسبين عليها إن كانوا مذنبين. كم من الوقت نريدُ لتحقيق هذا ليس محدوداً لكن الاستعداد له يجب أن يكون جادَّاً متواصلاً لا يتأثرُ بموتٍ أو أَسْرٍ.
ـ ثانياً: أنه صراعٌ عالميٌّ يقفُ فيه الغرب، حتى روسيا والصين والهند، مع “إسرائيل” ولأسباب مختلفة منها الانتماء العقائدي و منها حميةَ الأصلُ العرقي ومنها المنفعي البحتْ ومنها الرغبة في عدم تبديل موازين قوى الأمم و منها عاطفيٌّ يتعلق بما يُشاعُ عن الظلم الذي أصاب اليهود. ولن يرضى لذلك هذا العالم بالحقيقةِ الأولى التي تدعو لإنهاء هذا الكيان واستبداله بفلسطين محررة من البحر للنهر. وعليهِ يجب أن يتشكل الحلف المقابل المستعد للتدخل متكوناً من أُمَمٍ متمكنةٍ و بنائهُ بصيغٍ مختلفةٍ لكن عمادها هو العقيدة و التحرر من الاستعمار والإيمان أن الصهيونية ما هي إلا تهديداً وجودياً للجميع وأن الصهيونية هي “إسرائيل” متمددةً استعماريةً بشتى الوسائل للتخريب و السيطرة وينبغي الخلاص منها.
ـ ثالثاً: أنه مُحزِنٌ انصياعَ العرب دولاً بمعظمها و بعض شعوبٍ للسكون خوفاً و طمعاً وأنهم يفضلون الدَعَةَ المعيشية أو الاستسلام على المقاومة و لا يرون في الخنوع للصهيونية وحلفها عيباً. لم تَرَ هذه الدول في حرب الإبادة علامةً كافيةً لأدنى حَدٍّ من الردود، مثل وقف المعاهدات وقطع العلاقات. وهي إن استشعرت الزحف الصهيوني القادم ضدها والمُستَدِّلَ بالخرائط والسياسات اكتفت بطلب الحماية من حلفاء الصهيونية! والواجب عمله هو تغيير هذا الانصياع والسكون بالرهان على الشعوب التي لا ترضى بهذا الهوان. ويجب اتباعَ وسائلَ توعيةٍ بل وسائلَ كشفٍ نافذةٍ للعلاقات التطبيعية والتنازلية لوضع الشعوب أمام حقائق الهوان و صدمها لتصحو ولتعي حجم الخطر والمسؤولية ولتبدأ التغيير.
ـ رابعاً: لا بُدَّ من التعامل مع النظام الدولي الأممي بحسبِ وزنهِ وهو وزنٌ أقَلَّ بكثير مما يُعطى في التعويل عليه، ليس لردِّ الحقوق، بل حتى فيما هو أبسطَ، مثل توفير العون اللازم إنسانياً، ما دامت القوة العسكرية والسياسية الغربية هي المُهيمنة عليه وما دام قادةَ وموظفي هذه الهيئات يختبئون من التعليقِ بصراحةٍ عن مسؤولية “إسرائيل” والولايات المتحدة وحلفها الغربي في بدء وإدامة الإبادة وإن تكلموا وضعوا الضحية صنو القاتل. إن مقاطعة بل ومعاقبة المنظمة عند تقاعسها وانسحاب مسؤوليها عن قول الحق ليست ضعفاً بل قوةَ ضغطٍ عليها. فالحقوق لا تُستردُّ بالمناشدات والخطابات ولكن بالقوة الجهوريةَ في كل ميدان أُمميٍّ وكل منصب.
ـ خامساً: أنه من الواضح أن العالم العربي منقسمٌ بين مهادنٍ بسعادةٍ ومهادنٍ على مضضٍ ورافضٍ لا يملك قوةً ورافضٍ قوته مُستمدةٌ من خارج العروبة وهذا المدد يُضعفُهُ كما يُقَوِّيه. والواجب هو في البدء الجاد لتعديل هذه المعادلة و ناتجها السلبيٌّ مجتمعياً وفي خلق تكاملٍ ينجح في الوقوف بوجه الصهيونية وتحويل العالم العربي و الإسلامي جوهراً ومظهراً لعالمٍ مقاومٍ حر.
فمن ذا الذي سيقوم بهذا “الجهاد” لتحقيق هذه الأهداف السامية؟
استفسارٌ وجوديٌّ والإجابةَ عليهِ ليست مُتاحةً، فالتغيير يحتاج هندسةً مُعقدَّةً متعددةَ الحقول والطبقات هي أشبه بلعبة شطرنج بها عشرات اللوحات وآلاف الحركات المتجابهة تجري بوقتٍ واحدٍ. لكن أليس هذا هو بالتحديد ما فعلته الصهيونية لتستعمرنا؟ سنضطر لترك التمعن في هذه الأهداف وسُبُلَ تحقيقها لمن يمتلكون القدرات ويريدون الحياة بكرامةٍ واستقلالٍ عن الاستعمار الصهيوني. و ما نيلُ المطالب بالتمنِّي ولكن تؤخذُ الدنيا غِلابا.
*كاتب اردني ودبلوماسي أُممي سابق