د. محيي الدين عميمور*
لأنني، قصورا لا تقصيرا، لن أستطيع منافسة رفاق سيتوقفون طويلا أمام الزلزال الهائل الذي أحدثه “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، رأيتُ أن أتوقف عند بعض ما أتصور أنه وراء الكثير مما عشناه في السنوات الماضية من هزائم وكوارث ونكبات، وما أرى أنه ليس بعيدا عن الأوضاع التي دفعت قوات المقاومة الفلسطينية إلى إنجازات ذلك اليوم الخالد.
وتتعلق الوقفة بمقال قدمته “رأي اليوم” أول أمس حول ذكرى رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وجعلتني قراءته المغتصبة أحسّ بأن هناك من يتصور بأن معظم القراء “مسطولون” لا يعرفون أبجديات التاريخ العربي المعاصر، حيث اتخذ وقفة أمام مسيرة الإخوان المسلمين التاريخية رأيتها بعيدة تماما عن النقد الذاتي الذي طالب به المقال ممن توقفوا بالتقدير أمام مرحلة عبد الناصر، والتي اعتبرها، في تجاوزٍ مؤسف (حالة الاستبداد والدكتاتورية الذي جسد ناصر نموذجا سيئا من نماذجها).
وإذا كنت توقفت عند هذا الأمر فلأنني أرى أن عدم إعطاء القيادات الوطنية حقها من التقدير والتفهم، والتركيز على أخطائها وعثراتها بشكل مبالغ فيه، هو من أهم الأسباب التي تقف وراء وضعية المبالاة بل والتبلد الذي أصبح يميز حركة الجماهير، بعد أن جعلوها تكفر برجالها وبماضيها.
كان يكفي في الآربعينيات والخمسينيات والستينيات أن يُنفى وطني أو يستشهد مقاوم أو يُعتقل مناضل لكي يلتهب الشارع العربي، كما حدث مع استشهاد القسام أو نفي محمد الخامس أو اختطاف أحمد بن بله أو اعتقال جميلة بو حيرد، واليوم يرتفع عدد الشهداء والجرحى إلى مئات الآلاف، لكن الأغلبية الساحقة، خصوصا في الدول التي تدعم العدوّ، تبدو غثاء سيل، لا تُحرك ساكنا ولا ترفع صوتا ولا تجرؤ حتى على أداء صلاة الغائب.
والمقال الذي فتحت له “رأي اليوم” صدرها من باب احترام كل الآراء كان قاسيا في تناول مسيرة ناصر، مرجحا كفة السيئات على كفة الحسنات، وعلى النقيض من ذلك لم يُحمّل قيادات الإخوان المسلمين، بمختلف امتداداتهم، أي مسؤولية، كبُرتْ أم صغُرتْ، عن (حالة الانحطاط التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في هذه الحقبة من تاريخها، وحالة الشلل الكامل أمام عربدة حكومة نتنياهو – سموتريتش – بن غفير، التي تجتاح وتقتل وتدمر شعوبا ودولا عربية، مستهترة بملياري مسلم حول العالم وسبعة وخمسين دولة عربية وإسلامية) متناقضا بذلك مع ما يأخذه على “الآخرين” من (غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة عبد الناصر البشرية، بهدف الاستفادة منها لبناء الحاضر والمستقبل) حسب ما جاء في المقال.
ولا يسجل المقال، على الأقل من باب الأمانة الفكرية، أن خصوم عبد الناصر بالأمس هم اليوم، بعد غيابه وأقرانه، المتخاذلون المطبعون الذين يرقصون بأعلام النجمة السداسية، ويقيمون الأفراح والليالي الملاح للتغطية على مأساة فلسطين ولبنان، ويزودون الكيان الصهيوني بالوقود والأغذية بل وبالمقاتلين وبما لا نعرف عنه اليوم الكثير.
أكثر من ذلك، يقول المقال، في إشارة لعبد الناصر، بأن (الأوضاع المتردية التي يعيشها العالم العربي بدأت تتشكل في سنوات حكمه الثمانية عشرة منذ العام 1952 وحتى العام 1970؟!…) وهذا، في نظري، هو أبعد ما يكون عن الموضوعية التي يتطلبها من يريد منا عدم تناسي تضحيات شباب الإخوان المسلمين، منذ حرب فلسطين في الأربعينيات.
