د. تمارا برّو*
بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وسيطرت حركة طالبان على العاصمة الإفغانية كابل، ومغادرة الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى الإمارات العربية المتحدة، تتوجه أنظار العالم نحو الصين إذ بدأت التكهنات حول ما إذا كانت بكين ستدخل إلى أفغانستان وتسد الفراغ الأميركي خاصة أنه لا أحد ينكر أن للصين مصلحة كبيرة في دخول أفغانستان الغنية بالموارد الطبيعية حيث قدرت الثروات المعدنية النادرة فيها بـ 3 تريليون دولار، وتُستخدم المعادن النادرة في صناعات استراتيجية من بينها الالكترونيات والسيارات الكهربائية والطائرات والأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية. إلى جانب ذلك فإن حوالي 98% من إجمالي الأراضي الأفغانية، لم يتم فيها التنقيب عن مصادر الطاقة التقلدية( النفط والغاز) وذلك بحسب بيانات صادرة عن الحكومة الأفغانية لعام 2018، فضلاً عن أن أفغانستان محطة أساسية في مبادرة الحزام والطريق. إلا أن صحيفة غلوبال تايمز الصينية نقلت عن خبراء صينيين قولهم إن التكهنات بأن الصين قد ترسل قوات لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة الأميركية لا أساس لها على الاطلاق.
تحاول حركة طالبان أن تُظهر حسن النية لبكين كي تساعدها في عمليات إعادة الإعمار. فالحركة صرّحت عدة مرات عن رغبتها في مشاركة الصين في عمليات إعادة الإعمار والتنمية في أفغانستان، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان المتحدث باسم الحركة سهيل شاهين في مقابلة بثتها شبكة التلفزيون الصينية العالمية CGTN إذ قال “في إمكان الصين المشاركة في جهود التنمية في أفغانستان في المستقبل”.
يبدو أن الحركة وجدت أن الشرق هو السبيل الوحيد لمساعدتها في أفغانستان في ظل عدم اعتراف المجتمع الدولي بالحركة، وبعد أن أعلن البنك الدولي تعليقه المساعدات المرصودة لأفغانستان بسبب الضبابية المحيطة بوضعية القادة في كابل بعد سيطرة حركة طالبان على البلاد، وإحتمال فرض عقوبات على الحركة من قبل مجموعة السبعG7.
تدرك طالبان جيداً أنها إذا أرادت علاقات قوية مع بكين عليها أن تقطع صلتها مع الحزب الإسلامي التركستاني الذي يضم مسلّحين من قومية الإيغور، ويدعو إلى إقامة دولة إسلامية في إقليم شينجيانغ في الصين، وبالتالي على طالبان أن تمنع المسلحين الإيغور من دخول مقاطعة شينجيانغ عن طريق أفغانستان. وهذا ما تعهدت به حركة طالبان عندما التقت بوزير الخارجية الصيني وانغ يي الشهر الماضي وعلى لسان المتحدث باسم الحركة محمد نعيم الذي أكد “أن الأراضي الأفغانية لن تُستخدم ضد أمن أي بلد كان”. كما صرّح سهيل شاهين المتحدث السياسي باسم الحركة أن طالبان لن تسمح بعد الآن لمقاتلي الإيغور الذين لجأ بعضهم سابقاً إلى أفغانستان بدخول البلاد. ومن جهته دعا وزير الخارجية الصيني في أثناء اجتماعه مع وفد طالبان الحركة إلى محاربة المنظمات الإرهابية، وعبّر وانغ عن أمله في أن تتصدى طالبان لحركة تركستان الشرقية الاسلامية باعتبارها تمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الصيني.
وعليه إن مطالب الصين واضحة للتعامل مع حركة طالبان أبرزها قطع العلاقات مع حركة تركستان الشرقية الإسلامية ومنع مقاتليها من الدخول إلى إقليم شينجيانغ، فضلاً عن تأمين الحماية للاستثمارات الصينية. وبالنسبة إلى الشرط الأخير فقد أعلن المتحدث سهيل شاهين إنه إذا كانت لدى الصين استثمارات في أفغانستان فالحركة ستضمن سلامتهم مضيفاً” سلامتهم مهمة جداً بالنسبة لنا”. وبعد أن تم الاتفاق بين الجانبين الصيني وحركة طالبان حول هذه المواضيع وإظهار الأخيرة حسن النية نحو الصين وليونة في تعاملها يختلف عما كان عليه قبل عشرين عاماً، أعلنت الصين ، بعد دخول حركة طالبان إلى كابل ، أنها على استعداد لإقامة علاقات ودية مع حركة طالبان. وبالفعل اجتمع السفير الصيني في كابل مع نائب رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان عبد السلام حنفي وناقشا أمن السفارة الصينية والدبلوماسيين والوضع الحالي في أفغانستان والعلاقات الثنائية والمساعدات الإنسانية الصينية.
ومن ناحية أخرى ترى الصين أنه لا يمكن لها تحقيق مصالحها في أفغانستان وضمها إلى مشروع طريق الحرير إذا لم يتحقق الأمن في أفغانستان، لذلك تسعى بكين حالياً إلى تأمين الاستقرار الأمني والسياسي فيها عبر التعاون مع دول الجوار والمجتمع الدولي. فعمدت الصين إلى إجراء المشاورات مع الدول الأخرى حيث رأى وزير الخارجية الصيني وانغ يي في الاتصال الذي أجراه مع نطيره الباكستاني محمد شاه قريشي أن البلدين بحاجة إلى تكثيف التنسيق بشأن أفغانستان، وأضاف أن الصين وباكستان ستدعمان أفغانستان في محاربة الارهاب، ومنعها من أن تصبح مرتعاً لقوى الارهاب، وأنه ينبغي على الجانبين تشجيع جميع الأطراف الأفغانية على تعزيز التعاون، وإقامة هيكل سياسي جديد واسع النطاق وشامل يناسب الظروف الأفغانية ويدعمه الشعب. كما أجرى الرئيس الصيني اتصالاً بالرئئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أعرب فيه الأخير عن استعداد بلاده للتعاون مع الصين لإرساء الأمن والاستقرار في أفغانستان، وبذل الجهود في مسار تحقيق التنمية والتقدم والازدهار. واتفق الرئيس الصيني في اتصال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تعزيز التنسيق بشأن أفغانستان ، وأعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي في اتصال مع نظيره البريطاني دومينيك راب إنه لا ينبغي للمجتمع الدولي أن يسمح باستخدام أفغانستان ميداناً لمعركة جيوسياسية.
لقد سعت الصين سابقاً إلى تأمين الاستقرار في أفغانستان فعينت مبعوثاً خاصاً لها ، كما دعت إلى المصالحة بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان فاستضافت عدة لقاءات مباشرة بين المسؤولين الأفغان وممثلي حركة طالبان ، كما شجعت باكستان، التي دعمت حركة طالبان على اتخاذ سياسة أكثر مرونة تجاه أفغانستان ودعم الاستقرار السياسي والأمني فيها.
الصين كانت أمام خيارين أحلاهما مرّ أما التعامل مع حركة طالبان وتحقيق مصالحها الاقتصادية والأهم من ذلك تأمين البعد الأمني ومنع مسلحي الايغور من دخول شينجيانغ والقيام بأعمال إرهابية خاصة أنه وسبق لحركة تركستان الشرقية الإسلامية أن قامت بأعمال إرهابية في العديد من المناطق الصينية بلغت منذ العام 1990 حتى 2014 أكثر من 200 عملية إرهابية وأدت إلى مقتل وجرح العديد من السكان الصينيين، وإما عدم التعاون مع طالبان بالتالي زعزعة أمنها القومي وتعرض شركاتها ورعاياها في أفغانستان والدول المجاورة لاعتداءات من قبل الجماعات المتطرفة الارهابية كما حصل في باكستان خلال الفترة الأخيرة، وهذا ما لا تريده الصين التي أصبحت اليوم قوى صاعدة يتوقع أن يصبح اقتصادها أكبر اقتصاد في العالم عام 2028. ومن ناحية أخرى تريد الصين أن تبرهن أن الولايات المتحدة الأميركية لم تجلب سوى الدمار إلى أفغانستان بينما هي تسعى إلى تحقيق التنمية وإحلال السلام فيها.
لن تغامر الصين بالاستثمار في أفغانستان إلا أذا توفر الأمن والاستقرار السياسي فيها وهذا ما تعمل عليه حالياً. لقد سبق للصين أن دخلت في استثمارات فاشلة في أفغانستان كان أبرزها مشروع نحاس “مس إيناك” الذي منح امتياز المنجم لشركيتين صينيتين مملوكتين للدولة، ويقدر بأن المنجم يحتوي على 5.5 مليون طن من خام النحاس عالي الجودة، إلا أن الوضع الأمني في مقاطعة لوغار، التي يوجد بها المنجم والتي أُدرجت كواحدة من المقاطعات غير الآمنة بسبب وجود طالبان فيها، دفع بكين إلى وقف العمل به على الرغم من أن حركة طالبان تعهدت بعدم مهاجمة المنجم. ومن المرجح أن تعاود الشركات الصينية نشاطها في المنجم بعد أن تستقر الأوضاع في ظل تأمين حماية كبيرة للعمال الصينيين.
لن تسرع الصين إلى أفغانستان ولكنها ستشارك في إعادة الإعمار والتنمية على نطاق محدود. وتشير الهجمات التي وقعت في مطار كابل أن الأوضاع الأمنية في البلاد غير مستقرة ويحتمل أن تشكل خطراً على الشركات الصينية. ومن جهة أخرى ستبقى الصين حذرة في تعاملها مع حركة طالبان كي لا تتحول قضية مسلحي الإيغور ورقة بيد حركة طالبان للضغط على الصين. ومن غير المرجح ضم أفغانستان ، على الأقل في المدى القريب، إلى مشروع طريق الحرير وإلى الممر الصيني الباكستاني، بل ستراقب بكين الأوضاع عن كثب لترى إلى ما ستؤول إليه الأمور في أفغانستان، وستسعى إلى تأمين الاستقرار السياسي والأمن وعدم انجرار أفغانستان إلى حرب أهلية.
*باحثة في الشان الصيني
شاهد أيضاً
منتخبنا وحلم الثلاث النقاط للتاريخ
محمد العزيزي بدأ المنتخب اليمني المشاركة في بطولة خليجي لأول مرة بنسخة 2003م في الكويت …