د/عبده البحش
تضم فرنسا أكبر جالية اسلامية في أوروبا الغربية، ويقدّر عددهم الرسمي بنحو ستة ملايين مسلم، وشهدت فرنسا نحو 18 هجوماً ارهابيا منذ عام 2015، وكلها خلّفت قتلى وجرحى، وارتكبها أشخاص ينتسبون إلى تنظيمات اسلامية متطرفة أو على الاقل متأثرون بها. وبحسب إحصاءات صحافية فرنسية، فقد ذهب ضحية العمليات الإرهابية نحو 253 شخصاً ما بين قتيل وجريح. ألقت الأحداث الارهابية المتسارعة في فرنسا، الضوء من جديد على أزمة المسلمين المتطرفين في المجتمعات الغربية، التي تستضيفهم كمواطنين او مقيمين فيها.
ظاهرة التطرف الاسلامي في اوربا عموما وفرنسا خصوصا ادى الى صعود اليمين المتطرف، الذي أعاد من جديد الجدل حول معضلة الحفاظ على قيم الدول الأوروبية في مقابل ما يراه خطراً لا يرتبط فقط بسلوكيات المتطرفين الاسلاميين، وإنما تنامت تلك المقولة، التي عبر عنها الرئيس الفرنسي وأثارت الأزمة الراهنة، وهي أن “الإسلام نفسه يعيش في أزمة”. تكافح باريس من اجل الحفاظ على قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية، من خلال سن تشريعات تحافظ على هوية الدولة الفرنسية، وتحمي وحدة المجتمع من خطر الانفصالية الاسلاموية.
هذه المقالة تدرس أزمة التطرف الاسلامي في الديار الفرنسية، وما تشكله من خطر على أمن فرنسا وأوروبا، خصوصا بعد الهجمات الارهابية المتزايدة، التي ضربت فرنسا اواخر العام الجاري. وعلاوة على ذلك تركز المقالة على تداعيات أزمة التطرف الاسلامي وسرعة الاستجابة الاوربية، وما ينتج عنها من تأثيرات على مسلمي أوربا. وبالاضافة الى ذلك، تعالج المقالة قضايا الدعم الخارجي للمتطرفين واستغلال المساجد والمدارس والجمعيات الاسلامية لتعزيز التطرف والكراهية والانفصالية. وتسعى المقالة ايضا الى تسليط الضوء على المخاوف الفرنسية والأوروبية من سرعة انتشار الاسلام وامكانية السيطرة على السلطة في العقود المقبلة.
أزمة التطرف الاسلامي في فرنسا
يبدو ان فرنسا قد ابتليت بوضعية معقدة فى علاقتها مع فاعلي التطرف والعنف الاسلامي، وربما يعود ذلك الى سياسات باريس المكشوفة تجاه الإرهاب، أو الانتشار الواضح لقواتها في معاقله الرئيسية، او الإرث الاستعماري للفرانكوفونية فى الذهنية الاسلامية الجهادية، او ربما باعتبارها مركزا لتصدير الجهاديين، ومركزا للحرية والعلمانية، التى يناوئها الفكر الاسلامي المتطرف. كل هذه الأسباب تجعل فرنسا من أكثر بلدان القارة الأوروبية تعرضا للهجمات الارهابية الدموية، التي حولتها إلى بؤرة للعنف في القارة العجوز.
من الواضح أن حادثة الطعن في نيس، والتى وقعت مؤخرا فى نهاية أكتوبر الماضى، وقبلها حادثة قطع رأس مدرس التاريخ صاموئيل باتي رفعت من وتيرة استمرار الحراك الإرهابي ضد فرنسا والذى بدأ مع أحداث مجلة شارلي إيبدو في عام 2015م. يرى البعض ان الأمر ابعد من ذلك بكثير، حيث كانت فرنسا هدفًا رئيسيًا للجماعات الإسلامية المتطرفة منذ عقود بسبب الإرث الإستعماري لباريس داخل الجغرافيا العربية والإسلامية، وهو ما عبر عنه زعيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري بقوله “إن الغزو النابليوني لسوريا وفلسطين عام 1798 كان مؤامرة خادعة لتأسيس دولة يهودية في فلسطين”. وهو ما جدد جذور العنف والإرهاب ضد فرنسا.
