د. فايز أبو شمالة*
غزة تعيش بكرامتها، ولأهلها أهداف سياسية كبرى، تتجاوز حدود غزة، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف النبيلة، يحتمل أهل غزة وجع التجويع والترويع، وهم الذين احتملوا حرب الإبادة الجماعية مدة 471 يوماً، لم تتوقف خلالها السكين الإسرائيلية عن جز الأعناق، حتى صارت غزة المعادل الموضوعي للتضحية والفداء، فمن يضحي بالنفس، ويجود بها تهون عليه صغائر الدنيا، وترخص أمامه كل المقتنيات التي يلهث من خلفها بقية البشر، لذلك غزة لا تمد يدها لقريب أو غريب طلباً للصدقات والمكرمات والمساعدات، غزة تعيش بكبرياء، غزة شامخة صامدة فخورة بعطائها، وراضية بنصيبها من الدنيا.
ضمن هذه اللوحة البطولية المشرفة لأهل غزة، والتي حركت مشاعر العرب والمسلمين وغيرهم من البشر تعاطفاً وتعاضداً ومناصرة لأهل غزة، تسلل بعض اللصوص والمدلسين والكذابين عبر محطات التواصل الاجتماعي، وسرقوا بطولات غزة وتضحياتها ومآثرها، وتسلقوا على ظهر المصائب، وادعوا أنهم ضحايا الكارثة، وأنهم عناوين البطولة، وراحوا يبعثون رسائل العوز والمظلومية والجوع والفقد إلى كل المواقع في العالم، مع بعض الصور لبيوت مدمرة، أو صور كاذبة لأطفال يفتشون في الحاويات عن لقمة خبز، أو لقطات فيديو عن أطفل محرومين شربة الماء، وعن نساء جائحات جائعات، وما شابه ذلك من طرق إبداعية في التسول، وطلب المساعدة، بما في ذلك ادعاء بعضهن بأنها أرملة مصابة، فقدت زوجها شهيداً، وترعى عدة أطفال قصّر، بعضهم مصاب بجروح، حتى وصل الأمر ببعض الدجالين أن يأخذ لقطات تمثيليه مع أطفال يتوسلون، أو يلهثون بطناجر فارغة، بحثاً عن الطعام، ويعرضها عبر محطات التواصل الاجتماعي، ويقدم نفسه الرحمن الرحيم، ليستدر عطف المشاهد الإنسان، ويحصد ما يقدر عليه من أموال المساعدات المقدمة للشعب الفلسطيني.
حدثني أحد العارفين بهذا الشأن قائلاً: تجاوز حجم الأموال التي تبرع بها المحسنون والمخلصون من أبناء الأمة العربية والإسلامية إلى أهالي قطاع غزة 4 مليار دولار، خلال سنة 2024 فقط، ذهب 25% إلى مكاتب الصرافة، ومسهلي الخدمات، وذهب بعضها فرق عمولات، وخصومات، وتسهيلات مصرفية وصلت في بعض الأحيان إلى 25% من قيمة الحوالة المالية.
التسول الإلكتروني لم يبدا مع معركة طوفان الأقصى، التسول أسبق من ذلك بكثير، فقبل معركة طوفان الأقصى بعدة أشهر، حدثي مسؤول العلاقات الوطنية الشهيد زكريا معمر قائلاً: أحد مكاتب الصرافة في خان يونس يتلقى حوالات مالية شهرية للمواطنين تتجاوز 10 مليون دولار، وفي ذلك دلالة على أن التسول الإلكتروني، أو النصب الإلكتروني أسبق من معركة طوفان الأقصى بكثير، ولكنه زاد، وتكاثر، وكبر، وتعددت أغراضه وأساليبه بعد معركة طوفان الأقصى، وبعد مشاهد الدم والموت والدمار والجوع والخوف، مشاهد استدرت عطف الإنسان العربي والمسلم، استغلها المدلسون والسارقون، فلبسوا ثوب الوطن، وتزينوا بدم الضحايا، وأخذوا اللقطات التمثيلية فوق البيوت المدمرة، مدعين أنها بيوتهم، وأنهم ضحايا العدوان الإسرائيلي.
أهل غزة بحاجة إلى كل مساعدة، وأهل غزة بمؤسساتها ومرافقها المدمرة بحاجة إلى من يقف معها، ويقدم لها يد العون، ولكن ضمن الجهات الرسمية الموثوقة، وضمن المؤسسات المعروفة بفعلها الميداني، والموثق بنشرات دورية، والمراقب من وزارة الداخلية، أهل غزة بحاجة إلى المساعدة، ولكن من خلال الشخصيات الوطنية المعروفة والموثوقة، ومن خلال المنظمات والجمعيات الخيرية العاملة في الميدان.
حدثني مسؤول: إن ميزانية إحدى الفتيات في غزة قد تجاوز مليون دولار، في غضون سنة، وهي التي جاءتني تفتش عن أي عمل بشواكل قبل معركة طوفان الأقصى.
مقالي هذا جاء بعد أن اطلعت علي عشرات الرسائل من متسولات ومتسولين، وكلها تتحدث اللغة نفسها، وتذرف الدموع نفسها، وتكشف عن الوجع نفسه، وتلك المشاهد القاتمة لا تعني انعدام المصداقية لأهل غزة، ولا تعني عدم وجود أسر متضررة من العدوان، ومقالي هذا لا يحض على عدم مساعدة المحتاجين، ولا يعني أنني غليظ القلب، بالعكس، فقد مددت يد المساعدة للكثير ممن هم في حاجة حقيقية، من الأسر المتعففة التي تأبى كرامتها أن تمد يدها طلباً للمساعدة، مقالي هذا جاء ليضع النقاط على حروف الواقع، وبعد الحديث المتداول عن أسماء سرقت ملايين، واختفت في غمضة عين.
مقالي هذا موجه إلى المخلصين من أبناء الأمة العربية والإسلامية، أن توخوا الحذر عند التبرع بأموالكم وصدقاتكم، وتحسسوا موقع أقدامكم، فأن تظل الأموال في جيوبكم، خيرٌ ألف مرةٍ من أن تذهب إلى جيوب من لا يستحقها.
*كاتب فلسطيني/ غزة