د/رلى الفرا الحروب*
شكل الملك عبد الله الثاني لجنة من ثلاثة وتسعين عضوا (استقال منهم ثلاثة) برئاسة دولة سمير الرفاعي من أجل مهمة واحدة هي تحديث المنظومة السياسية بهدف معلن هو الوصول إلى برلمان حزبي وكتل برامجية قوية تشكل حكومات برلمانية.
ولكن، وبحسب الملخصات التي نشرت عن تلك المخرجات، فقد تفاوتت مخرجات اللجنة في جودتها ، إذ جاءت توصيات لجنتي الشباب والمرأة جيدة وإن كانت تفتقر إلى آليات واضحة، في حين جاءت توصيات لجنة الإدارة العامة غامضة تخلو من التفاصيل، أما توصيات لجنة الانتخاب فقد جاءت دون الطموح، ولا تحقق الهدف المعلن وهو برلمان حزبي برامجي يشكل حكومة، بل إنها لا يمكن أن تقود في يوم من الأيام إلى وجود حزب يتمتع بالأكثرية النيابية، في حين جاءت بعض توصيات لجنة تعديل الدستور كارثية، وتناقض الهدف المنشود وهو تعزيز عمل البرلمان كسلطة تمثل الشعب، وتمكينه من تشكيل حكومة برلمانية، لتفعيل الركن الأول المعطل حاليا في نظام الحكم وهو الركن النيابي.
في هذا المقال، سأقصر تعليقي على فكرتين وردتا في الورقة المرجعية وسبع تعديلات خطيرة للدستور اقترحتها اللجنة الملكية، أراها انقلابا على الدستور الأردني ونظام الحكم النيابي الملكي، ونسفا لدور البرلمان كسلطة موازية في قوتها للسلطة التنفيذية، وإعداما لإمكانية قيام حكومة منتخبة في قادم الأيام، وسيكون لي مقالات قادمة حول مخرجات لجنتي الانتخاب والأحزاب.
أما الفكرتان فهما:
1. ورد في الورقة المرجعية وصف للشروط المطلوبة لتحديث المنظومة السياسية، وهي شروط لا خلاف عليها، ولكن الورقة ما طفأت تتحدث عن النموذج الديمقراطي المطلوب للأردن والذي يناسب الأردنيين دون أن تخبرنا بماهية ذلك النموذج المفصل لنا دونا عن خلق الله أجمعين، والذي يناسبنا ولا يناسب غيرنا، في حين أن أوراق الملك النقاشية، لا سيما الأوراق الخمسة الأولى، كانت قد رسمت ذلك النموذج المطلوب، أسوة بكل ديمقراطيات العالم، واعتبرت أنه تشكيل حكومات برلمانية حزبية تحقق المبدأ الدستوري ” الشعب مصدر السلطات”، وليس سرا أن تمكين الشعب من حكم نفسه عبر برلمان منتخب وحكومة برلمانية، عدا عن كونه استحقاقا دستوريا للنظم البرلمانية التي ينتمي إليها دستورنا، إنما هو ترشيد للحكم ليلبي طموحات الشعب، ويزيح عبئا عن كاهل الملك في إدارة الدولة، ويبقيه في منأى من النقد والهجوم، ولذلك كانت هذه الحكومة البرلمانية محور رؤية الملك في أوراقه النقاشية، والغريب أن اللجنة قد تجاهلت ما رسمته تلك الأوراق من أدوار للسلطات الثلاث والشعب ومنظمات المجتمع المدني، مع أن الملك في كتاب تكليفه لرئيس اللجنة قد جعل تلك الأوراق مرجعية لعملها، ولكنها خرجت علينا بتعديلات تنسف تلك الرؤية، رغم الشعارات المعلنة التي يرددها أعضاؤها في وسائل الإعلام.
