“أنظمة الحكم الثورية العربية لم تتبنَّ مشروع بناء الدولة وثقافة الاعتراف بالآخر”
بقلم/ فيصل مكرم*
▪تلقيت خلال الأيام الماضية رسائلَ واتصالاتٍ من العديد من القرّاء والمُتابعين والسياسيين عبر الخاص حول ما تناولته في مقال الأسبوع الماضي بعنوان (ثورات العرب وأحزابهم) على هذه الصحيفة الغراء، منهم من عاتب ومنهم من أيد وعلل، ومنهم من كانت له مُلاحظات، ومع أنني أشكر كل من عاتب وأيد ومُمتن لمن أبدى بعض المُلاحظات، فقد رأيت أن أتناولَ بعض الحقائق عما آلت إليه ثورات العالم العربي استكمالًا لما جاء في مقال الأسبوع الماضي من باب إيضاح الموقف لا أكثر، وما أسهمت به الأحزاب السياسية العربية بمُختلف توجهاتها خلال أكثر من سبعة عقود مضت من العمل الحزبي السري والمُعلن وفي حقب مُختلفة من التاريخ العربي المُعاصر.
▪بداية لم أتطرق إلى أهمية تلك الثورات من عدمها ولم أشكك في ضرورتها وفي غايتها النبيلة لجهة تحقيق تطلعات شعوب تلك البلدان في الانعتاق من نير الاستعمار والتخلص من حكم الاستبداد والتخلف، ولم أكن يومًا مُعترضًا على أهداف الثورات العربية التي حظيت بتأييد الشعب بكل فئاته، ولكنني كنت وما زلت مُعترضًا على المسارات والتحوّلات للأنظمة الثورية التي أفرغت تلك الثورات من مضمونها وحوّلت أهدافها إلى شعارات سياسية لا علاقة لها بطبيعة الثورة وأهدافها، ولم تترجم تطلعات جماهيرها بقدر ما أصبحت وسيلة للاستحواذ على السلطة وقمع مُعارضيها وتكريس سلطة الفرد والحزب الواحد وحشد كل إمكانات البلد من أجل بقاء الحاكم حاكمًا لا يحكمه زمن ولا دستور، ولا يعترض على أفعاله وأقواله ذو خبرة أو حرص على مُقدرات الشعب وأهداف الثورة.
▪أنظمة الحكم الثورية العربية لم تتبنَ مشروع بناء الدولة على أسس سليمة شملتها غالبًا أهداف الثورة وتصدرت كل شعاراتها، ولم تكرس ثقافة الاعتراف بالآخر والتداول السلمي للسلطة، ومن أجل حماية نفسها ومنظومتها السياسية والاجتماعية كرست أجهزتها الأمنية لمُلاحقة مُعارضيها وخصومها، وسخّرت مُقدرات البلد وإمكانات الدولة لخدمة أهدافها وتوسيع جماهيرية الحاكم الفرد أو الحزب الأوحد، وجعلت من المؤسسة العسكرية بعبعًا لكل من يُحاول الانقلاب عليها ومن الاستعراضات العسكرية رسالة للداخل عن مدى قوتها وليس كما ينبغي أن تكونَ عقيدة الجيوش الوطنية في الدفاع عن سيادة واستقلال البلد، ما أدخلها في صراعات داخلية مع مُعارضيها وفي خصومة مع غالبية الشعب، وحين وصلت إلى حافة الانهيار والإفلاس السياسي تضخمت أخطاؤها بالفساد فكان سقوطها انهيارًا للبلد ومنظومته السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية وحالة من التخبط والتبعية الخارجية التي زادت الطين بلة.
▪ولعلّ المُدافعين عن الأنظمة الثورية الفاشلة اليوم لن يجدوا ما يمكن الدفاع عنه سوى مُسميات وشعارات وأهداف شارفت على التماهي أو الانقراض أمام الفعاليات والانقلابات والتظاهرات الشعبية المُضادة لتحل محلها مُكونات مُختلفة منها الطائفية والمذهبية ومنها العشائرية ومراكز قوى نافذة وفاسدة تتسابق كلها على السلطة والثروة والنفوذ، وبالتالي تتجه ببلدانها نحو حافة الدول الفاشلة والانهيار الكامل على مختلف الأصعدة.
▪والحاصل أيضًا أن التنظيمات والقوى الحزبية والتيارات الوطنية وقعت هي الأخرى في ذات الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها أنظمة القمع الثورية بامتياز، فهي لم تُحاول بناء مشروعها السياسي على أسس وتقاليد وبرامج تقوم على ممارسة الديمقراطية من داخلها وعلى مستوى قواعدها فكانت حبيسة قياداتها (التاريخية) التي تجاوزها الزمن والمُتغيرات، ولم تهيئ نفسها للتداول السلمي للقيادة بين أجيالها، ولم تصل من النضوج السياسي إلى درجة الحد الأدنى من التأثير في صنع القرار ناهيك عن المُشاركة فيه، فكانت عاجزةً عن خلق حراك مُتجدد يُلبي تطلعات الشعب وينمّي علاقتها بالجماهير ويحدّ من سطوة الأنظمة الفردية، وبالتالي سقطت هي الأخرى في نفس مُستنقع الفشل، وفقدت القدرة على التغيير وتركت الساحة لقوى أخرى أنتجتها صيرورة الصراع والمُنازعات والحروب الداخلية، فمنها من تشتت في الأصقاع، ومنها من باتت تتحكم فيها قوى أخرى من الخارج وفق أجندة مصالحها فقط.
*نقلا عن جريدة الراية