ولقد تناولتُ ممارسات حركة الإخوان المسلمين، سلبا وإيجابا، أكثر من مرة، وفي حدود ما عشته وما عايشته، ورفضت دائما منطق التعامل مع الأحداث على أساس تقسيم البشر إلى ملائكة وشياطين، لكن المقال يسيئ الظن بذاكرتنا جميعا، فيخلط السكر بالملح، ويشير لما يسميه حرفيا (انقلاب/حركة/ثورة 23 تموز/يوليو 1952) التي كان (للإخوان المسلمين الدور الكبير في نجاحها وحمايتها في أكثر مراحلها خطورة، وذلك باعتراف الثورة نفسها) وهو أمر صحيح تاريخيا وعشته شخصيا طالبا في القاهرة وعضوا في خلية الإخوان بالمعادي، فيجزم بأن (الإخوان المسلمين لم يطمحوا يوما في السيطرة على الثورة أو فرض الوصاية عليها).
وهذا القول بعيد كل البعد عن الصحة، وكان من أسباب انهيار التحالف المرحلي بين قيادة الإخوان المسلمين وقيادة ثورة يوليو، وكان من تداعياته المصير المؤسف للرئيس المصري محمد نجيب، الذي كانت شجاعته بترأس حركة الجيش في 23 يوليو 1952 من أهم أسباب نجاح الثورة، لكنه خسِر الصراع عندما خُيّل له، عبر تشجيع يعرف الجميع من وقف وراءه، أنه قادر على تجاوز القيادة الفعلية للحركة، وتناسى من دفعوه لذلك أن موقع القيادة في أي مكان في العالم ليس فيه إلا كرسي واحد.
ولقد تعرض رجال الإخوان المسلمين إلى ظلم رهيب خصوصا في السنوات الأخيرة، لكن تسجيل دورهم في حركة النضال العربي يتطلب من المتعاطفين معهم والمؤيدين لهم والمرتبطين بهم حدا أدنى من الموضوعية الذي تفرضه وقفة النقد الذاتي، حتى لا يُدفع المجموع الوطني إلى الانسجام مع الطروحات الانقلابية، التي كانت وستظل دائما يدَ الأطماع الاستعمارية للسيطرة على المنطقة العربية والإسلامية.
وأنا أتفق تماما مع الاستنتاج الذي وصل له المقال من أن: (المراهنة على قوة العسكر والمخابرات وأجهزة الأمن مهما بلغت في وحشيتها وقسوتها وعدائها للشعب وولائها للنظام من جهة، وعلى الحليف الأمريكي أو الصهيوني من جهة أخرى في حماية هذه الأنظمة، لن يجدي حينما يتحرك الشعب بكل قطاعاته كما حدث في ثورات الربيع العربي… إنها حتمية دينية وتاريخية: دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة… والعاقل من اتعظ بغيره!!!…) أو كما جاء في المقال.
وأنا أتصور أن كل ذلك يتطلب، من بين ما يتطلبه، الالتزام بقوله تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.
وأنا أؤمن بأن حركة الإخوان المسلمين، منذ أنشأها الشهيد حسن البنا في العشرينيات، كانت جزءا نشطا من حركة التاريخ وظاهرة حيوية في مسيرة الأمة، اجتهدت وأصابت واجتهدت وأخطأت، ومن حقها، بل ومن واجبها، أن تظل جزءا فاعلا على الساحة العربية، بشرط أن تدرك قياداتها أن ذلك يتطلب دراسة التاريخ وإعادة التقييم ومواجهة النفس ومراجعة التحالفات وتفهم التوازنات وإعطاء كل ذي حق حقه.
والمدرسة الأولى لكل ذلك هي حركة المقاومة الإسلامية التي نحتفل هذا الأسبوع بأعظم إنجازاتها، والتي وضعت القضية الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات العالمية واستثارت الكثير من شعوب الغرب ضد قياداتها، وفضحت كل قيادات الشمال بعد أن فضحت معظم قيادات الجنوب، وأكدت أن الصراع الحقيقي، أمس واليوم وغدا، هو صراع حضاري بالدرجة الأولى.