مع مرور الوقت تحولت أراضي الجمهورية الفرنسية إلى المستودع الأول للمتطرفين الإسلاميين في أوروبا، حيث يوجد 18000 ملف لدى جهاز المخابرات الفرنسي لأشخاص لديهم ميول للتطرف الاسلامي، بالاضافة الى أن وباء المتطوعين الجهاديين المتواجدين على الأراضي الفرنسية يسبق تاريخياً الصراع في سوريا والعراق ضد داعش، ويشكل امتدادا للموجة الإرهابية التي ضربت الجزائر في تسعينيات القرن الماضى، خاصة وأن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كانت أول منظمة إرهابية تضع مهاجمة فرنسا في صدارة أولوياتها الجهادية.
تشكل فرنسا منطقة جذب هامة للعمليات الإرهابية الاسلامية، وذلك بفضل العديد من العوامل المساعدة التالية، العلمانية الفرنسية، التي حظرت ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية عام 2004م، ثم منعت ارتدائه في الشارع عام 2010م. الرؤية الفرنسية لحرية التعبير، التي تسمح بانتقاد الأديان على نطاق واسع، قد وضعت باريس في مرمى المتطرفين الاسلاميين، يضاف إلى ذلك استضافة فرنسا لأكثر من ستة ملايين مسلم، وهى أكبر جالية اسلامية في أوروبا يعرضها دائما للعديد من التوترات والاشتباكات المجتمعية بشكل أكثر وضوحاً عن باقي البلدان الأوروبية.
تقود باريس قوات مكافحة الإرهاب الإسلامي في منطقة الساحل والصحراء الافريقية منذ يناير 2013م، لكن جماعات الاسلام الجهادي أعتبرت هذا الأمر تدخلا مباشرا ضدها، الامر الذي جعل فرنسا هدفا رئيسيا للهجمات الارهابية الانتقامية. تعد فرنسا موطنا رئيسيا للاستيطان النشط للاسلام السلفي والاخواني والفاشيات الجهادية، حيث صدرت الى سوريا والعراق ما يقارب 1700 جهادي. خلال عشرين عاما شهدت فرنسا نمواً للشبكات والخلايا الجهادية والتي حولت الجغرافيا الفرنسية من باريس وحتى تولوز الى بؤر متحركة للعناصر الإرهابية.
المشهد الحالي، هو سيطرة الجماعات المتطرفة، الإسلام السياسي، بغطاء الدين، تحديدا جماعة الإخوان على أغلب الجمعيات والمساجد، التي كانت متورطة في التحريض على الإرهاب والتطرف. لقد أدركت فرنسا الآن ولو بشكل متأخر حجم الخطر الذي يمثله الإسلام السياسي داخل فرنسا ودول أوروبا، بعد أن وصفها الرئيس الفرنسي بـالانفصالية والمقصود بذلك وجود محميات منعزلة اجتماعيا وثقافيا عن فرنسا، وهي تعيش في الداخل الفرنسي. الإرهاب تحول إلى صناعة تدار من قبل جماعات الإسلام السياسي الطامحة إلى حكم العالم، والتي لا تزال تفكر بمنطق الفتوحات والغنائم والسبي وتقسم العالم إلى ديار إسلام وديار كفر، وهي تشتغل في ذلك على الفئات الهشة من المجتمعات، وتعتمد على مظلومية كاذبة في الترويج لمشروعها، وتدرك أن الخطاب المتطرف أكثر جذبا من الخطاب المعتدل، خاصة لدى الشباب والفقراء وفاقدي الوعي النقدي والمصدومين حضاريا والمهزومين من الداخل، ممن يعكسون خيباتهم الشخصية على المجتمع، بزعم أن أزمة الأمة في عدم تطبيق الشريعة الاسلامية.
ان مفهوم الانفصالية يعني باختصار مسعى تقوده جماعات إسلامية متطرفة لإعلاء شأن أيديولوجيتها على حساب مبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية، وتالياً فرض قوانينها الخاصة على القوانين العامة. وتنشط هذه الجماعات في التجمّعات السكنية المسلمة في فرنسا، حيث تقيم مدارسها الخاصة، وحيث تفصل الذكور عن الإناث في الملاعب وفي أحواض السباحة، وتستبدل الدروس التقليدية بدروس دينية، وتمنع الاختلاط في المقاهي والمطاعم، وتفرض ملابسها الخاصة، وتستفيد من تمويل خارجي. لقد ضجّ المجتمع الفرنسي بتحقيقات، أُجريت بتقنية “الكاميرا الخفيّة”، بيّنت أن هناك مناطق في فرنسا يفرض فيها المتطرفون الإسلاميون قوانينهم على النساء، وعلى قائمة الطعام والمشروبات في المطاعم والمقاهي.
