د/طارق ليساوي*
رغم أني لست من هواة متابعة مباريات كرة القدم، لكن حرصت مساء السبت 11 ديسمبر 2021 على متابعة مباراة كرة القدم بين المنتخبين المغربي والجزائري بمناسبة بطولة كأس العرب ، بل و تابعتها وسط الجمهور على المقهى، و أعجبني الأداء الرائع لكلا الفريقين و التنافس الحميد و الأخوي بينهما، لكن مع ذلك، فإن متابعتي للمباراة و وجهة نظري طغى عليها الحس السياسي و الأكاديمي…و ما أعطى لهذه المباراة الكروية أهمية خاصة، هو أجواء التوتر السياسي وحرب التصريحات و حالة المقاطعة الدبلوماسية بين البلدين المتنافسين…و المباراة بشهادة المختصين كانت درسا كرويا كبيرا إن على مستوى التقنيات الكروية التي أبدع فيها اللاعبون من كلا الجانبين، أو على مستوى الأخلاق العالية التي ميزت لاعبي الفريقين، و كذلك أخلاق كلا الجمهورين المغربي و الجزائري…و الأجواء السابقة و اللاحقة للمباراة تؤكد على أن الفرقة بين الشعبين هي مصطنعة و الخلافات السياسوية تهم النخب الحاكمة و لا تعبر عن إرادة كلا الشعبين …
وأذكر أني سبق لي أن كتبت مقالا بمناسبة التصويت على ملف “موركو 2026 بعنوان ” الكرة كانت صادقة ومحايدة ورفضت خيانة الشعوب..”، وأشرت فيه إلى أن:” التصويت الجزائري والمغاربي لصالح الملف المغربي كان بردا وسلاما على شعوب الإقليم، وبعث برسائل الأمل في مستقبل مغاربي أفضل، ولعل في ذلك فاتحة خير تقود لمصالحة جزائرية مغربية، تتوج بإحياء حلم المغرب الكبير، ولما لا نرى ترشح مشترك في 2030، لتنظيم المونديال يضم المغرب والجزائر وتونس، على غرار الملف الأمريكي الشمالي.. قد يبدو هذا التطلع في ظل الظرف السياسي والدبلوماسي الراهن، نوع من أضغاث الأحلام أو التفاؤل المزيف…لكن من المؤكد بالنسبة لي، هو أن الخروج من الأزمات المتتالية في كلا البلدين يقتضي حتما التعاون والتكامل بين المغرب والجزائر وعموم البلدان المغاربية، أما أي وصفة أخرى فمجرد تجديف عكس التيار، وأنا أوجه كلامي إلى العقول المتنورة في كلا البلدين، والتي ينبغي أن تدرك أن سفينة النجاة واحدة ولن تكون إلا بالتكتل الإقليمي وخلق دورة تنمية إقليمية
فالسياسات المتبعة منذ عقدين لها سلبيات واضحة، على اقتصاديات البلدين الجارين، فإغلاق الحدود البرية يكلف البلدين خسائر سنوية بملايير الدولارات “، وكان بإمكان كلا البلدين تفاديها بنوع من العقلانية الاقتصادية والواقعية السياسية، بل وجني أرباح اقتصادية وسياسية وأمنية معتبرة لو تم تفادي غلق الحدود، بل إن فتح الحدود سيساهم في تنمية المناطق الحدودية بين البلدين، أما على المستوى الأمني فإن فتح الحدود يساعد على التنسيق الأمني ومراقبة تحرك العناصر الإرهابية ومحاربة الجريمة العابرة للحدود”.
و بعيدا عن المكاسب الأمنية و الاقتصادية، هناك معطى إنساني أهم فهناك علاقات عائلية تجمع كثيرا من المغاربة والجزائريين، و الحدود المغلقة أضرت بصلة الرحم بين أفراد العائلة الواحدة، خاصة و أن ما يفصلهم لا يتجاوز بضع كيلومترات… فهناك روابط قوية بين الشعبين المغربي والجزائري و ما يجمع الشعبين لا تسطيع الخلافات السياسية ضيقة الأفق أن تفرقه، فهناك قواسم اجتماعية وثقافية ولغوية ومحلية مشتركة و فتح الحدود و تجاوز الخلافات السياسية، سيحقق التكامل الاجتماعي والاقتصادي والأمني وسيكون بمثابة خطوة نحو الأمام في إطار ترسيخ قيم ومبادئ التنمية المشتركة في المنطقة…
و بالعودة إلى كرة القدم، الجميع يذكر كيف تفاعلت الجماهير المغربية مع المنتخب الجزائري، خلال منافسات كأس الأمم الافريقية التي احتضنتها جمهورية مصر في صيف 2018 ، وخروج هذه الجماهير في مسيرة تعبيرا عن غبطتها وإشادة بأداء المنتخب الجزائري، لدليل قاطع على التداخل القوي بين الشعبين المغربي والجزائري ،كما هو الشأن بالنسبة للشعوب الأخرى في تونس وليبيا وموريتانيا .بل إن العاهل المغربي لم يتردد في بعث رسالة تهنئة إلى الرئيس الجزائري المؤقت، ليعبر من خلاله لمجموع الشعب الجزائري ،أصالة عن نفسه ونيابة عن شعبه عن ان فوز المنتخب الجزائري بالكأس الافريقية هو أيضا فوز للمغرب.
لا أحد في مقدوره أن ينفي أن مختلف الحكومات المغاربية تواجه تحديات حقيقية وإكراهات جدية، في مقدمتها توفير فرص الشغل، وتمكين أجيال جديدة، قاعدتها الواسعة من الشباب، من شروط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. و يكفي أن أنير بصيرة القراء الكرام ببعض الأرقام و المؤشرات فقد أشرنا قبل أيام في برنامج “إقتصاد×سياسة”، إلى معطيات و مؤشرات صادمة، فبحسب الوكالة الأوربية لحرس الحدود و السواحل ، الهجرة غير القانونية عبر إيطاليا و إسبانيا بلغت في الفترة ما بين يناير و سبتمبر 2021 حوالي 8425 جزائريا و 4230 مغربيا و 14085 تونسيا و 4352 مصريا و 350 ماليا ، لا حظوا معي أن عدد راكبي قوارب الموت من البلدان المغاربية جد مرتفع و هذا مؤشر على الفشل التنموي و تضييق خيارات الناس ، لنقارن و ضع المغرب و الجزائر في 1999 مع وضع تركيا في نفس السنة ، و لنقم بمقارنة في 2020 ، فرق شاسع بين ما تحقق في تركيا و ما تحقق في المغرب و الجزائر يكفي أن الناتج القومي الإجمالي لتركيا في العام 2020 تجاوز الناتج القومي للدول المغاربية مجتمعة…
فالمنطق الاقتصادي، ولغة الأرقام، و المؤشرات الكمية و النوعية، والتجارب الدولية، تؤكد فعالية التكتلات الإقليمية، ودورها في التنمية الاقتصادية، وايجاد مناطق أمنة وجاذبة للاستثمارات و للكفاءات…و تكتل المغرب العربي أو المغرب الكبير، هو حلم راود الرعيل الأول من رجال المقاومة و التحرير، فهذه البلدان وهي تحت الإحتلال الفرنسي، تشكلت نواة مقاومة شملت بلدان المغرب و الجزائر وتونس، فمعركة الاستقلال والتحرر كانت معركة مغاربية، توحدت فيها جهود المقاومين قادة و شعوبا، غير أن جيل الاستقلال سلك منهجا مغايرا، إذ تم تبني سياسات ذات نزعة وطنية ضيقة الأفق، بل شهدت حروبا و نزاعات حدودية بين المغرب و الجزائر وبلغ النزاع ذروته، ليصبح حربا ساخنة في فترة “حرب الرمال” و انتقل إلى حرب باردة أو بالوكالة بعد 1975، بفعل انفجار قضية الصحراء.. وطيلة الفترة من الاستقلال إلى 1989، شهدت بلدان الإقليم محاولات للوحدة، فكانت الوحدة بين ليبيا وتونس، و ليبيا و المغرب، لكن هذه المبادرات كانت غير واقعية، وخاضعة للمزاج السياسي، لكن في 1989 بمدينة مراكش أعلن قادة خمس بلدان مغاربية:(المغرب+الجزائر+تونس+ليبيا+موريتانيا) عن ميلاد اتحاد المغرب العربي، غير أن هذه الخطوة ظلت حبرا على ورق و لم تعقبها خطوات فعلية في المجال السياسي و الاقتصادي …
و فشل الاتحاد المغاربي لم يكن نتاج لعدم فعالية الفكرة، وإنما لعدم وجود إرادة سياسية توافقية، تغلب منطق العام على الخاص، والإقليمي على الوطني، والاقتصادي على السياسي، والتنموي على الأمني…لكن فكرة الوحدة المغاربية ناجحة وذات جدوى من الناحية الاقتصادية و التقنية والسياسية والأمنية، ومن دلائل هذه الفعالية:
أولا – الوحدة بين بلدان الاقليم ستفرز فضاء إقليمي شاسع ومتنوع إذ تبلغ مساحة دول المغرب العربي حوالي 5.782.140 كلم2 وتشكل ما نسبته 42 % من مساحة الوطن العربي منها أكثر من 100ألف كلم 2 صالحة للزراعة. ويبلغ طول الشريط الساحلي للاتحاد حوالي 6505 كلم، أي 28 % من سواحل الوطن العربي.