ولقد أرسل لي القارئ المتميز الأخ علي بن فليس، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق، مقالا منسوبا لسياسي بريطاني معاصر، جاء فيه:
“خلافاتنا في الحقيقة ليست مع الشعوب الإسلامية ولا الأنظمة الحاكمة، لأن الأنظمة تدور في فلكنا وتستمد بقاءها من جانبنا، وتنفذ سياساتنا التي تخدم الأمن القومي الغربي بغض النظر عن أمنها القومي.
إن مشكلتنا الحقيقة تكمن في الإسلام ذاته ومع محمد نبي الإسلام نفسه، لأنه دين يمتلك الإجابات التفصيلية لكل الأسئلة الوجودية والحضارية، وهو منافس عنيد للحضارة الغربية التي بدأت تفقد ألقها، بينما الإسلام ومحمد يزداد ألقا حتى داخل مجتمعاتنا الأوربية التي أتاحت لها القيم الليبرالية حرية التفكير، وأضعفت سلطة الكنيسة، وهذا التفكير الحر المجرد قاد الكثير من النخب والشباب إلى اعتناق الإسلام، لأنهم وجدوا فيه كل الإجابات عن احتياجاتهم النفسية والروحية والوجودية والاجتماعية التي أغرقتهم فيها حضارتنا المتناقضة.
نحن مشكلتنا الحقيقة مع الإسلام نفسه وستظل كذلك لأنه ليس لنا إلا خيار مواجهة التدفق الإسلامي والفكر الإسلامي بشتى الطرق، لأن الخيار الآخر هو أن نعترف أن الإسلام دين الله الحق ودين يسوع وكل النبيين.
وهذا سيعيدنا إلى المربع الأول في صراعات الدين والدولة في الفكر المسيحي، على أن هناك فرقاً شاسعا بين الإسلام والمسيحية في تلك القضايا.
ليس لنا خيار سوى مقاومة الإسلام ولو أدى ذلك إلى تخلي بلداننا ومؤسساتنا على القيم الليبرالية، وكذلك علينا أن نمنع الهجرة من العالم الإسلامي إلى أوربا وأمريكا ولو بالتعاون مع الدول الإسلامية ونفتح المجال لهجرة الشعوب غير المسلمة.
ومن جهة الأخرى يجب الاستمرار في دعم إسرائيل مهما كانت إجراءاتها قاسية، حتى لا تسمح بإقامة نواة لنظام إسلامي في غزة يشجع الشعوب الإسلامية على احتذاء التجربة، وممكن في هذا المجال الاستفادة من الدعم الكبير الذي تحظى به إسرائيل من الدول العربية، التي تخاف من قيام أي نظام إسلامي أو ديمقراطي، وهذه نقطة ثالثة مهمة وهي دعم الأنظمة العربية ومؤسساتها وجيوشها وأجهزتها المختلفة التي تمنع قيام أي نظام يستمد قيمه من تعاليم محمد ومن كتابه المقدس.
لا يهم إن كان ما نقوم به خطأ أو باطلا أو شرعيا أو غير شرعي، فهذه مسألة يجب أن تكون محسومة ونعمل عليها ومن خلالها، نحن أمام تحدٍّ كبير لقيمنا الليبرالية وأمننا القومي وهما الآن قيمتان متناقضتان وبين الزخف الإسلامي المنبعث من كل مكان في العالم وكأنه بخار الماء الذي لا ندري من أين طلعت عليه الشمس، لا يجب أن نختبر صوابية وخطأ القيم الإسلامية لأن ذلك قد يقود أكثرنا إلى الإسلام والقيم الدينية المحمدية، وفي نفس الوقت هناك حاجة إلى جرعات من المسيحية ولكن بصورة منضبطة لا تؤثر على إنجازات الحضارة الغربية، بهدف الحد من توغل الإسلام إلى ديارنا.
نحن الآن بين خيارات متناقضة ومخيفة لأن الاستمرار في خياراتنا الليبرالية يفقدنا الحصانة من الزحف الإسلامي، والعودة إلى الكنيسة يهدم قيمنا الليبرالية ويؤثر على منجزاتنا الحضارية، وقد نشأت أجيال في الغرب لا تؤمن بالمسيح ولن تستطيع العودة إلى الكنيسة بعد رياح الانفتاح اللا محدودة” (انتهى النص).
*************
وبعد…. هذا ما يقولونه هم وذلك ما يقوله بعضنا، ولن أضيف كلمة واحدة.
*مفكر ووزير اعلام جزائري سابق