د. كمال ميرزا*
في غمرة تفاعل وانفعال الناس مع اليوميّ والآنيّ، خاصةً عندما يشهد أحداثاً دراماتيكيّة يُضفي عليها الإعلام المزيد من “الدراما” و”الشحن العاطفي” الذي يتخذ غالباً شكل حزن وأسى، وأحياناً جدل وأحياناً غضب، وأحياناً أخرى طائفيّة وعنصريّة.. ينزع الناس إلى نسيان أصل هذه الجولة من الصراع والمرامي الأساسيّة منها بالنسبة للعدو!
فالكيان الصهيونيّ من حيدث الأساس هو واجهة للمشروع الرأسماليّ الإمبرياليّ الغربيّ، و”كيان وظيفي” تمّ تصنيعه لخدمة مصالح هذا المشروع في المنطقة.
والطور الحالي من الصراع، والذي يمكن اعتبار ما يُسمّى “الربيع العربيّ” نقطة إنطلاق له، هو في وجهه الأساسيّ تعبير عن الصراع الشرس القائم على مستوى النظام الرأسماليّ العالميّ بين دول مهيمنة قائمة تريد الحفاظ على هيمنتها وتوسيع شبكة نفوذها ومصالحها، وبين دول صاعدة تحاول أن يكون لها موقعها ونصيبها “العادل” من “الكعكة العالمية” في خضم التسابق الشرس على أسواق “الجنوب” و”الشرق”، وعنوان هذا الطور هو: “الغاز والموانئ والمعابر”.
وبالنسبة للمنطقة، فإن العنوان الفرعيّ الأبرز لهذا الصراع ضمن العنوان العالميّ العريض هو “غاز شرق المتوسّط”.
من هنا أتت معركة “طوفان الأقصى” كضربة استباقيّة لإرباك حسابات العدو وترتيباته هو وشركاؤه وأعوانه، وذلك بعدما استشعرت قوى “المقاومة” اختمار مخطّط مبيّت “للإبادة والتهجير” بعد أن قام زعيم العصابة “نتنياهو” بإلقاء خطابه في الأمم المتحدة العام الماضي، وتبجّحه وهو يستعرض خرائط مشاريع “السلام الاقتصاديّ” الموعود الذي يأتي تحت مظلة “صفقة القرن” الموعودة، وبعد أن انتهى من منح شركات الطاقة الغربيّة عقود وامتيازات استثمار غاز غزّة قبل حتى أن يتم إطلاق رصاصة واحدة، أو أن يكون هناك مؤشرات لإمكانيّة حدوث ما حدث!
والمسار بعد هذه النقطة واضح لتفسير السلوك الإجراميّ للكيان الصهيونيّ على مدار عام كامل، و”المهمّة” التي ينفّذها بالأصالة عن أمريكا بلوبيّاتها وشركاتها وبنوكها وصناديقها السياديّة وشركائه وأعوانه و”قطاريزه” الإقليميّين!
في ضوء ما تقدّم ينبغي أن نقرأ التطوّرات الأخيرة فيما يتعلّق بلبنان، أو على الأقل ينبغي ألّا نُغفل ما تقدّم في معرض قراءتنا للمشهد، خاصة من حيث التهديدات الصهيونيّة بالقيام باجتياح برّي محدود أو لمنطقة محصورة في لبنان.
فمن حيث المبدأ الكيان الصهيونيّ ومن خلفه أمريكا هما أكثر مَن يدرك عجز الكيان عن القيام باجتياح برّي حقيقيّ للجنوب اللبنانيّ، وأنّ المواجهة البريّة عموماً هي نقطة ضعف “جيش الكيان” في مقابل كونها “نقطة قوّة” للمقاومة و”حزب الله”.. فلماذا سيقدم الكيان الآن على هذا الغزوّ المحدود أو المحصور؟
مبدئيّاً هناك أربعة أسباب ظاهريّة يمكن أن يستقرئها أي محلل ذكي أو متذاكٍ يظن نفسه يرصد ويتابع الأحداث:
ـ أولاً: تحقيق صورة نصر وهميّ تبيعه عصابة الكيان لجبهتها الداخليّة، وتعوّض شيئاً من صورة “جيش الكيان” المهزوزة على مستوى المواجهة البريّة المباشرة.
ـ ثانياً: إيجاد موطئ قدم وقاعدة متقدّمة للكيان تكون مُنطلقاً للمزيد من العمليات الاستخباراتيّة والتكتيكيّة في العمق اللبنانيّ.
ـ ثالثاً: اختلاق ورقة تفاوضيّة جديدة يمكن أن يستخدمها الكيان ويساوم ويبتز بها في أي مفاوضات مستقبليّة ممكنة (وطبعا الحرب لا يمكن أن تستمر للأبد ولا بدّ في نهاية المطاف من الجلوس إلى الطاولة).
