اليمن الحر الأخباري

تجنيس الصهاينة!

د.خديجة صبار*
يتداول في الساحة المغربية حديث عن ملتمس لمنح الجنسية لأبناء وأحفاد اليهود الصهاينة ممن يدعون أن لهم أصول مغربية، وتَسلّم الجهات المختصة للملتمس قصد تدارسه. بم نفسر احتمال منح الجنسية لأبناء وأحفاد من تنكروا بالأمس لليد التي ساندتهم وحمتهم من تبعات النازية، إذ رفض سلطان المغرب تطبيق قانون فيشي Vichy عام 1940، ومكنتهم من وضع قانوني مساو للوضع المخول للمغربي المسلم، وبنفس الحقوق والواجبات لكنهم استمروا في الهجرة المكثفة إلى فلسطين(القدس، طبرية، وصفد) ولم تستطع لا الحياة المشتركة منذ القدم على نفس الأرض ولا القرابة اللغوية والعادات والتقاليد أن تعوض انعدام الثقة والتنافر على اختلاف أنواعها، واندماج الطائفة في الأسرة المغربية الكبيرة، وخلق “الوفاق” مع كيان مهووس بالعرق بيولوجيا وبالكذب طبيعة أنطلوجية لديه.
كانت الجماعات اليهودية حينها تتخذ من أرض المغرب مستقرا بهدف جمع المساعدة لمفوضي الأرض المقدسة “الأحبار الرسل” من بولندا وألمانيا، يطلبون باسمها حق مساعدة يهود “الدياسبورا”، ويعتمد هذا الطلب الشرع والتقاليد:”يجب على كل يهودي أن يستقر ” بإريتس يسرائيل”. والذين لا يستطيعون القيام بهذا العمل حقيقة، عليهم أن يحققوه بأموالهم، وذلك بضمان عيش أولئك الذين يسكنون أرض إسرائيل، بحيث يكون هذا العمل بمثابة إقامتهم فيها.”[1] بم نفسر احتمال منح الجنسية لمن كان آباؤهم وأجدادهم بالأمس مادة لتعمير دولة الكيان المغتصبة ويمارسون دورهم الوظيفي لترسيخ مصالح الغرب ويحملون على كتفهم سجلا تاريخيا طويلا من الجرائم والغطرسة، المسكون بغريزة قوة وطاقة تدميرية لا تطاق، لمن وجوده الاستعماري الاستيطاني رهين بإلغاء ” الآخر” وتدمير “الآخر” يدمر الإنسانية فينا ! هل يخطط من وراء التجنيس لتطبيق وثيقة “كيفونيم” الصادرة عن “المنظمة الصهيونية العالمية”، واستغلال الهويات من قبل القوى الخارجية كما أشارت الوثيقة، لخلق الانقسامات العرقية والثقافية كأداة لتفتيت الدول وإضعافها! تحليلنا سيتكئ على المقاربة التاريخية المبددة للزوايا المعتمة.
أولى هذه الزوايا أن الوطن ورث سرطان الصهيونية زمن الاستعمار. وبمجرد قيام دولة الكيان في فلسطين 1948، أضحت مختلف الحركات “الكيبوتسية” والأحزاب الصهيونية ممثلة في المغرب عبر مبعوثين يتصارعون من أجل النفوذ. وبدأت منظمة الكاديما (Kadima) ومقرها في الدار البيضاء تشرف على عملية التهجير؛ وكانت تنتقي الشباب اليهودي من سكان الجنوب المغربي وجبال الأطلس، مثل النظام النازي، لتدربهم على مهنة الفلاحة في ضيعات (سايس والشاوية والحوز) قصد بناء المستعمرات الزراعية بأرض فلسطين المحتلة، والإكثار من الحقول الخضراء بعمل جبار لرواد ياشوف(الوطن القومي)، وهؤلاء هم من أسس أكثر من مائة من القرى التعاونية في النقب والجليل وفي تخوم فلسطين. منعت الحكومة بناء على توجهات السلطان محمد الخامس الهجرة لأن اليهود المواطنين يجب أن يبقوا في وطنهم المغرب للقيام بواجباتهم نحوه، في عهد كان عهد التجديد والبناء، ولا يسمح للصهيونية أن تتخذ من ربوعه ميدانا للتجنيد والإعداد والتآمر على فلسطين العربية لكن قرار السلطان خُرق من طرف الصهيونيين.
صحيح أن اليهود المغاربة وليدي تربة الوطن، وشكلوا الأقلية الدينية الإثنية غير المسلمة، وامتزجوا بساكنته المسلمة والأمازيغية منذ القرون الوسطى، وتدفق الآلاف منهم هروبا من محاكم التفتيش الإسبانية. وعلى امتداد قرون لم يكن لهم وطن غير أرض المغرب في كل تاريخهم منذ قيام “دولة الأدارسة” حتى مشارف القرن العشرين لكن ظلت أعين الحركة الصهيونية متجهة نحو شمال أفريقيا، ولم تغب يهودية المغرب عن الصهيونية السياسية منذ ولادتها؛ فقد أثيرت قضية 150000 يهودي مغربي أثناء أول مؤتمر صهيوني ببازل (سويسرا) سنة 1897، بادعاء أنهم فقراء. وعد “هرتسل” أب الصهيونية في المؤتمر الرابع عام 1900 الذين أعابوا عليه انعدام دعاية صهيونية في شمال أفريقيا وآسيا، بأن يبعث عضوا من لجنة العمل الصهيوني إلى المغرب، لأنه وجد في هذا البلد” يهودا هم أكثر موالمة للاستنبات في فلسطين.”[2] ومن مشروعاتها جمع الأموال وإرسالها إلى المحتاجين من اليهود ذوي الأصول المغربية ليتبين ادعاؤها كما يوضح الزعيم علال الفاسي:” وقد علمنا أن هؤلاء المهاجرين كانوا من الطبقة الوسطى التي تصحب معها ما تجمعه من بيع ممتلكاتها وأثاثها، ومعنى هذا أننا نمد الكيان بمئات من الصهيونيين الأغنياء الأصحاء، لتعمير الأرض العربية ومحاربة إخواننا العرب”،[3] والإعداد لحركة سياسية تريد أن تحقق أهدافا فيما وراء حدود المغرب، ليظهر ما بين 1900 و 1912 قبل الحماية، مجموعات تروج للصهيونية في مدن فاس وصفرو ومكناس ومكدور ومراكش وتطوان وطنجة، وتولي الكثير من اليهود، خريجي المدارس التي أسستها ” الرابطة الإسرائيلية العالمية” (L’Alliance Israélite Universelle) الإطار الجامع للحركة الصهيونية وظائف سامية. وتعتبر هذه المدارس سلاحا مدمرا سخرته الصهيونية لنشر إيديولوجيتها للتدخل بعمق في أحشاء الدولة المغربية، أولاها أسست بتطوان عام 1862، لتعمم في أرجاء أخرى من الوطن: البيضاء، طنجة، القصر الكبير وغيرها، وكان مسيروها يعينون من خارج المغرب، وسوف تلعب دورا محوريا في بناء مؤسسات مختلفة لتحقيق مشروع “دولة اليهود”، وتمهد الطريق لنمو الحركة الصهيونية في أوساط خريجيها لفصلهم عن الواقع المغربي. وظلت مجموعة من اليهود التي كان عليها السير في مسار المغاربة للنظر في قضية الاستعمار، تسعى لإيجاد جمعيات صهيونية في المدن وربط نشاطها بوعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود. وما أن أسندت عصبة الأمم إدارة فلسطين للإنجليز حتى تطلعت آمال بعض متزعمي الحركة الصهيونية في المغرب إلى الحصول على الحماية الإنجليزية، وبعثت الرابطة الإسرائيلية العالمية اليهودي البولوني جوناثان تورز (J.Thursz) عام 1923، مندوبا عن اللجنة التنفيذية الصهيونية وممثلا للحركة في المغرب، للمشاركة في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر المنعقد بتشيكوسلوفاكيا، واستقر بالدار البيضاء، ليعيد تنظيم الحركة التي تعرف باسم “الاتحاد الصهيوني الفرنسي فرع المغرب،”[4] بواسطة الأدوات المهمة التي تستخدمها الرابطة الإسرائيلية العالمية أي المجلات والنشرات والدوريات لنشر الأفكار والتوجهات الإستراتيجية، فأصدر مجلة نصف شهرية عام 1926 (L’Avenir Illustré) ذات الاتجاه الصهيوني، وأحاط نفسه بصحفيين محترفين على غرار المجموعة المنشطة لجريدة (El Renacimiento de Israel) التي أسسها اليهودي البولوني الإسباني (Asher Perl) بطنجة، للترويج للهجرة إلى فلسطين والتأثير في فكر الشباب اليهودي المغربي عبر النص والصورة، للاحتفاظ بروابط وثيقة مع الفكر اليهودي العام ووسائل تعبيره المختلفة وبصلات في ميدان الكتابة العبرية والإبداع الأدبي الكلاسيكي والتقليدي أي بالإنسانيات اليهودية، باعتبار فلسطين الوطن الذي تجب العودة إليه لتغوص في أخبار ومشاريع الاستيطان، وجمع الأموال للصناديق اليهودية التي كانت تعمل على شراء الأرض وتمويل مشاريع البناء فيها، وجمعت بين تمتين الأسس الإيديولوجية الصهيونية العالمية والربط بين الصهيونية العالمية والثقافة الفرنسية. وتعددت أنشطة الحركة في جميع أرجاء الوطن بما فيه منطقة الشمال ذات التبعية الإسبانية؛ وضمنها زيارات لمحاضرين ممن كانت تبعثهم الفدرالية الصهيونية الفرنسية للتأثير في الطبقة اليهودية المغربية المثقفة، وإعلامها بمشاريع الاستيطان في فلسطين وجمع الأموال من أجله، وربط العلاقات بين الطوائف وتنظيم الزيارات بين المغرب وفلسطين، ليصبح المغرب حاضرا دوما في المؤتمر الصهيوني العالمي منذ عام 1926 في شخص(J.Thursz )، وأصبح عضوا ممثلا لليهود المغاربة في مكتب الوكالة اليهودية الموسع، ينطق باسمهم ويصنع مصيرهم.
قطع اليد الممدودة
كان بمُكن الوضعية التي تمتع بها يهود المغرب والحقوق المعترف لهم بها أن ترضي رغباتهم وتفرض عليهم واجبات الإخلاص للوطن إلا أن توافدهم على الهجرة إلى إسرائيل سرا بديلا في الفترات الصعبة أي عند الوقف المفاجئ للهجرة المعلنة لم يتوقف. وبدل أن ينحازوا للسلطان الذي رفض تطبيق قوانين فيشي على منطقة الحماية الفرنسية من هيجان الأوساط الأوربية المعادية للسامية التي دعت إلى تقتيل اليهود، كان أرحم بهم مما اعتقدوه منجاة غربية، واستغلوا الإنزال الأمريكي بالبيضاء عام 1942، وربطوا علاقات مع الهيئات العالمية اليهودية، وشارك وفد يهودي صهيوني مغربي في مؤتمر الحرب الطارئ الذي انعقد في نوفمبر عام 1944 في أتلنتيك سيتي Atlantic-City الذي هيأ لرفع القيود الإنجليزية التي تحد من الهجرة لفلسطين ونشط مساعي تأسيس “دولة اليهود” وسرع التهجير الجماعي المكثف نحو فلسطين وقدم العون ل اللاجئين الذين تقاطروا على المغرب من إسبانيا. متّن الوفد اليهودي المغربي علاقاته مع النافذين في الصهيونية وربط مسيرو الطائفة ومثقفوها مصيرهم بفرنسا وحضارتها وثقافتها، وتنكر أبناء الملاح(=الغيتو) المغاربة للملاح ورموزه تنكرا لفضائله وقيمه الدائمة في نفس الآن.[5] ولم يتأثر نشاط التنظيمات الصهيونية بمضمون “عريضة الاستقلال” (1944) التي رفض وجهاء اليهود توقيعها، فلا البيعة التي في عنقهم تجاه السلطان، ولا الإصلاحات التي تم إدخالها لصالحهم، ولا السكينة التي كانوا ينعمون بها، تركهم في منأى عن التوجهات الصادرة عن المنظمة المركزية للصهيونية، ووجه الصهاينة المرتبطون بأوربا صلواتهم نحوها قطعيا،[6] مع الإيمان باستحالة الاندماج كمبدأ رئيس للصهيونية واعتبروا مستقبلهم فلسطينيا لا مغربيا، وتجاهلوا الدعوة إلى الكفاح المشترك التي كانت كتلة العمل الوطني تدعو إليه “المواطنين اليهود”، خاصة وأن اتساع الاضطهاد الهتليري سهل مهمتهم في تحسيس الجماعات اليهودية بضرورة المساهمة المضطردة لفائدة الوطن القومي، وتخلوا عن واجباتهم المغربية، و”جبنهم” تجاه الإقامة العامة، ورد صهيونيو الدار البيضاء في صحافتهم قائلين إن:” قضايا السياسة المغربية لا تهمهم بكيفية مباشرة أو غير مباشرة” أما ما يتعلق بشجاعة اليهود ” فإن الأمر لم يعد في حاجة إلى برهان، لأن قرونا من المعاناة طهرت اليهودية من عناصرها الضعيفة”. وبنوا التهجير والتخلي عن أصولهم المغربية على أسباب واهية تتعلق بسياسة المغرب المستقل منها أولا: حرمان يهود المغرب من جواز السفر علما أن الغالبية العظمى من المغاربة والمسلمين لا يحصلون عليه، ثانيا: قطع العلاقات البريدية مع الكيان علما أن قطع العلاقات بين الدول شريعة يجري العمل بها متى اختلفت الأهداف وحدث الضرر، ثالثا: تعريب جهاز الدولة ومغربة إدارتها، واستعمال اللغة الوطنية من المبادئ المقدسة مارسه مؤسسو دولة الكيان الصهيوني قبل غيرهم، والمغربة أمر ضروري، رابعا: انتماء المغرب إلى الجامعة العربية والتنصيص في الدستور على أن المغرب دولة إسلامية، وليس في الانتماء إلى جامعة الدول العربية ما يخيف يهودا حماهم ملكهم من قوة جائرة، قهرت دولا، وبالأولى من حيف دول، إذا كانت، قضيتها المشتركة هي فلسطين، وهي أمر سياسي وليس دينيا. اقتلعت هذه الحالات النفسية ما بين 1956، 1966 اليهود من جذورهم الممتدة في تربة المغرب، إذ دأبت الحركة الصهيونية على بذر بذور الشقاق عبر البحار والمحيطات والمنازعات المتكررة وعمليات الإبادة والدمار الشامل كي تفتح للصهيونية أبواب فلسطين مما يدل على أنها حركة هدامة في المغرب وغيره من الدول العربية والإسلامية، وحجم التوغل الصهيوني في مفاصل الدولة وأدواتها المؤسساتية منذ زمن بعيد.
وأن يرغب أبناء وأحفاد الصهاينة اليوم في التجنيس بتعلة أن المغرب وطنهم الأول ومن حقهم العودة إليه وهم السكان الأصليون إلى جانب إخواننا الأمازيغ بهتان لواقع موبوء، ودليل على مخططاتهم الهادفة لتغيير التركيبة السكانية للشعب المغربي عبر التهجير القسري وفتح الباب لمختلف الأجناس من أجل التغييرات في الهوية الثقافية والوطنية. وغدا سيقول الصهاينة أن اليهود المغاربة كانوا يمتلكون حقوقا حصرية في المغرب علما أن جميع الذين هاجروا صهاينة، ولهم اليوم حق المطالبة بوطن أجدادهم المزعومين. وسيضحى المغاربة تبعا لهذه البديهيات كمفهوم ضمني مستعمرين لأرض الكيان كما عنونت إحدى الصحف “المغرب أرض اليهود” (Maroc terre juive Le)، وكأنهم سيعودون إلى وطنهم بعد إقامة طويلة في الخارج بناء على المراوغة الإيديولوجية للمشروع الصهيوني من أساسه. فهل الهدف من وراء التجنيس تطبيق وثيقة “كيفونيم” الصادرة عن “المنظمة الصهيونية العالمية”، واستغلال الهويات من قبل القوى الخارجية كما أشارت الوثيقة لخلق الانقسامات العرقية والثقافية كأداة لتفتيت الدول وإضعافها، مما يتماشى مع أهداف الصهيونية المتمثلة في تفكيك الهوية الوطنية الجامعة إلى كيانات طائفية وإثنية لزعزعة الدول العربية باستغلال تلك الفروقات مما يضمن لها التفوق الاستراتيجي في المنطقة؟ حين وقّعت بعض الأنظمة العربية اتفاقيات سلام بدءاً بمصر أكتوبر عام 1973، استغلّ الغرب المستعمر المناسبة لتحويل مسار المنطقة من توجهاتها الوطنية إلى التركيز على هوياتها الدينية والطائفية، إيغالاً في التفرقة وتهديم أي مسار للتلاقي والتلاحم الضروريين للمواجهة والتحرر. وباسم صفقة “القرن” حاول الرئيس الأمريكي”ترامب” إجهاض أية تطلعات لاستقلال فلسطين أو بناء دولة حتى لو كانت ممزقة جغرافيا وبلا سيادة! أي الإلغاء الفعلى للقضية الفلسطينية الباحثة عن تقرير المصير، بعد تجريدها من الدَّعم العربي الصاد لمشروع الصهيونيَّة العالَميَّة “إسرائيل الكبرى” و”الإبراهيمية” لولا غزة العزة، بؤرة طوفان الأقصى الذي اقتحم العقبة والضفة الغربية مساندة وبيروت الإباء ليخرج الشر الجذري الصهيوني وبربريته وهمجيته ووحشيته ومدى حقده على “الآخر” بنظامه العنصري المغلف بالديمقراطية والقيم الغربية الخرساء أمام إجرام الصهيونية الاستيطانية، الذي أيقظ الوعي بالقضية وعدالتها في مكان ما من العالم! وبسالة المقاومين المدعوم بجبهة الإسناد فما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر كما يقول “إدمود بورك” هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي دون القيام بعمل ما.” ختاما ما جدوى تجنيس الصهاينة، وتاريخهم شاهد على المجازر والإبادة الجماعية والهجوم على التنوع الإنساني وميزة الحالة الإنسانية؟ من أضحى رهانا للاستعمار الجديد واستمراره؟ .
*كاتبة واكاديمية مغربية

Exit mobile version