2. تكرر أيضا في الورقة المرجعية وفي تصريحات أعضاء اللجنة ورئيسها أن توصيات اللجنة تأتي لتساعد الأردنيين في الوصول إلى النضج الديمقراطي لأننا في الوضع الراهن غير جاهزين للديمقراطية، وهي مفارقة هزلية، فهذه اللجنة المعينة التي لم ينتخب أعضاءها أحد، والتي قفزت عن دور البرلمان المنتخب، ترسم طريقا للشعب الأردني ليصل إلى النضج الديمقراطي، باعتبارنا نحبو في عالم الديمقراطية، ولسنا مؤهلين لتشكيل حكومة نيابية وحكم أنفسنا بأنفسنا أسوة بكل خلق الله من حولنا، مع أننا من أعلى دول المنطقة في نسبة التعليم وحملة الشهادات العليا وفي نسبة المبدعين والموهوبين في كل المجالات، ومن أقدم الدول في تاريخ العمل الحزبي والنقابي والبلدي. إن هذا الوصف لا يمكن أن يفهم إلا بأنه شتيمة للشعب الأردني بأحزابه ونقاباته ومجالس نوابه ومؤسساته المدنية، وهو وصف يستدعي محاسبة كل من يردده كالببغاء.
أما عن التعديلات الدستورية المقترحة الثلاثة والعشرين، فسأقصر حديثي عن سبع منها أراها نسفا للركن النيابي في نظام الحكم، وإخراجا لدستورنا من فئة النظم البرلمانية الملكية إلى فئة مجهولة ليس لها وصف ولا نظير، ولا يمكن تصنيفها ضمن أي إطار دستوري شائع، وهي شذوذ واضح عن الدساتير التي تشبهنا والمسماة بالملكيات الدستورية أو النظم البرلمانية.
هذه التعديلات المقترحة هي:
1. الفصل بين النيابة والوزارة، خلافا لأحكام المواد ( 1، 24، 22، 52) من الدستور الأردني.
2. إسقاط الحصانة البرلمانية عن أعضاء مجلس النواب، والاكتفاء بحصانة من التوقيف وليس المحاكمة، خلافا لأحكام الدستور في المواد (86 و 87) التي تستوجب تصويت الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس على نزع الحصانة، والتي لا تؤاخذ العضو عن أي رأي أو تصويت أو خطاب يلقيه أثناء اجتماع جلسات المجلس.
3. قبول استقالة النائب فور تقديمها حكمها دون تصويت أعضاء المجلس عليها، خلافا لأحكام المادة (72 ) من الدستور.
4. رفع العدد المطلوب لقبول مذكرة طرح الثقة في الحكومة من عشرة أعضاء إلى 25% من إجمالي أعضاء المجلس، خلافا لأحكام المادة (53 ) من الدستور.
5. النص على أن الحكومة التي تحل مجلس النواب قبل أربعة شهور من انتهاء عمره الدستوري لا تلزم بالاستقالة، خلافا لنص المادة ( 74/2 ) من الدستور.
6. تحصين قوانين عادية من التعديل في المجالس المقبلة، ورفعها إلى مرتبة تعديلات الدستور، وهي: قوانين الانتخاب والاحزاب والهيئة المستقلة للانتخاب وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء، وذلك باشتراط موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب (المنتخبين) وثلثي أعضاء مجلس الأعيان (المعينين) لتعديلها، خلافا لأحكام المواد (84، 95) من الدستور.
7. تحويل شروط الترشح لمجلس النواب الواردة في قانون الانتخاب إلى شروط دستورية، أي تعديل الدستور ليتواءم مع القانون وليس العكس، خلافا لأحكام الدستور الأردني في المواد ( 70 و 75).
وقبل أن أتناول هذه النقاط السبعة بقدر يسير من التفصيل، لا بد أولا من توضيح موضع الدستور الأردني من دساتير العالم.