يقول استاذ الاقتصاد في جامعة فرانكفورت الالمانية من أصل مصري ان فرنسا التي يتهمها البعض الآن بأنها تحارب الإسلام، فيها نحو 3 آلاف مسجد، وأكثر من 6 ملايين مسلم فتحت أبوابها لهم واحتضنتهم ومنحتهم الإقامة والجنسية وكل الحقوق الأخرى المتعلقة بالمواطنة والانتخاب. قال مدير السياسات في مركز الإنذار المبكر للدراسات السياسية والأمنية، إن الأزمة تتعلق بنمط الخطاب الديني السائد لدى المجتمعات المسلمة في الدول الغربية، مضيفاً “نحن أمام نسخة إسلام ليست كالتي نزل بها الوحي وبشر بها رسول المسلمين. هذه النسخة خضعت لعملية ضبط بما يتناسب مع مصلحة طرفين، وهما التنظيمات التي تتبع تيار الإسلام السياسي والدول، التي تقوم بتشغيلها. وللتخلص من هذا الخطر، الذي يضر بفكرة الدين نفسه وبمصلحة المسلمين، يجب القيام بإجراءات، أهمها الاستمرار في تجفيف مصادر التمويل وإدارة أفضل لمصادر الحصول على المعرفة الإسلامية في الغرب.
الخوف من أسلمة فرنسا
اعربت المخابرات الفرنسية في تقرير لهاعن قلقها من تصاعد انتشار الإسلام في فرنسا ودول اوروبا، كما اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريح صحفي ان الإسلام ينتشر سريعا في فرنسا. تقرير المخابرات الفرنسية يقول، الاسلام يسود فرنسا واوروبا قريبا. يزداد يوما بعد يوم اعتناق الكثيرين الاسلام على مستوى العالم، من مختلف الديانات والجنسيات، وهناك الكثير من اخبار وقصص اعتناق الاسلام من مشاهير السياسة والعلم والرياضة والفن والادب. وكشف التقرير عن فاعلية الأنشطة التي يقوم بها دعاة مسلمون لنشر الدين الاسلامي داخل السجون الفرنسية. وتحت عنوان التبشير الإسلامي بالسجون أشار تقرير أعدته الإدارة المركزية للمخابرات العامة الفرنسية إلى وجود 517 فرداً تحت المراقبة داخل مؤسسات الإصلاح الفرنسية يكرسون حياتهم في الوقت الحاضر للتبشير الإسلامي.
اعتبرت المخابرات أن فئتين من السجناء الدعاة تثيران لديها القلق، الأولى تتكون من اولئك الذين دخلوا السجن بسبب ما يسمى أعمال إرهابية وعددهم 99 شخصاً، الثلث منهم تقريباً يبشرون بالدين الإسلامي. وأوضح التقرير أن بعض الافراد ينظرون الى المبشرين بنوع من القداسة استناداً إلى ماضيهم. وأكد التقرير أن جماعة التبليغ والدعوة، التي أتت من الهند وباكستان تعد صاحبة النفوذ الأوفر بين سائر التيارات الأخرى داخل السجون الفرنسية. ولفت تقرير المخابرات الفرنسية إلى ازدياد قوة تيار السلفية الجهادية، التي ترفض نمط الحياة المادية في الغرب وتضيف شرعية على أعمال العنف. واعترف ماكرون خلال لقاء صحفي أُجري معه يوم 15 أبريل 2018، أن الإسلام بدأ ينتشر سريعا في فرنسا في السنوات الأخيرة، بعد ارتفاع أعداد المهاجرين، داعياً إلى الحفاظ على وحدة المجتمع باحترام الحريات الدينية.