ثانيا – إمكانات بشرية في غاية الأهمية: إذ يبلغ عدد سكان اتحاد المغرب العربي حوالي 100مليون نسمة أي ما نسبته 27 % تقريبا من إجمالي سكان الوطن العربي..و هو ما يعني سوق استهلاكي يتجاوز 100 مليون نسمة، ورأسمال بشري متنوع من حيث الثقافة، ومن حيث الكفاءات البشرية ومن حيث الاحتياجات.
ثالثا- إقتصاديا ناتج قومي إجمالي يقترب من عتبة 300 مليار دولار سنويا، وفي حالة الوحدة من المرجح ان تقترب لتريليون في ظرف عقد من الزمن، كما سينتقل معدل النمو الاقتصادي في الإقليم لأزيد من 9 في المائة و لمدة عقد وأزيد ، و يمكن لإنجازات من هذا النوع أن يكون لها تأثير مباشر في امتصاص الكم الهائل من العاطلين، وفي زيادة نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الإقليمي في مختلف دول المنطقة، و من المتوقع أن يصل إلى أكثر من 6000 دولار أمريكي في أفق عشر سنوات ، شريطة توفر سياسات اقتصادية و إجراءات نقدية و مالية مواكبة…
رابعا- جيواستراتيجا: تكتل مغاربي بسياسات و مواقف موحدة، يعني قدرة تفاوضية في غاية الأهمية و التأثير، لاسيما و أن الموقع يتيح خصائص جيواستراجية ناذرة، فالاتحاد يتواجد على واجهتين بحريتين، و ممر دولي حيوي للملاحة الدولية و للكابلات الدولية، وهو همزة وصل بين إفريقيا و أوروبا، و دوره في التأثير على السياسات الدولية في قضايا الهجرة و الجريمة العابرة للحدود، سيكون جد مؤثر ويحقق لبلدان الإقليم مكاسب اقتصادية و سياسية يصعب الحصول عليها بشكل منفرد…
و إلى جانب هذه المزايا، الاتحاد هو خطوة سياسية كفيلة بتجنيب المنطقة النزاعات والثوثرات الحدودية، و كفيل بإيجاد تسوية شاملة للميول الإنفصالية سواء بداخل المغرب أو الجزائر او ليبيا، بفعل وجود خصوصية ثقافية أو إثنية. وهو حل عملي موضوعي لنزاع الصحراء..
فثمار الوحدة لها تأثير مباشر على المواطن، لأن التكتل سيخلق دورة حميدة على المستوى الاقتصادي والتنموي، فهناك تكامل اقتصادية بين البلدان الخمس، فاحتياجات الجزائر او ليبيا باعتبارهما بلدان نفطية، يمكن للاقتصاد المغربي او تونسي أن يغطيها والعكس صحيح، فالوحدة ستولد طلب على مستوى الاستهلاك الخاص أو العام، وسيتيح سيولة مالية بين بلدان الإقليم وهو الأمر الذي سيؤثر على الاستثمار، ويحفز الإنتاج الصناعي والزاعي والخدمي…
من الصعب حصر المكاسب، فمكاسب الوحدة تفوق الخسائر المحتملة، وليس هناك خسارة و هدر تنموي، أكبر من الاستمرار في السياسات الوطنية و الإنكفائية. والمنفتحة على أوروبا أكثر من انفتاحها على بلدان الجوار، فحجم التجارة البينية بين بلدان الإقليم لاترقى لمستوى مثيلاتها مع بلدان أوروبا …فقد أوضحت دراسة أنجزها مؤخرا البنك الدولي أن منطقة المغرب العربي تظل الأقل اندماجا على مستوى العالم حيث تبلغ تجارتها البينية أقل من 5 في المائة من التجارة الكلية بين بلدان الاتحاد. وهي نسبة ضعيفة جدا، وأقل من المستوى المسجل في كل التكتلات التجارية الأخرى حول العالم.
للأسف، منطق التكتل والتعاون المغاربي شبه غائب، في ظل التصاعد المستمر في التوتر بين المغرب والجزائر قد يستمر لسنوات قادمة، وخصوصاً في ظل عدم وجود حلول ملموسة لنقاط الخلاف الرئيسية بينهما. ولعل من أهم نتائج هذا التوتر هو الارتفاع القياسي في ميزانية التسليح الخاصة بكلا البلدين الشقيقين ، وخصوصاً المغرب، الذي أنفق العام الماضي ما يقارب 5 مليارات دولار على تسليح جيشه، ناهيك بتوسعه بشكل ملحوظ في التعاون العسكري مع تركيا و”إسرائيل” والولايات المتحدة، وهو ما يقابله الجانب الجزائري بمزيد من التسلح والاستنفار، ما يجعل العلاقة بين الجانبين مرشحة للاشتعال في أي لحظة، رغم محاولات عربية خجولة بدأت لتهدئة هذا التوتر الذي قد يزيد من خلط الأوراق في شمال أفريقيا، بالنظر إلى الأوضاع الحالية في ليبيا وتونس…
إن الحتمية التاريخية والجغرافية، والضرورة الاقتصادية، والتحديات والاكراهات الاجتماعية، والتداعيات الجيوسياسية جهويا وقاريا ودوليا، وصعود اليمين المتطرف وانتشار المد الشعبوي في البلدان الغربية، وتغول الكيانات الاقتصادية العابرة للحدود، وتفشي الليبرالية المتوحشة وقيمها الاستهلاكية، وصعود قوى دولية جديدة تتطلع بدورها لحصد الأخضر واليابس…كلها تحديات واكراهات تدفع باتجاه ضرورة التكتل الإقليمي وتجاوز الخلافات القطرية ضيقة الأفق …
نتمنى صادقين أن يتم التفاعل الإيجابي مع دعوات الحوار و التعاون و الوحدة، لا نريد وحدة فجائية أو شكلية، وإنما إجراءات تدريجية، تقوم على بناء الثقة، ونبذ الخلافات السياسية وترحيلها، أو تجاوزها بشكل مؤقت، وبدل ذلك يتم فتح الحدود خاصة بين المغرب و الجزائر، و تعزيز التجارة البينية و التكامل الاقتصادي، فالمصالح الاقتصادية محايدة و لا تخضع لمنطق الخلافات السياسية، لاسيما و أن ثمار الوحدة إقتصاديا جد مجدية…و تغليب المصالح الوطنية و الإقليمية، على الأحقاد و الخلافات الشخصية، كفيل بتحقيق حلم مغاربي يراود شعوب الإقليم، ولو تحقق ، لتغير وجه المنطقة و لأصبحت من أكثر مناطق العالم جذبا للإستثمار و للكفاءات… فإهمال تكتل المغرب العربي فيه مجانبة للصواب، وابتعاد عن أقصر الطرق وأقلها تكلفة وأكثرها نفعا، فمصلحة الشعوب المغاربية تقتضي تفعيل هذا التكتل على اعتبار أن مثل هذه المبادرة السياسية فيها مصلحة ظاهرة لكل شعوب الإقليم، نظرا لتقارب المستوى التنموي بين الأطراف وأيضا في ذلك تأثير مباشر على استقرار المنطقة وتنميتها ..
نأمل أن نشهد في القريب العاجل إحياءا لهذا المنتدى الإقليمي، وتفعيل العمل المغاربي المشترك وتجاوز الخلافات البينية، ودعوتي هذه موجهة إلى كل الحكام المغاربة بدون استثناء فرغبة الشعوب في الوحدة لا زالت قائمة والقواسم المشترك أكثر من نقاط الخلاف، لكن ما ينقص هو الإرادة والجرأة السياسية لإزالة جدران الخلاف والشقاق وتغليب منطق التعاون والتضامن، فذلك بحق هو مستقبلنا المشترك و طوق النجاة لبلدان و شعوب الإقليم، وهو حلم ينبغي أن يكون جدول أعمالنا اليوم قبل الغد ، وإذا كانت الكرة سببا في إحياء قيم وتطلعات الوحدة و المصير المشترك، فإننا نشكر الكرة لأنها حققت ما عجزت عنه السياسة و الإقتصاد… و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…