ينتمي الدستور الأردني المأخوذ أصلا في نصوصه عن الدستور البلجيكي إلى عائلة من الدساتير تسمى الملكيات الدستورية أو نظم الحكم البرلمانية، وتختلف هذه النظم عن نظيرتها من النظم الرئاسية في عدد من الأمور:
1. هذه النظم البرلمانية نوعان: نظم يرأسها ملك يرث الملك بالوراثة وتسمى بالملكيات الدستورية، والملك فيها يملك ولكنه لا يحكم مباشرة، ولا يستطيع ان يمارس أي صلاحية إلا تلك التي نص عليها الدستور، ومن خلال حكومته، وإرادته لا تنفذ ولا تكون ملزمة إلا إن صادق عليها الوزير المعني ورئيس الوزراء، ودستور الأردن ينتمي إلى هذا النوع من النظم، مثله مثل بلجيكا واسبانيا وهولندا والدنمارك والنرويج والسويد وبريطانيا إلى حد ما، ونظم أخرى يرأسها رئيس جمهورية ينتخب من الشعب أو يتم التوافق عليه من قبل الكتل الحزبية في البرلمان كالعراق ولبنان وتونس وإسرائيل وتركيا قبل التعديلات الأخيرة للدستور. كلا النوعين يسمى بالنظم البرلمانية، وإن اختلف مسمى رأس الدولة (ملك أو رئيس) وطريقة وصوله إلى السلطة ( بالوراثة او الانتخاب أو التوافق البرلماني) وحجم الصلاحيات الممنوحة له ( مقيدة أو نسبية أو مطلقة).
2. أن السلطة التنفيذية في النظم البرلمانية لها رأسان: رأس بصلاحيات محدودة هو الملك أو الرئيس مصون من التبعة والمسؤولية، ورأس ثان يأتي من البرلمان بترشيح الأكثرية النيابية التي هي في الديمقراطيات المستقرة أكثرية حزبية، ويمارس السلطة والولاية الدستورية بكامل صلاحياتها وهو الذي يحاسب ويسأل برلمانيا وقضائيا وشعبيا، ولذلك، فقد نصت دساتير تلك الملكيات الدستورية صراحة على أن الأحزاب هي من يترشح للبرلمان، بل ونصت على توزيع المقاعد بينها بموجب أحكام الدستور الذي يفصل الدوائر الانتخابية وعدد ممثلي الدوائر وغير ذلك من قضايا.
3. وهي بذلك تختلف عن النظم الرئاسية (كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا) التي تتمتع برأس واحد للسلطة التنفيذية، حيث ينتخب فيها الرئيس مباشرة من الشعب ويشكل حكومته بهذا التفويض الشعبي، ويقابله البرلمان الذي ينحصر دوره في المساءلة والرقابة والتشريع ومنح الثقة لحكومة الرئيس او سحبها منها ومن الرئيس عبر آليات دستورية. ولكن، حتى في هذا الشكل من الحكم، يلزم الرئيس أن يأتي من حزب يحوز أكثرية المقاعد في البرلمان، وإلا أضحى مشلولا عاجزا عن تمرير أي من سياساته وقراراته، وفي كثير من الحالات، فإن الرئيس يختار وزراءه كلهم أو بعضهم من البرلمان لإضفاء الشرعية الشعبية على حكومته وضمان الدعم الدائم لقراراته في البرلمان.
4. وعليه، فإن نظم الحكم البرلمانية لا يوجد فيها فصل قاطع بين السلطات، وإنما هو فصل مرن، بمعنى أنه فصل للصلاحيات، كي لا تتكدس السلطة في يد واحدة منها، ولكن من يتولى تشكيل الحكومة ( أي السلطة التنفيذية) هو في الواقع البرلمان (أي السلطة التشريعية)، خاصة في الملكيات الدستورية، لأن الملك منبعه الوراثة، والحكم منبعه الشرعية الانتخابية أو البرلمان، فالملوك ليسوا منتخبين، ولكن البرلمانات منتخبة، ولذلك سميت الملكيات الدستورية المشابهة للأردن بالنظم البرلمانية، لأن البرلمان هو من يمارس الحكم فعليا، وليس الملك.
5. بناء على ما تقدم، فإن مشكلتنا في الأردن كانت وما زالت تعطيل الركن النيابي في الحكم، وتحويل البرلمان إلى شكل مشابه للنظم الرئاسية، في حين أن الملك غير منتخب وحكومته غير منتخبة، والأحزاب أضعفت كي لا تشكل أكثرية في البرلمان، والبرلمانات يترشح لها