الياس فاخوري*
توثق المراجع التاريخية كيف هبت “غزة هاشم” لإنقاذ “مكة” من المجاعة في أعوام الجدب والقحط قبل الاسلام (حوالي عام 480م) حيث ذهب عمرو بن عبد مناف (الجد الثاني للنبي محمد صلوات الله عليه، وجد أبو طالب وقثم والعباس وحمزة) الى “غزة” وعاد منها الى “مكة” بقافلة محملة بأكياس الحنطة والخبز المجفف .. وعندما وصل مكة بدأ يهشم (يُفتّت) الخبز قطعا قطعاً (لإطعام الجموع المنتظرة) مما أكسبه اسم “هاشم” .. وفي “سيرة العرب” لإبن إسحق أن “جد الرسول هذا الهاشم هو من أسّس رحلة الشتاء والصيف التي وردت في القرآن الكريم” في سورة قريش المكية، وهي امتداد لسورة الفيل: “لإيلاف قريش 1 إيلافهم رحلة الشتاء والصيف 2 فليعبدوا ربّ هذا البيت 3 الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 4” .. وتوالت رحلات جد الرسول هاشم بن عبد مناف إلى فلسطين ومنها، وتوفي في “غزه هاشم” عام 497 م ودُفن هناك حيث بنى قرشيو غزه مقاماً حوّلوه مسجداً (مسجد هاشم) بعد الاسلام.
لكأننا بأهل غزة كانوا “(وَ)يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا” (الإنسان: 8، 9).
وغزة، بكلمات المؤرخ الفلسطيني المقدسيّ عارف العارف: “من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”. جاء ذلك في كتاب صدر عام 1943، جمع فيه المؤلف خلاصة ما ورد عن هذه المدينة الساحلية في المؤلفات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية .. أشار العارف ان الكنعانيين أطلقوا عليها “هزاتي”. أما المصريون القدماء فكانوا يسمونها “غازاتو” أو “غاداتو” .. وقد جاء في المعجم اليوناني أنها سميت عبر العصور بأسماء مختلفة، منها “إيوني” و”مينووا” و “قسطنديا”، كما أطلق عليها الصليبيون “غادريس”.
ويقول يوسابيوس القيصري (أبو التاريخ الكنسي) ان “غزة” تعني العِزة والمَنَعة والقوة. وانضم إليه في ذلك، بحسب “العارف”، السير وليام سميث في قاموس العهد القديم الذي صدر عام 1863، وذلك لصمودها في الحروب الكثيرة التي دارت رحاها في المدينة وحولها،
أما صفرونيوس (صاحب قاموس العهد الجديد الذي صدر عام 1910)، فيقول إن “غازا” كلمة فارسية تعني الكنز الملكي، وهو معنى لا يبتعد كثيراً عمن يقول إن “غزة” كلمة يونانية تعني الثروة أو الخزينة.
هذا، وقد ذكر ياقوت الحموي أن “غزة” كان اسم زوجة “صور” الذي بنى مدينة صور الفينيقية اللبنانية.
ويقول “العارف” في كتابه إن “المعينيين” (أقدم شعب عربي حمل لواء الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد) هم أقدم من ارتاد مدينة “غزة” وجعلوا منها مركزاً يحملون إليه بضائعهم ذلك انها تربط بين مصر والهند دون حاجةٍ للملاحة في البحر الأحمر، وكانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، التي يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالاً إلى مكة ويثرب “المدينة المنورة حالياً” والبتراء، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدهما في غزة على البحر المتوسط، وثانيهما في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.
وفيها قال ابنها “الإمام الشافعي” مؤسس المذهب الإسلامي الشهير:
“وإني لمشتاق إلى أرض غزة * وإن خانني بعد التفرقِ كتماني”
اما فضل “غزة” على العالم بأسره، فقد ذكّرتاني به حفيدتي ديانا فاخوري
بكل بساطة، تقول “إمي بيري” – لدى علمها ان كلمة “gauze” الانجليزية مشتقة من الكلمة العربية “غزة” حيث تم ابتكار الشاش الطبي من قبل الحاكة المهرة الغزيين منذ عدة قرون – تقول: تساءلت عندها كم من جراحنا ضُمِّدت بفضل غزة، وكم من جراحهم (أهل غزة وفلسطين) تُركت تنزف ب”فضلنا”!
نعم، “gauze”بالانجليزية، “gasa” بالإسبانية، و”gaze” بالفرنسية حيث نقل الفرنسيون هذا المنتج المبتكر من غزة فلسطين إلى أوروبا في القرن الميلادي الثالث عشر. نعم، “إمي”، غزة تضمد جراح العالم منذ قرون بـ”الشاش الطبي”، ولا تكاد تجده اليوم .. نعم قدمت غزة للعالم “أداة الشفاء” هديةً لعلاج البشرية، وتفتقر اليوم لما اخترعت لتسجل العدد الأكبر من الجرحى والشهداء!
نعم، “إمي”، تركت غزة أثراً دائماً جميلاً ورائعاً .. فهل أسدت إلى غير شاكر وصنعت المعروف في غير أهله!؟ المعروف كنز أينما اودعته فلا “يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فإنّه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه” وما “إمي بيري” Em Berry الا مثالٌ واحدٌٍ غير يتيم!
وهنا لا بد من محمود درويش:
“إن سألوكَ عن غزة قل لهم بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد”.
تحيط خاصرتها بالألغام .. وتنفجر.. لا هو موت .. ولا هو انتحار
إنه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة
منذ سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا قذائف
لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غـزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو”
ورغم المحاولات المتكررة المكثفة لاغتيال التاريخ الفلسطيني (كما اسلفتُ، وديانا فاخوري في العديد من المقالات)، يستمر
الانجاز اعجازاً غزاوياً فلسطينياً عربياً:
– ولٌاعة سجائر تحرق جرافة “اسرائيلية” ضخمة!
– عبوة ناسفة باليد على سطح دبابة “اسرائيلية” تُفجِّرُها!
– من مسافة صفر، يتم إطلاق الصواريخ المضادة للدبابات والمدرّعات “الاسرائيلية”!
– دراجات نارية (لا مدمرات، لا دبابات، لا بوارج، لا فرقاطات، لا حاملات سفن، لا غواصات، ولا قاذفات) لاحتلال المستوطنات الحصينة، والقبض على الضباط والجنود “الاسرائيليين” وهم عراة الا من الملابس الداخلية!
– هجوم كثيف مكّنهم من اختراق غلاف غزة ليصبحوا الى الضفة الغربية اقرب (على بُعد 10 كيلومترات)، ومن ألقبض على حوالي 250 أسيراً وأسيرة من جنسيات مختلفة – مستوطنون بينهم قادة عسكريون صهاينة!
– عرفوا قيمة الاستمرارية ومارسوها فعلاً متكرراً متواصلاً، وحرّكوا العالم واخرجوه من المربعات التقليدية التي رسمها له بالمرستون، وبنرمان، وبلفور، وسايكس، وپيكو، وكيسنجر وتلامذتهم الجدد!
انتصار يُجسّد ان الله يشاء كما يشاء رجاله في الميدان .. 201 يوم ونتنياهو مازال ينتظر رفع الرايات البيضاء .. 201 يوم وصمود المقاومة أسطوري امام عدو لا نظير لبربريته (حيث التداخل بين الهيستيريا الايدولوجية، والهيستيريا التاريخية) .. عدو يملك رابع أقوى جيش في العالم تدعمه الدُوَلٍ العُظمى (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا .. ) .. 201 يوم ورجال الله في الميدان يقاتلون حتى بعظام آبائهم، وبعيون أطفالهم .. اسقط المقاومون الأسطورة التي أحاطت بـ “اسرائيل” على مدى عقود وليس لهم من السلاح سوى البنادق، ومدافع الهاون، مقابل ترسانة هي صورة مصغرة عن الترسانة الأميركية المعدّة حتى لحروب الفضاء!
إنه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة وها هم جنرالات، وصحافيون، وساسة يسألون الآن “ألا يكفي التزلج على النيران في غزة، لنمضي الى التزلج على أرصفة جهنم؟” حرب غزة حملت تشالمرز جونسون، أبرز مؤرخ عسكري أميركي، على القول “ان الغرب أمام خيارين: اما استرداد اليهود من الشرق الأوسط، أو خنق أي قوة تشكل خطراً عليهم” .. وهكذا لم يبق امام الغرب الا استرداد اليهود من الشرق الأوسط!
وها هي “المستوطنات (خاصة تلك التي تقع فيالجليل الأعلى والأدنى/الشّمال الفِلسطيني المُحتل) تتحول الى مدن للأشباح، وكُتلٍ من اللّهب، دفعت أكثر من رُبع مِليون مُستوطن إلى الهرب ولم يعد هناك سوى المواقع العسكرية!
هم من الوقوف على “رجل ونص” الى الوقوف على “أطراف الأصابع” هلعاً وارتعاباً وارتياعاً وقد جاءهم “الوعد الصادق” ب”طوفان السماء” الذي لاقى “طوفان البحر” نصرةً ل”طوفان الاقصى” رداً على جرائم جيش الاحتلال .. يتحسبون لرؤية الجنود السوريين، أو رجال الله على شواطئ بحيرة طبريا وفقا لوصف أحد ضباط العدو المتقاعدين .. وكما سمعوا وشاهدوا البارجة ساعر “انها تحترق”، تراهم يرتقبون ديمونا بمفاعلاتها وحيفا بخزّاناتها والنفط بمنشآته وناقلاته ومحور الشر بمعسكراته وحاملات طائراته “انها تحترق” – “فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ”(أية ١٠- سورة الدخان)!
انها غزة، سيقف “الخلق ينظرون جميعاً كيف تبني قواعد المجد ” بايمان “ديانا” المطلق: “اسرائيل الى زوال” .. ايمانٌ نقشته “ديانا” على ظهر الدهر لتهزم الموت روحا نقيّا كالسَّنا .. لم يكن هذا الوشم مجرد رؤية او نبؤة .. بل لعله – في الواقع – استراتيجية وقرار يطوف سماءً وبحراً و”اقصى”، وها نحن نصغي لصدى خطواتِها فى أرض فلسطين ..
فمن وجع المسيح، والحسين .. من أسى العذزاء، وفاطمة الزهراء .. من أحدٍ .. ومن بدرٍ.. ومن أحزان كربلاء .. نأتي – معكِ، ديانا – “لكي نصحح التاريخ والأشياء
ونطمس الحروف..
في الشوارع العبرية الأسماء”
الدائم هو الله، ودائمة هي فلسطين ..
نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون
*كاتب أردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …