اليمن الحر الأخباري

جولة على طريق الشهداء..!

حماد صبح*
الاثنين، الخامس والعشرون من نوفمبر الحالي. شمس الأصيل فضية تغلب برودةُ الخريف حرارتها الواهنة. الشتاء أخذ يزحزح الخريف مستعجلا قدومه الفلكي الذي يبدأ في الحادي والعشرين من ديسمبر المقترب. عزمت عقب صلاة العصر على أن أذهب إلى طريق الشهداء الذي تقرر دخول المساعدات منه إلى قطاع غزة. إسرائيل تسميه طريق كيسوفيم.
اسم مستوطنة شرقي خط الهدنة، وهو كان الواصل بين إسرائيل وبين مجمع مستوطنات جوش قطيف في الغرب ويفصل بين بلدية القرارة في الجنوب وبين بلدية وادي السلقة في الشمال، والمسافة بينه وبين بيتي الذي كان عامرا بأهله قبل الحرب كيلومتر تقريبا. دراجات هوائية ونارية وعربات دواب، ومشاة على الطريق المتجه إلى طريق الشهداء. كلهم يسرعون إليه. شاع وذاع وملأ القلوب والأسماع أن شاحنات مساعدات دولية ستمر منه بعد قليل. يطمعون في إيقاف بعضها والاستيلاء على حمولتها من الدقيق مثلما فعلوا من قبل. تسرح عيناي شرقي الطريق الذي أسير فيه وغربيه ؛ طريق السلطاني.
صار الآن ترابيا بعدما جرفت قوات العدو طبقته الأسفلتية. على جانبيه بيوت مهدمة كليا أو جزئيا، وأشجار زيتون يبست، وأخرى ما فتئت فيها بقية حياة وتنتظر أن يغيثها الله الرحيم بالمطر الراوي العميم، وتلات تراب كبيرة، وسواتر تراب عالية ضخمة أقامتها جرافات العدو لوقاية جنوده. دائما لا قتال إلا من وراء حصون وجدران ولو من تراب وطين. على طريق الشهداء الناس جماعات جماعات، بعضها قليل وبعضها كثير، وبعضها واقف وبعضها يسير، وسيارات صغيرة، وعربات دواب، ودراجات.
الكل يترقب متحفزا. الغبار يتطاير مع أي حركة. صعدت مع الطريق شرقا حيث يرتفع تباعا، ونفحني دفء مبهج من نار أوقدها ثلاثة شبان في جانبه القبلي، وفي المكان ناران أخريان في جانبه الشمالي. الجو بارد، والحطب جم من الشجر الذي اجتثه العدو بجرافاته. ويتجمع أكثر المنتظرين في المكان الذي يبلغ فيه الطريق أقصى ارتفاعه، وبعدئذ يبدأ في الانحدار، ويصير كل من فيه منكشفا لقوات العدو المتمركزة في مواقع محصنة عند خط الهدنة. وفي قمة الطريق يحتشد عدد كبير من المنتظرين لوصول الشاحنات المحملة بالمعونات قادمة من بوابة على خط الهدنة يشرف عليها طبعا الإسرائيليون. وفجأة لعلعت رصاصات من بين الحشد. لعل بعض الحراس المكلفين بحماية الشاحنات عند وصولها إلى هذا المكان هو الذي أطلقها، وفورا أطلق الإسرائيليون الرصاص غربا، وفر بعض الناس خاصة الصغار حانين قاماتهم، وسكت الرصاص فعاد الفارون إلى حيث كانوا. وقبل ساعات أصابت طائرة كواد كبتر شخصا من أهل المنطقة في عينه، وقتلت حمارته التي يسترزق بالنقل عليها، وأصابت شابا آخر برصاصة في صدره.
ولم تأتِ الشاحنات. غادرتْ الطريق. أناس جدد يأتون إليه من جهات متعددة. سرت عائدا تتحاور في بالي أفكار وأفكار، وتجيش عواطف وعواطف، وتنهمل ذكريات وتوقعات. متى يأذن الله _ جل قدره _ باختفاء هذه الكروب ؟! وقدمت إلى سماء المكان طائرة استطلاع، وطفقت تحوم فوقه بصوتها المزعج الملحاح، وهذه الطائرة فوق كونها استطلاعية المهام يوظفها العدو في غاية مجرمة أخرى هي إزعاج الناس وتوتير اعصابهم وإقلاق راحتهم في الليل والنهار. ويركز العدو إرسالها أول الليل وقت النوم، وأول النهار وقت الصحو، وفي الوقتين تغم على صوت أذان صلاة العشاء، وأذان صلاة الصبح. وأحيانا تكون في سماء المكان أكثر من طائرة.
هل من عدو في خسة ونذالة وحقارة هذا العدو ؟! كتب جدعون ليفي منذ أيام في مقال في ” هآرتس ” أن الجنود الإسرائيليين فخورون بما اقترفوه في قطاع غزة من فظائع القتل والتخريب. ونحن نقول إذا كان عدوك في قاع هذا الغور الغائر من الخسة والنذالة والحقارة الأخلاقية والتعري من أقل الفضائل الإنسانية فاستبشر خيرا وأملا باختفائه من تحت الشمس. وحكيمٌ نفاذ الرؤية شاعرنا الكبير أحمد شوقي إذ يجزم: “وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت = فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.
تبقى الأمم وتزدهر ويتألق وجودها نورا، ويفيض خيرا ما بقيت أخلاقها الفضلى، وتختفي ما اختفت هذه الأخلاق. وقد لا يكون الاختفاء ماديا، قد يكون قيمة ودورا، وأي حياة هذه التي يحياها شخص تافه أو أمة تافهة مزدراة من الآخرين، ومن ذاتها في أعماقها وإن كابرت وخادعت هذه الذات؟! وهل يعي الإسرائيليون وعيا صحيحا منصفا لأنفسهم قبل سواهم دلالة أن يكون رئيس وزرائهم نتنياهو، ووزير دفاعهم المقال جالانت مطلوبين للعدالة الدولية، وأن تعلن عشرات الدول حتى الصديقة لكيانهم أنها ستقبض عليهما متى دخلا أراضيها؟! ثم هم، الإسرائيليون، خلاف سواهم من الدول، كيانهم مهدد أصلا بالاختفاء المادي لانعدام شرعية وجوده. وأخيرا قدمت الشاحنات! سمعت صوت أبواقها، فالتفت، ورأيت أشباحها في الغبار، وعددت منها سبعا، وتابعت عودتي.
الوسائل التي تدخل بها المساعدات، ومشكلات حمايتها في غياب قوى الأمن المسئولة التي يجب أن توفر هذه الحماية ؛ تفجر فوضى لا ضابط لها، وتحرم أكثر الناس من نصيبهم من هذه المساعدات. ولا حلول صالحة إلا بوقف العدوان كليا على قطاع غزة، وعودة كل شيء فيه إلى حال ما قبل العدوان حتى وإن كانت لا تخلو من بعض المصاعب. إنها جنة قياسا بالجحيم الحالي المتعدد اللهب.
*كاتب فلسطيني مقيم في غزة

Exit mobile version