كشفت دراسة أجرتها مؤخرا مؤسسة “أي إف أو بي” كبرى المؤسسات البحثية التابعة للحكومة الفرنسية، أن زيادة كبيرة في أعداد الأوروبيين الذين يعتنقون الإسلام خلال الأعوام العشرة الماضية. وأشارت الدراسة إلى أن شريحة كبيرة من المواطنين في فرنسا وهولندا وألمانيا والمملكة المتحدة، يرون أن الوجود الإسلامي يشكل خطرا على الهوية القومية للبلاد ويتخوفون من أسلمة أوروبا خلال العشرين عاما القادمة. وكشفت الدراسة عن ارتفاع الأسلمة في أوروبا خلال عامي 2010 و 2011 بنسبة 17% لتعد أكبر زيادة يسجلها الدين الإسلامي في أوروبا. وبهذه الإحصائية يكون عدد المسلمين قد بلغ 23 مليون مسلم يحملون الجنسيات الأوروبية في 19 دولة تابعة للاتحاد الأوروبي، وينضم إلى هؤلاء المقيمين بصورة غير رسمية ويصل عددهم إلى 7 ملايين مسلم.
في الوقت الذي تبحثُ فيه فرنسا عن إسلامٍ جديدٍ أكثر اعتدالاً وانسجاماً مع قيم الجمهورية، كشف استطلاعٌ حديث أجراهُ معهد إفوب لقياس مؤشّرات الرّأي، أنّ أكثر من 46% من مسلمي فرنسا يعتقدون أنّ الشّريعة الإسلامية يجبُ أن تسود في الجمهورية الفرنسية. وأظهر الاستطلاع أن نصف مسلمي فرنسا يريدون تطبيق الشّريعة الإسلامية وحكم الله في الجمهورية، مؤكداً أنّ 18% من المسلمين الذين ازدادوا في فرنسا يدعون إلى تطبيق تعاليم الدين الإسلامي، وكشف استطلاع اخر أن 41% فقط من المسلمين في فرنسا يعتقدون أن ممارسة الإسلام يجب تكييفها لتتوافق مع قيم العلمانية الفرنسية. ومن ناحية أخرى، يعتقد 37% منهم أن العلمانية الفرنسية يجب أن تتكيف مع القيم الدينية الإسلامية. وتشير دراسة استطلاعية أنّ 28% من المسلمين داخل فرنسا يريدون تطبيق ما تفرضه شريعة الإسلام.
الاستراتيجية الفرنسية لمحاربة الانفصالية الاسلاموية
أعلن الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” عن خطة رباعية المحاور، تستهدف مواجهة التطرف، الذي كان دافعًا ومحركًا للعديد من العمليات الإرهابية، التي تعرضت لها فرنسا خلال السنوات الأخيرة. وأكد الرئيس عزمه القضاء على التشدد والانفصال الإسلامي داخل الأحياء الفرنسية المهمشة، خاصة وأن هذا التشدد لا يتوافق مع مباديء الحرية والمساواة ووحدة الأمة، فلا يمكن بحال من الأحوال استغلال الدين لمخالفة القوانين، ولا ينبغي القبول بتغليب قوانين الدين على قوانين الجمهورية الفرنسية. تنص وثيقة محاربة الانفصالية الاسلاموية على ضرورة التركيز على البعدين التعليمي والثقافي بغية تعزيز العلمانية، ومن ناحية أخرى السيطرة على التأثيرات الأجنبية على بعض المؤسسات الاسلامية داخل فرنسا، وذلك من خلال مشروع قانون يرتكز على شفافية التمويل الخارجي والعمل على تنظيم الطوائف، وتعزيز الجمعيات الثقافية.
القراءة التحليلية لخطاب مكرون تكشف ما يشبه انتفاضة فرنسية في مواجهة جماعات الإسلام السياسي، التي تستغل أوضاع المسلمين في فرنسا ليس فقط في محاولة خلق دولة موازية للدولة الفرنسية بقيمها العلمانية الغربية، ولكن أيضاً في تأليب الجاليات الإسلامية ضد سلطات هذا البلد وزرع الكراهية في نفوسهم تجاهه. إذ أظهرت ممارسات هذه التنظيمات وعلى رأسها جماعة الإخوان أن هدفها المرحلي هو بناء دولة موازية للدولة الوطنية تدين لها بالولاء تمهيداً للسيطرة على الحكم فيها، كخطوة ثانية في طريق الوصول إلى حلم إقامة “دولة الخلافة” العابرة للحدود. حيث أجمع الخبراء المشاركون في ندوة جماعة الاخوان المسلمين والدولة الموازية مشيرين إلى أن رؤية جماعة الإخوان المسلمين لبناء الدولة الموازية تمثل التهديد الرئيسي لقيم الديمقراطية والتسامح والتعايش في أوروبا.
وبحسب الوثيقة هناك أربعة محاور رئيسية سيتم تفعيلها لحصار النزعات المتطرفة على النحو التالي: المحور الأول: يعرف “بإستراتيجية العرقلة” وتستهدف مواجهة ظهور الإسلاموية، عبر تحرير المساجد والمدارس من التأثيرات الأجنبية المتمثلة في الأئمة الوافدين من دول محرضة ومتطرفة، لاسيما في ظل وجود كثير من الأئمة الذين تم جلبهم من بلدان خارجية كتركيا والجزائر. وللتحكم في تمويل المساجد أطلق الرئيس ما يعرف بالجمعية الإسلامية الفرنسية، حيث ارتكزت مسؤوليتها على مراقبة جمع التبرعات وضريبة المنتجات الحلال، بالإضافة إلى تدريب الأئمة. وبحسب اللجنة الوزارية الفرنسية للوقاية من الانحراف والتطرف، فإن هذا المشروع، وإن كان يستهدف الإسلام السياسي، فإنه سيشمل كافة الانحرافات الطائفية. وتقول اللجنة إن المستهدف ليس الإسلام باعتباره دينا، بل الإسلام السياسي، وهو عقيدة سياسية تهدف إلى فرض السيطرة على المجتمع من خلال تقييد الحريات وتثبيت الشريعة فوق قوانين الجمهورية.
المحور الثاني: يهدف إلى تشجيع إستراتيجية العروض البديلة وتدابير الدعم المنسقة للمناطق الأكثر تضررا من هيمنة المتشددين في محاولة لإزالة كافة الحواجز والفوارق التي تستغلها فصائل معينة لنشر الفرقة. المحور الثالث: تم تخصيصه لمكافحة المحاولات الانفصالية داخل المجتمع الفرنسي، والتي تتعدد أشكالها كتحديد أوقات استحمام منفصلة في حمامات السباحة العامة، وكذلك تخصيص ساعات للصلاة في النوادي الرياضية، في محاولة لإزالة كافة الحواجز والفوارق الفاصلة بين الفتيات والفتيان. المحور الرابع: يهدف إلى معالجة أزمة افتقار الكثير من الأحياء الفرنسية للعروض الاجتماعية والرياضية التثقيفية، لذلك دعا “ماكرون” لعودة هذه العروض ثانية وتكثيفها داخل المدارس والمناطق السكنية المهمشة.
جدير بالذكر أن إستراتيجية ماكرون الأخيرة لم تكن الأولى في سياق مواجهة التطرف والتشدد، فقد أدت العمليات الإرهابية المستمرة إلى دفع الحكومة الفرنسية الى عدم الاكتفاء بالجهود الأمنية والعسكرية، لكن بدأت في تبني البعد الفكري والثقافي لمواجهة التطرف. ويمثل الميثاق مرحلة متقدمة في طريق الحداثة، التي لابد منها في ظل تطور المجتمعات وسيادة قيم تتناسب مع ظروف المجتمع، في خطوة متقدمة نحو بلورة خطاب ديني جديد يرتكز على الاستنارة وبلورة القيم والأفكار المعتدلة إلى جانب الإسهام في استقطاب شرائح مختلفة من المسلمين وإعادة هيكلة وبلورة أفكارهم ومعتقداتهم بما يتناسب مع المستجدات. ميثاق الامام يستهدف مجابهة الفكر المتطرف والمتشدد والمعادي للأفكار التحررية الأوروبية، ويتمحور الميثاق حول تصدير مفاهيم جديدة تتعلق بالتوجه المعتدل ومحاولة الربط بينه وبين مبادئ العلمانية داخل الجمهورية الفرنسية. مما سبق نجد أن التوجه الفرنسي نحو تنظيم الإسلام يرتبط بشكل كبير بمفهوم سيادة الدولة العلمانية والإبقاء على قيم التحرر وذلك في إطار مفاهيم وأبجديات الديمقراطية الغربية.
وفي سياق متصل طالب 22 مثقفاً فرنسياً في رسالة مفتوحة موجهة للرئيس ماكرون، بحلّ اتحاد المنظمات الإسلامية، الفرع الفرنسي لجماعة الإخوان. وأشارت الرسالة إلى أن مراكز التعليم والتدريب التابعة للاخوان في فرنسا يشرف عليها علمياً يوسف القرضاوي، وأن هذه المؤسسات تمولها قطر وتركيا، التي تناصب فرنسا العداء. وكشف ماكرون عن تمويل ضخم وصل إلى أكثر من 35 مليون يورو للنشاط السياسي خصص لمسجد واحد يضم عشرات العملاء الذين يتجسّسون على معارضي أردوغان، وينشرون الفكر الإرهابي في أقصى جنوب غرب فرنسا بعدما حوّل الرئيس التركي المساجد إلى مقار سياسية تدعو إلى “العثمانية الجديدة” وتؤوي المتطرفين وتروّج لأفكار متشددة في المجتمعات الأوروبية، إضافة إلى إعداد وكتابة تقارير موجهة إلى حكومة أنقرة عن المعارضة التركية داخل القارة الأوربية.
تأثير أزمة التطرف على مسلمي أوروبا
تطرح الهجمات الإرهابية المتتالية التي طالت فرنسا مؤخرا تحديات أمنية كبيرة لبقية دول الجوار التي تؤكد أنها ليست بمعزل عن مثل هذه الهجمات، خاصة وأنها حاضنة لجاليات مسلمة قابلة للاختراق والتوظيف، ما يتطلب حسب مراقبين شراكة أوروبية حقيقية في مواجهة التهديدات الإرهابية وجذور نشأتها. ساهمة حادثة ذبح المدرس الفرنسي صاموئيل باتي في تأجيج، مخاوف الدول الأوروبية من انتقالها إلى أراضيها أيضا وذكّى مشاعر الوحدة الأوروبية في الدفاع عن قيم الديمقراطية الغربية التي يتربص بها التطرف الإسلاموي. القتل الوحشي لمدرس فرنسي منتصف شهر اكتوبر 2020م، تسبب في حالة ذعر في جميع أنحاء البلاد. وأوضح المحققون آنذاك أن الدافع الذي جعل المهاجم (18 عاما) يقتل المعلم الفرنسي هو أن المعلم عرض رسومات كاريكاتيرية للنبي محمد في إطار عرضه لموضوع حرية الرأي. وتم العثور على جثة المعلم مذبوحا.
ونددت الدول الأوروبية بالهجمات الإرهابية المتتالية، التي تعرضت لها فرنسا، معربة عن تضامنها المطلق مع باريس في حربها على الإرهاب ودفاعها عن قيم الديمقراطية الغربية في مواجهة النزعة الانفصالية الإسلاموية. وأعرب قادة الاتحاد الأوروبي عن تضامنهم مع فرنسا وتعهّدوا بمواجهة أولئك الساعين للتحريض على الكراهية ونشرها. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية ان أوروبا تقف بأسرها متضامنة مع فرنسا، وسنبقى موحدين ومصممين في وجه الهمجية والتعصّب. القادة الأوروبيين عبروا عن وقوفهم الى جانب فرنسا من اجل الدفاع عن الحرية والقيم الديمقراطية والسلم وأمن المواطنيين ضد الإرهاب والكراهية. عبر ماكرون عن المخاوف المتزايدة، التي تجتاح فرنسا وأوروبا من تنامي الدور، الذي تلعبه جماعات الإسلام السياسي، وخاصة الإخوان المسلمين، والتي تستغل أوضاع الجاليات الإسلامية في أوروبا لزرع أفكارها وتوجهاتها المتطرفة في عقول هذه الجاليات وتجنيد المزيد من المتطرفين في صفوفها، بل وإرسالهم إلى جبهات القتال في الخارج مثلما حدث مع آلاف الشباب الأوروبي الذين انضموا لتنظيم داعش في السنوات الماضية.
مؤخرا استضاف الاتحاد الأوروبي مؤتمراً بعنوان “الإسلام السياسي بين الإصلاح والراديكالية” بهدف دعوة الدول الأوروبية إلى اتخاذ قرارات عملية لاقتلاع منابع الإرهاب، ومعاقبة الدول التي تدعمه وتغذي خلاياه، كما أوصى بالدعم السياسي والاقتصادي للدول المعتدلة المعروفة بجهودها في نشر قيم التعايش والتسامح، وتشجيع الحوار بين الأديان والحضارات. وفي هذا الصدد، سلط السياسي الألماني وعضو البرلمان الأوروبي السابق يورغن كلوت، الضوء على مشكلة التمويل الخارجي للجماعات الإسلامية والمساجد في أوروبا، مشيراً إلى أن غالبية الجاليات المسلمة في ألمانيا من أصول تركية، وتمول الدولة التركية الأئمة والمساجد، وتحاول التأثير السياسي في المواطنين الألمان من ذوي الجذور التركية.
يبدو أن أوروبا باتت أكثر يقظة لخطر جماعات الإسلام المتطرف لديها، فعلى الرغم من أن المخاوف الأوروبية ليست جديدة، لكن الملاحظ أنه لم يعد التعبير عنها بشكل حصري من قبل أولئك الذين ينتمون إلى اليمين من الطيف السياسي، ولكن من قبل السياسيين والمعلقين من جميع المذاهب السياسية وأجهزة الأمن، وهو ما ينبئ باستراتيجية أوروبية موحدة. وبالفعل حثّ المستشار النمساوي القادة الأوروبيين على تشكيل جبهة مشتركة ضد “الإسلام السياسي”. وقال كورتس لصحيفة دي فيلت الألمانية الأسبوع الماضي، “أتوقع نهاية للتسامح الخاطئ، وأن تدرك جميع دول أوروبا أخيراً مدى خطورة أيديولوجية الإسلام السياسي على حريتنا وأسلوب الحياة الأوروبي”. وأضاف، “على الاتحاد الأوروبي أن يركز بقوة أكبر على مشكلة الإسلام السياسي في المستقبل”. يرى القادة الاوروبيون إن التهديد الذي تشكله الإسلاموية الشرعية أو حركات الإسلام السياسي تجاه النظام الديمقراطي الليبرالي أكبر من التهديد المتطرف.
الخاتمة
ظاهرة التطرف الاسلامي في فرنسا بشكل خاص وأوربا بشكل عام لم تأتي من فراغ، وانما جاءت نتاج المدارس والمساجد والجمعيات الاسلامية المنتشرة هناك على صعيد واسع. ان استغلال بيئة الحرية والديمقراطية من قبل الجماعات الاسلامية المتطرفة سيؤدي في نهاية المطاف الى تكرار تجربة طالبان من جديد، والتي كانت نتاج مخرجات المدارس الاسلامية في باكستان. سنوات الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشرقي في القرن الماضي دفعت دول أوروبا الغربية الى فتح ابوابها لعناصر الاخوان المسلمين الفارين من بلدانهم الاصلية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا. اللعب في النار يؤدي الى حرق الاصابع في كثير من الاحيان، وهذا ما حصل مع فرنسا والدول الاوربية، التي استخدمت الجماعات الاسلامية المتطرفة كأدوات لتنفيذ سياساتها الخارجية. اليوم تواجه فرنسا ودول غرب أوروبا معضلة حقيقية في قضايا الامن والهوية، والعلمانية، والقيم الديمقراطية والحرية، التي تتصادم كليا مع الجماعات الاسلامية المتطرفة مثل جماعة الاخوان المسلمين والجماعات السلفية، التي تقاوم الاندماج في المجتمعات الغربية، وتسعى الى انشاء مجتمعات انفصالية من اجل تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف الى انشاء كيانات موازية للحكومات الاوروبية، وقد يتطور الامر في المستقبل الى المطالبة بحكم ذاتي، خاصة اذا لم يتم التصدي للانفصالية الاسلاموية.
النمو السريع في عدد السكان المسلمين في فرنسا واوربا بشكل عام يثير مخاوف القادة الاوربيين على مستقبل بلدانهم من الأسلمة وانحسار القيم والهوية الغربية. العمليات الارهابية والانفصالية الاسلاموية في فرنسا ودول غرب أوروبا تؤثر على الجاليات الاسلامية بشكل سلبي، من حيث تشديد الرقابة واتساع دائرة الخوف والحذر وسن تشريعات جديدة تعقد اجراءات الهجرة ولم شمل الاسرة والحصول على الاقامة الدائمة والجنسية وغيرها من الحقوق والامتيازات. السلوك المتطرف والانفصالية الاسلاموية ظاهرة سلبية تؤدي الى ابعاد الاشخاص الى خارج اوروبا وسحب الاقامات والجنسية والتجريد من كافة الحقوق. من الضروري تكييف التشريعات وفقاً للتطورات التي تتعلق بطبيعة فعل العمل الإرهابي وسلوك مرتكبيها، والدفع نحو استراتيجيات جديدة لإدماج المسلمين، وسد جميع الثغرات التي من شأنها توفير ملاذات آمنة للفكر المتطرف على مستوى المؤسسات والتمويل..