د. حامد أبو العز*
في عالم حيث تتغير ديناميكيات القوة باستمرار، لا يزال لبنان، ذلك البلد الصغير ولكن المرن، بمثابة نقطة محورية للصراعات الإقليمية والدولية. وقد سلطت سلسلة الأعمال الإرهابية التي نفذتها إسرائيل ضد الشعب اللبناني الضوء مرة أخرى على الطبقات المعقدة للمقاومة والحرب التكنولوجية والوحدة الدائمة للشعب اللبناني. وما كان من المتوقع أن يكون ضربة مزعزعة للاستقرار لحزب الله ولبنان لم يعمل إلا على تعزيز قوة المقاومة وإلقاء الضوء على سوء التقدير الاستراتيجي لإسرائيل وحلفائها.
كان الهجوم الإسرائيلي، أولاً من خلال تفجيير أجهزة البيجر، ثم تفجير أجهزة اللاسلكي، مصمماً لشل البنية الأساسية للاتصالات لحزب الله. ولكن كما أظهر التاريخ، وكما يؤكد هذا الفصل الأخير، فإن مرونة حزب الله عميقة. ولم يكن الهدف الأساسي للضربات الإسرائيلية الإرهابية مجرد إضعاف حزب الله عسكرياً، بل وزرع الفتنة الداخلية داخل لبنان، وإغراق البلاد في الفوضى وذلك لإن كيان الاحتلال هو كيان قائم على الفوضى. ومع ذلك، لم تسر استراتيجية إسرائيل وفقاً للخطة. وما كان من المفترض أن يكون هجوماً حاسماً تحول بسرعة إلى فشل تكتيكي، مع عواقب تتجاوز بكثير ما توقعته إسرائيل أو حلفاؤها.
لقد كان النهج الإسرائيلي القديم تجاه لبنان يركز على خلق صراع داخلي، والاستفادة من الانقسامات الطائفية في لبنان. وبدعم مالي من الولايات المتحدة، استثمرت إسرائيل مليارات الدولارات في جهود لزعزعة استقرار لبنان، واستهداف حزب الله بشكل خاص، إحدى أقوى حركات المقاومة في المنطقة. واعتمدت استراتيجيتهم على إشعال حرب أهلية، وتفاقم الصعوبات الاقتصادية، وإضعاف قاعدة دعم حزب الله بين السكان اللبنانيين.
من خلال فرض عقوبات اقتصادية على لبنان، كانت إسرائيل والولايات المتحدة تأملان في تحويل الشعب اللبناني ضد حزب الله. وكانت خطتهما تعتمد على خلق بيئة حيث أصبح البقاء اليومي صراعاً، على أمل أن يلقي اللبنانيون باللوم على حركة المقاومة. وكان الهدف النهائي هو تآكل مصداقية حزب الله ودعمه، وتحويل الجمهور ضده. ولكن هذه الخطة فشلت وذلك بسبب الوحدة العميقة الجذور والوعي لدى الشعب اللبناني.
فعلى عكس ما توقعته إسرائيل والولايات المتحدة، فإن جهودهما لم تشعل الصراع الداخلي الذي توقعاه. بل على العكس من ذلك، احتشد الشعب اللبناني، على الرغم من اختلافاته الطائفية والسياسية، حول حزب الله والمقاومة. ولم تخدم الهجمات الإرهابية على المدنيين اللبنانيين، من خلال تفجير شبكات الاتصالات، إلا في تعزيز الرابطة بين حزب الله والجمهور. وأصبح من الواضح لكثير من اللبنانيين أن إسرائيل وحلفاءها لا يميزون بين حزب الله وبقية لبنان. فقد كان كل مواطن لبناني، بغض النظر عن طائفته أو انتمائه السياسي، يُنظَر إليه باعتباره هدفاً محتملاً لإسرائيل والولايات المتحدة.
وجاء الاستهداف المنهجي لأجهزة الاتصالات بنتائج عكسية. فلم يستخدم حزب الله هذه الأجهزة لوحده، بل استخدمها قبله أيضاً المدنيون، بما في ذلك الأطباء والمهندسون وأفراد الأمن. وأدت الهجمات على هذه البنية الأساسية إلى إدانة واسعة النطاق، سواء داخل لبنان أو في مختلف أنحاء العالم العربي. إن إسرائيل لم تعزل حزب الله بل عملت على تعزيز الشعور المتجدد بالوحدة بين اللبنانيين، مما عزز مقاومتهم للتهديدات الخارجية.
من المهم أن نعترف بتواطؤ الجهات الفاعلة الدولية في هذه الأحداث. فقد لعبت شركات مثل موتورولا الفرنسية، إلى جانب الولايات المتحدة، دوراً حاسماً في تمكين الحرب التكنولوجية الإسرائيلية. إن الاستخدام المعقد للتكنولوجيا المتقدمة، من الذكاء الاصطناعي إلى المراقبة الجوية بواسطة طائرات Ghost وAWACS، كان عاملاً بارزا في الأحداث الأخيرة. ولكن هذه التطورات التكنولوجية استُخدِمَت كسلاح ضد المدنيين، مما أثار تساؤلات أخلاقية خطيرة حول تورط الشركات الغربية في هذه الحرب.
وفي حين أثبتت المقاومة اللبنانية فعاليتها في مواجهة تكتيكات إسرائيل، لا يمكن تجاهل مساءلة المجتمع الدولي. ولابد من تحميل فرنسا والولايات المتحدة وشركات التكنولوجيا المتورطة في هذه الهجمات الإرهابية المسؤولية عن دورها في محاولات الاغتيال الجماعي للمدنيين اللبنانيين. فقد أدى تعاونها مع إسرائيل إلى معاناة لا توصف، وساهمت أفعالها في المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.
إن قدرة حزب الله على امتصاص الضربات التي توجهها إليه إسرائيل بسرعة تثبت مرونته. وعلى الرغم من استخدام التكنولوجيا المتطورة بهدف تقويض قدرات حزب الله، فإن المقاومة تظل صامدة. وقد أثبت حزب الله مراراً وتكراراً أنه ليس مجرد قوات غير نظامية بل هو مؤسسة منظمة جيداً وراسخة الجذور، وقادرة على العمل بكفاءة ملحوظة حتى تحت ضغط هائل.
إن استعداد حزب الله، إلى جانب إطارها المؤسسي القوي، سيسمح لها بالرد بسرعة على الهجمات الإسرائيلية. وبفضل شبكاتها التي تمتد عبر قطاعات متعددة من المجتمع اللبناني، تمكن حزب الله من الحفاظ على السيطرة على الأرض، وضمان استمرار عملياته دون انقطاع. والأمر المهم هو أن الدعم الشعبي الواسع النطاق لحزب الله، والذي يتجلى في التعبئة السريعة للمدنيين لنقل الجرحى والتبرع بالدم، يوضح الارتباط العميق بين المقاومة والسكان اللبنانيين على نطاق أوسع.
إن ما يميز هذا الصراع على وجه الخصوص هو نطاقه العالمي. إن حزب الله لا يخوض حربا محلية ضد إسرائيل، بل إنه منخرط في صراع أوسع ضد الهيمنة الأميركية الإسرائيلية. وكان التفوق التكنولوجي لإسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، سمة مميزة لهذا الصراع. فقد تم نشر أكثر من 96 طائرة لمراقبة المجال الجوي اللبناني، مع المراقبة المستمرة واستخدام الذكاء الاصطناعي في محاولات الاغتيال. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الصعوبات الساحقة، تمكنت المقاومة من الصمود، مما حير المحللين العسكريين في جميع أنحاء العالم.
في هذه الحرب العالمية، حزب الله ليس وحده. فقد أشارت حركات المقاومة في العراق واليمن وحتى أفغانستان إلى استعدادها للانضمام إلى القتال ضد إسرائيل في جبهة مفتوحة. وقد شارك أنصار الله الحوثيين في اليمن والمقاومة العراقية بالفعل في ضرب إسرائيل بشكل مباشر، كما تمتلك حكومة طالبان في أفغانستان، القدرة على ترجيح ميزان القوى إذا اختارت الانضمام إلى القتال. وقد أصبح انضمام طالبان في هذه المعادلة ذا أهمية متزايدة بسبب التحولات الجيوسياسية الأخيرة.
ولكن علينا التأمل قليلاً ونرى كيف يمارس الغرب ضغوطاً على أفغانستان لإخراجها من أي معادلة إسلامية قادمة. وعليه ضغطت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على الإمارات دبلوماسيا مع طالبان عند الضرورة. وكجزء من هذه الاستراتيجية، اتخذت الإمارات خطوات للاعتراف رسمياً بالمكانة السياسية لطالبان. ففي أغسطس/آب 2024، قبلت وزارة الخارجية الإماراتية أوراق اعتماد بدر الدين حقاني، السفير الجديد المعين من قبل طالبان لدى الإمارات. ويمثل هذا الاعتراف الدبلوماسي خطوة مهمة نحو إضفاء الشرعية على حكومة طالبان في نظر المجتمع الدولي، بعد زيارات سابقة قام بها مسؤولون من طالبان، بما في ذلك رئيس الوزراء ووزير الداخلية، إلى الإمارات. ولا يعد هذا الاعتراف رمزياً بل إنه بمثابة عنصر حيوي في الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الأوسع نطاقًا للولايات المتحدة والإمارات في جنوب وشرق آسيا. ومن خلال تعزيز العلاقات مع أفغانستان تحت حكم طالبان، تهدف الإمارات والولايات المتحدة إلى تأمين نفوذها في المنطقة، مع التركيز على علاقاتها مع باكستان والهند والصين ومنع إنخراط طالبان في الصراع القادم مع الكيان الصهيوني. والجدير بالذكر أن الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الثانية بعد الصين التي تعترف رسميًا بمبعوث طالبان. إن أهمية هذا التحول الدبلوماسي تكمن في قدرته على تغيير ديناميكيات القوة الإقليمية. ولكن هنا يجب أن نذكر حزب الله والمقاومة بشكل عام بأنّ عليهم فتح جبهات متعددة وعليهم الاستفادة من أي عروض تقدمها أي جبهة إسناد قادمة لإن ذلك يمكن أن يضغط على القواعد الأمريكية بشكل مستمر سواء في أسيا الوسطى أو حتى في الشرق الأوسط.
ومع استقرار الغبار بعد هذه الجولة الأخيرة من الإرهاب الإسرائيلي، هناك شيء واحد واضح وهنو لقد فشلت استراتيجية الفوضى الإسرائيلية. إن محاولات نتنياهو لصرف الانتباه عن هزائمه في غزة من خلال شن هجمات على لبنان لم تؤد إلا إلى المزيد من المقاومة والوحدة بين الشعب اللبناني. إن مرونة حزب الله، إلى جانب الدعم الثابت من الشعب اللبناني، ضمنت أن خطط إسرائيل للفوضى قد أتت بنتائج عكسية.
في مواجهة التفوق التكنولوجي والعسكري، أثبتت المقاومة اللبنانية أن القوة لا تكمن في الأسلحة وحدها ولكن في وحدة وتصميم الشعب. ومع استعداد المنطقة لما سيأتي بعد ذلك، من الضروري إدراك الآثار الأوسع لهذه المقاومة. إن هذه المعركة ليست مجرد معركة للسيطرة على الأراضي، بل إنها معركة من أجل الحفاظ على روح المنطقة، وصراع ضد الإمبريالية، ومقاومة أولئك الذين يسعون إلى التفرقة والغزو. ولا شك أن المناورات الدبلوماسية الأخيرة المحيطة بأفغانستان لا تضيف إلا المزيد من التعقيد إلى المشهد الجيوسياسي، مما يشير إلى أن معركة النفوذ تمتد إلى ما هو أبعد من لبنان، لتطال كل ركن من أركان الشرق الأوسط وما وراءه.
*كاتب فلسطيني وباحث السياسة العامة والفلسفة السياسية