نادية حرحش*
لم اعد اعرف كيف ابدأ الكلام، ولم اعد اعرف ان كان هناك جدوى للكتابة او الكلام. الحقيقة انني وصلت الى قناعة ان لا جدوى من كل هذا، فلا شيء يتغير الا الى الأسوأ. صارت الكلمة عبثية لا قيمة لها الا لغو او لغم قد يتفجر بأي لحظة او مكان في هذا الزمن العبثي.
لا أستطيع ان أقول انني لا اعرف ما الذي اوصلني الى هذه النقطة من القناعة، لأنني رأيت كل هذا قادم لا محالة. انظر حولي، اسمع تذمر الناس وشكواهم، وتفيض ذاكرتي بعشرات المقالات التي كتبتها. كنت اعتقد بما هو أقرب للإيمان ان الكلمة لا بد ان تؤثر. ان الدق على الخزان واجب. ولكن بكل اسف، توقف انحدارنا فقط لأننا وصلنا إلى قاع الحضيض.
غمرتنا كارثة غزة بالكثير من المشاهد التي ملأت صدورنا بكبت مثقل بالألم والعجز، وأخرجت كذلك حقائق النفوس. بالتأكيد نحن لسنا ذلك الشعب الذي كنّاه، او تخيلناه. نحن لسنا شعب الانتفاضة. نحن شعب أوسلو الآن. ومآل حالنا هو أوسلو هي ما ينهار علينا كحجارة من سجيل تصب ثقلها علينا وسط هذا الجحيم الذي صار وحدة حالنا.
قد تصبح الحرب على غزة اعتيادية لسنوات. ونتداول في مجالسنا ارقام الشهداء ومشاهد القصف والقتل والدمار، ونصب جام غضبنا على من أوقع الظلم على غزة، وننقسم بغزواتنا التحليلية بين مؤيد ومخالف لهذا الفريق او ذاك. ولربما تنجو إسرائيل بفعلتها من جديد بحرب إقليمية مع إيران، لتبقى غزّة غزّة التي تذكرنا بعجزنا ووهننا وضياعنا أمام ثباتها الذي حفر بالأرض دماء وأشلاء وذكريات جديدة تشكلت لواقع بدأ في طوفان تشرين الذي غير لون السماء وحركة الأرض وابتلع في جوفه كل ما كان من قبل لشبه حياة.
وسط هذا العجز والانتظار لمعجزة تخلص اهل غزة من هذا البلاء العظيم، نستمر بالمشاهدة والمتابعة بصمت أخرس وبصدى صوت مزعج يخترق الاذان ليصمها. نحاول ان نتقدم ولو بخطوة لاختراق عجزنا، ولكن عبثا. ليس لعبثيتنا فقط، ولكن لوهل المصيبة الواقعة علينا. فكارثة غزة أكبر من قدرتنا كأفراد نعيش في تيه قد تبدو مساحته وشكله مختلفا عن ذلك في جحيم غزة، أضعف الايمان الذي نستطيعه هزيل يشعرنا بالعجز اكثر فيدفع البعض منا بعيدا اكثر.
كيف لي ان اتحدث عن عمال غزة الذين وقعوا بين الجحيمين؟ بضعة الاف تم نسيانهم وسط هذا الزلزال الذي يأبى ان يكف غضبه عن غزة وناسها. عمالخرجوا للسعي للقمة عيش كانت صعبة حينها، ليجدوا أنفسهم بلا لقمة ولا عيش. ينظر اليهم بعين حسد ربما، فلقد وجدوا مأوى وبعضاً من طعام بينما عوائلهم تواجه الإبادة. بين عجز سلطة تقدم اكبر امكانياتها بمأوى وعجز شعب يقدم اكبر امكانياته بالدعاء، يعيش عمال غزة في ما يشبه السجن المفتوح. لا يتلقون التعذيب والتنكيل الجسدي، ولا يغلق عليهم باب زنزانة، ولكنهم يذوقون وبال الذل والعوز والقلق والحزن وانتظار المجهول مع كل نفس.
اعرف عجز السلطة ولن أتكلم عما يمكن ان تقدمه او لا تقدمه، لأن التوجه اليها بمطالبة او ووضعها امام مسؤولياتها يعطيها شرعية لا تستحقها. فلن يطول هذا الوضع كثيرا قبل ان تنقلب كل هذه الموازين الظالمة. كارثة غزة ستستمر في حفر غزّاتها في قلوبنا ونفوسنا. ولكن كيف لنا ان نتحرك كأفراد وسط هذا الانهيار؟ كيف لنا ان نحول مبادراتنا الفردية الى افعال مجتمعية نستطيع من خلاليها لحم هذا الهتك الذي ألمّ بمجتمعنا؟
لا اشك بقلق وخوف المجتمع على أهلنا في غزة واهلهم المحاصرين في الضفة بمراكز إيواء ينتظرون فيها عودتهم الى بيوتهم التي كانت وعوائلهم المفقودة بين قتل وركام وحلم عودة.
حلم عودة صار أقصاه لقاء بزوجة او وولد قد يكون لا يزال على قيد هذه الحياة الظالمة. وقلق ورعب من اجل تأمين ما شح من نقود لإرسالها لسد جوع بطون خوت من الطعام يحدق بانتظارها الموت من المجاعة.
لا أشك ان هناك خيراً في أفراد هذا المجتمع، ولكن بغياب مقدرة السلطة على دفع رواتب موظفيها ومعرفة الرقم الفعلي لمديونيتها، يجب ان نتمكن من تنظيم المجتمع للتكافل لمثل هذه القضايا. يجب الا يخلو المجتمع من إمكانيات مساعدة بالتشغيل والاعتناء والاهتمام.
لن أخوض بطرح الأفكار لأنني على يقين ان هناك الكثير. انا على يقين كذلك بأن هناك من يريد المساعدة ومكبل بالعجز والشعور بعدم الجدوى. لكل انسان تغزّ غزّة في قلبه بثقل سكتة قلبية أقول، ساعد بقدر استطاعتك، بقدر ما تظنه ممكناً ممكن. لكل من يعلم عن وجود عمال من غزة في بلداتهم، زوروا اخوانكم، آزروهم، شاركوهم طعامكم وشرابكم، قدموا لهم المساعدات العينية وما يخرج من قلوبكم وجيوبكم، اشركوهم بالأعمال، فهؤلاء أصحاب حرف وعمال مقتدرون، فلا تبخلوا بما يمكن تقديمه.
ساندوا عزيز قوم ضاقت به السبل.
تمنياتي بعيد غير بعيد.
*كاتبة فلسطينية
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …