فاطمة عطفة*
أي فتاة في سن الشباب تحلم في يوم عرسها وتتخيل نفسها تلبس الفستان الأبيض، لكني لم أعد أصل إلى سن الشباب حتى تحقق حلمي بأن ألبس فستان أبيض لكنه ليس فستان عرس بل هو الفستان التي لم أشأ أن أحلم به فهو أنقى وأفضل من أي حلم بل لم يمكن لأي فتاة أن تحلم بذلك الفستان الذي خطف مني أجمل حلم ممكن أن يحصل حلم يوم 22 شباط/ فبراير سنة 1958 يوم إعلات الوحدة بين سورية ومصر، لكنها للأسف لم تدم طويلا، وسرعان ما انتهت وضاع الحلم العربي الذي تحقق بين البلدين. كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما تم اختياري بأن ألبس الفستان الأبيض، رمز الوحدة، وعلى يميني تلميذة وأخرى على يساري، وكل واحدة منهما تلبس ثوبا يمثل “علم الوحدة”. في ذلك الوقت لم أكن أقدر رمزية هذا اليوم وأنا أمشي في المظاهرة الشعبية التي احتشدت في بلدتي “القدموس” ابتهاجا لاستقبال جمال عبد الناصر خلال زيارته لمدينة اللاذقية، وكان الجميع يتصورون أن موكبه سوف يمر بالقدموس قبل أن يتابع إلى بانياس في طريقه إلى اللاذقية.
كانت مشاعر الناس ملتهبة بمحبة جمال، وكان اسمه يتردد في كل قلب وعلى كل لسان، أكبر وأسمى من أي لقب من ألقاب الزعامة والتبجيل. والمصيبة المؤلمة أن فقدانه ترك غصة عميقة جارحة في قلب الأمة ولم تغادر قلوب محبيه، وخاصة أن رحيله كان في الذكرى المشؤومة للانفصال، وجيلنا تفتح وعيه على صورة جمال واسم جمال، ولا يمكن أن ينساه أبدا، كما أجيال آبائنا وأساتذتنا وشباب تلك الأيام يحملون آثارا وندوبا من ذلك الجرح. وأنا وصديقاتي دائما نتذكر ذلك اليوم، وكم أعتبر نفسي محظوظة جدا لأن إدارة المدرسة اختارتني لأكون في ذلك الثوب الأبيض تعبيرا عن نقاء الوحدة العربية وجمالها.
نعم، جاء الحلم مبكرا، وأنا كنت طفلة لا تعرف وقتها المعنى الأسمى لهذا الحلم، لكن ذلك الثوب شكل في ذاكرتي علامة غالية مضيئة فكان وما زال أجمل الذكريات في حياتي، رغم أني يوم فرحي لبست فستان الزفاف لمن اخترته بنفسي شريك حياتي وسكن في خلجات قلبي ووجداني، لكن ثوب الوحدة شيء مختلف، فمن لم يعش تلك المشاعر، مشاعر الوحدة والوطن الواحد والجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي والجنوبي، فقد فاته الكثير. ولجلال الذكرى يكفي أن أشير أن جمال عبد الناصر أطلق على سورية اسم (الإقليم الأول) تكريما ومحبة لها، وعلى مصر (الإقليم الثاني)، لكن ذلك الحلم الوحدوي أشرق في حياتنا وغاب فجأة. وجاءت ذكرى وفاة عبد الناصر مثل كل سنة وأنا أستعيد تلك اللحظات، وإن لم تكن تلميذة الصف الخامس تستوعب المعنى الحقيقي لتلك الأحداث.
لكن الشعر كان حاضرا، ويكفي أن نراجع مجلة “الآداب” اللبنانية وحماسة الأديب الراحل سهيل إدريس لقيام الوحدة ولكل صوت يتغنى بها. في تلك المرحلة كتب الشاعر يوسف الخطيب، ابن فلسطين، قصيدته “أغنية انتصار لطروادة”، لأن الوحدة وانتصار ثورة الجزائر من أعظم وأغلى أحداث تلك المرحلة من تاريخ أمتنا الحديث والمعاصر. ومن المؤسف أن تلك التجربة الاستثنائية لم تدرس جيدا، ويكفي أن أختصر الفاجعة بصرخة نزار قباني يوم قال في وداع جمال عبد الناصر: قتلناك، يا آخر الأنبياء…
*كاتبة سورية
شاهد أيضاً
بساطة.. مجتمع مريض بحاجة الى منقذ!!
احمد الشاوش* على بلاطة.. نحن مجتمع مريض يعاني من ضيق في النفس وشلل في الامانة …