امل السعيدية
كراهية التكرار واحدة من سمات الثقافة الحديثة، ومع أن الكثير من الحضارات استدركت هذا الجري السريع نحو استهلاك كل شيء بتقديم أنماط مضادة، لسعار التحديث والرغبة في الكمال، بتمجيد النقصان والضعف والخفوت والتواضع، وإعادة المحاولة، إلا أن محبة “الجديد” ما زالت طاغية، أو حتى مسوغاً لرفض مواجهة أي تجربة إنسانية على اعتبار أنها “مكررة” ومع أننا نعيش في واقع يعتمد على “الصورة” لا على “الأصل” في مفارقة بينامين، إلا أننا وربما لهذا السبب دون غيره نلهثُ بحثاً عن أصل ما، في واقع يبدو أنه نسخة عن أصل ضائع، حتى على صعيد علاقاتنا الإنسانية، إن فضولنا ينضب بمجرد تحقق اللقاء، وكأن ذلك اللقاء مررَ إلينا عوالم الآخر فاقتلعناه من جذوره، ولم يعد يثيرنا فيه شيء بعد، لذلك سنبحث فوراً عن صديق أو ملاذ جديد.
بالنسبة لي علمتني القراءة فضيلة التكرار، في اتجاهين مهمين: أولهما، تناول ومعالجة الموضوعات في ثيمات مكررة، أو في الإطراء المباشر لعقيدة التكرار وما يمكنها أن تمنحه لإنسان يعيش حياة قصيرة للغاية، وتكرار القراءة له صور عديدة أولها إعادة قراءة كتاب، أما ثانيها فهي معاودة القراءة للكاتب نفسه حتى بعمل آخر، أحبُ كثيراً متابعة إنتاجات كتابي المفضلين وجمعها حتى بلغات أخرى، إنها مواعيد عشاء لا نهائية معهم، فكرتُ بهذا وأنا أقرأ فيليب روث هذا الأسبوع في روايته المترجمة حديثاً عن دار المدى بعنوان “التآمر على أمريكا” عندما سألني صديق لي أي عمل تفضلين لروث من الأعمال التي قرأتها له؟ وتوقفتُ قبل أن أجيب، بأنه سؤال صعب للغاية، إن عليّ أن أقول أي روث أفضل مع أنه روث نفسه، وربما تكون هذه علامة على نجاح الكاتب في اختراع أسلوبه الخاص، الذي يجعل أعماله تنويعات على أغنية لن تكون في نهاية المطاف أحداً سواه.
أحببتُ بالفعل الوصمة البشرية، وسخط، وحكاية أمريكية، و إنسان عادي.
في كل لقاء لي معه، أميز نبرته، المواضع التي يضغط فيها الجملة، والطريقة العادية التي يختم بها كتابته.
قرأت لزيبالد كل ما ترجم له بالعربية، وآلي سميث، و كناوسغارد، وكارسن مكالرز، وبيتر هاندكه، وآخرين، إن ثقتي بأن العودة إليهم ممكنة دائما، تخلصني من وحدتي الخانقة، لكنني بكل تأكيد جربتُ القراءة الثانية بل وما يزيد عليها مرات، قرأت المرأة العسراء لهاندكه أكثر من مرة، وخوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء مرتين، وقبل أن أبدأ بقراءة روث هذه الأيام كنتُ أقرأ الجزء الأول من “كفاحي” لـ “كناوسغارد” للمرة الثانية، وعليه كنتُ أحس بأن التكرار انتصارٌ خاص.
أذكر قبل مدة مناقشة على تويتر أثارها الكاتب السعودي أحمد الحقيل، وقد أشار فيها لنقاط مهمة بهذا الصدد، منها أن الإبداع لا يتطور بل يتوسع، وأن التكرار ليس عائقاً حتى على صعيد الكتابة أو القراءة بوصفها فعلا إبداعيا، بل قد يكون التكرار هنا ميزة، فها نحن ذا على سبيل المثال نقرأ الإلياذة بنفس نفسها التي كانت عليها، وكذلك بالنسبة للشعر الجاهلي.
إن ما ينبغي الانشغال به في حضارة أنتجت الكثير حتى اليوم هو “إعادة الاكتشاف” وكنتُ أعرف في مكان عميق من روحي أن هذه المهارة ينبغي أن ننترعها انتزاعاً لا في حقل القراءة وحده بل في حياتنا اليومية، إذ نعيد اكتشاف أنفسنا والآخرين من حولنا في كل مرة، وما أجمل كلمة “نعيد” هنا كما لو أنني أقول “ثورة”.
في السياق نفسه يقول الفيلسوف كيركغارد: “عندما قال الإغريق إن كل معرفة هي تذكّر، فقد قالوا إن كل الوجود، الذي يكون، كان موجودا، وعندما يقول إنسان إن الحياة هي تكرار، فإنه يقول: إن الحياة التي كانت موجودة، تظهر الآن في الوجود، وإذا كان المرء لا يملك مقولة عن التذكر أو التكرار، فإن كل الحياة تتلاشى في صخب فارغ لا معنى له”.
وكتابة أخرى أحتفظ بها دون مصدر في ملاحظات هاتفي: “إن التكرار ينبغي أن يكون شيئا جديدا، لأنه يصبح حينئذ حزينا. يفترض الأمل شبابا كي تتأمل، وشبابا كي تتذكر، لكن تستلزم الشجاعة كي تُريد التكرار، فهذا الذي يعيش على الأمل فقط جبان، وهذا الذي يريد أن يتذكر فقط شهواني، لكن هذا الذي يريد التكرار، فهو إنسان”.
عندما وصلتُ لهذا الموضع من كتابة هذه المقالة تذكرتُ فوراً مقالاً مفضلاً لعبد السلام بنعبد العالي بحثت عنه مجدداً اسمه “ما أرانا نقول إلّا رجيعًا” كما تذكرتُ مادة عن التكرار لكناوسغارد في كتاب “نوافذ على العالم” الذي جمعه ماتيو بيرلكولي لكنني للأسف أضعتُ نسختي من الكتاب ولم أجده متوفرا على الإنترنت، أما عن مقالة الأول، فلقد “كررتُ” قراءته، لأجد أن ما يدعو إليه يتجلى في إعادة اكتشافي للمكتوب، إنه يحرر التطابق، كما يجعلني داخل زمان ممتد، بدأ منذ المرة الأولى التي فكرتُ فيها في تفضيلي للتكرار، وقراءتي لهذا المقال نفسه وما رسخه حول فكرتي عن الموضوع نفسه منذ ذلك الحين.
لعل التكرار يصبحُ خانقاً عندما نتعامل مع الأدب الذي يقدم في أعمال تخيلية خالصة دون أدنى اعتبار للكتابة كفن، فما دمت تعرف القصة لماذا تعيد القراءة؟ الأمر الذي يجعل التكرار ميزة للأعمال ذات الصنعة الفارقة، هذا ما يجعلنا نفهم أكثر رأي ايتاليو كالفينو حول قراءة الأعمال الكلاسيكية، والقدرة المستمرة على العودة لقراءتها مهما اختلف السياق الذي ظهرت فيه هذه الأعمال.
هنالك أعمال لا تعرفها من المرة الأولى، ولا يمكن أن نتنازل عن قراءتها، ودائما يقال إن هنالك ما يفوتنا في القراءة الأولى، وإذا كنت تظن أن في هذا الاعتقاد شيئا من المبالغة، تناول كتاباً قرأته حتى وان كان قبل فترة زمنية متواضعة، وقس ما تختبره أثناء القراءة، فأنا عندما أعدت قراءة اللاطمأنينية لفرناندو بيسوا كنت أتعجب وأندهش من الجمل التي وضعتُ عليها علامة في القراءة السابقة، مع أن القراءة الثالثة للكتاب لم تكن بعد فترة من الأولى، كان هذا محرجاً بعض الشيء ويدعو للغبطة في الوقت نفسه، لأنني تغيرت، كبرت، وربما لديّ أسئلة أخرى، إجاباتها هناك في الملاذ نفسه من يدري؟
نقلا عن جريدة عٌمان.