ـ رابعاً: خلق غزّة صغيرة داخل لبنان تشغل المقاومة اللبنانيّة، وتستنزف تركيزها ومواردها، وتكون الساحة ذات الأولويّة على حساب “وحدة الساحات” مع غزّة، وعلى حساب الثقل الحربيّ والعملياتيّ الذي تلقيه المقاومة اللبنانيّة على مناطق شمال فلسطين المحتلّة.
لكن جميع هذه الأهداف ظاهريّة، أو فلنقل تكتيكيّة، لكن الهدف الأساسي الكامن والمضمر هو غاز لبنان؛ بمعنى أنّ العمليّة البريّة المحدودة أو المحصورة التي يعتزم الكيان الصهيوني القيام بها ستستهدف غالباً احتلال الواجهة البحريّة المتاخمة لحصة لبنان من غاز شرق المتوسط.
وفي المستقبل إذا لم يتسنَ للكيان الاحتفاظ بكامل هذه الواجهة البحريّة فعلى الأقل سيستطيع أن يفرض تعديلات على اتفاقيّة ترسيم الحدود البحريّة التي فرضها عليه “حزب الله” بخلاف ما يشتهي بتوجيه وإدارة مباشرة من سماحة السيد “حسن نصر الله” رحمه الله.
أي أنّ الإنعطافة الأخيرة في الأحداث، والتي مفصلها الأبرز اغتيال سماحة السيّد، عنوانها هو تحوّل الكيان إلى إحكام سيطرته على غاز لبنان، بعد أن استقرّ يقينه على ما يبدو أنّ عدس غزّة قد استوى (أو على الأقل شمالها)، وأنّها هي وغازها قد أصبحا في متناول اليد، وأنّه لا بدّ من إنهاء بعض المسائل العالقة في الشمال قبل قطف الثمار النهائيّة!
وليس مستبعداً أن يشمل الغزو المحدود احتلال منطقة أو شريط في البقاع لقطع طرق الأمداد القادمة من إيران فالعراق فسوريا فلبنان. وفي المستقبل إمكانيّة تحوّل هذه المنطقة أو الشريط إثر أي مفاوضات إلى موطئ قدم للقوّات الأمريكيّة على غرار شرق الفرات ولو تحت غطاء تحالف دوليّ، أو قوّات ضامنة مختلطة عربيّة وغير عربيّة (وبالمرة الـ CIA تسيطر على خط إمداد حشيش حيويّ أفلت للآن من يدها)!
لاحظ أنّ ما تقدّم يخلو من أي ذكر إلى إعادة سكان الشمال إلى مستوطناتهم ومساكنهم، فهذه مجرد “ذريعة”، كما أنّ تحرير الأسرى في غزّة هناك في الجنوب هي أيضاً مجرد ذريعة!
الكلام أعلاه يتناول فقط “الشقّ الغازيّ” من حرب “الغاز والموانئ والمعابر”، ومن سوء حظ غزّة أنها لا تقع فقط في بؤرة “حرب الغاز”، بل وفي بؤرة حربيّ الموانئ والمعابر أيضاً!
فإلى جانب غاز غزّة هناك ميناء غزّة الذي يجب أن يتم احتلاله وإعادة بنائه بما يخدم مشاريع الغاز المزمعة ومنّصاتها، أو إلحاقه بميناء “أشدود”، أو إلغائه تماماً لصالح ميناء “أشدود”.
وبالمثل، هناك “قناة بن غوريون” البديل الصهيونيّ المُزمع لقناة السويس، والتي ستمرّ جوار غزّة أو عبر أراضيها، وبالتالي ينبغي حمايتها من خطر أصحاب الأرض الفلسطينيّين “الأشرار”!
استطرادٌ أخير، ولبنان أيضاً إلى جانب الغاز ليس بعيداً عن حرب الموانئ والمعابر، ومن هنا جاء تفجير ميناء بيروت قبل سنوات قليلة، ومن هنا سيأتي أي استهداف قريب محتمل لهذا الميناء، كي تبقى موانئ الكيان ومنصّاته وقناته هي بوابة عبور الشركات العالميّة ورأس المال العالميّ للتجارة بين الشمال والجنوب – الشرق والغرب (وفي نفس الوقت نقطة تحكّم)!
بمعنى أنّ خطة الكيان هي أن يتحوّل إلى “مصر التاريخيّة” الجديدة على خارطة الجغرافيا السياسيّة العالميّة، وهذا يستدعي بالضرورة إضعاف واحتواء مصر الحاليّة (في حال تعذّر القضاء عليها أو تفكيكها)، ويستدعي أيضاً إيجاد “إسرائيل جديدة” لتحلّ محلّ إسرائيل الحاليّة “القديمة”، ويُحتمل هنا أن يتمّ التفكير بضرب عصفورين بحجر واحد بهذا الخصوص عبر بوابة “سيناء”، والتي قد يجد فيها الصهاينة ضالّةً لمخطّطاتهم بعد أن تاهوا فيها في الزمن الغابر لأربعين سنة!
*كاتب اردني