عبد السلام بنعيسي*
يزور في هذه الأيام وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن منطقة الشرق الأوسط للمرة العاشرة. منذ اندلاع الحرب عقب عملية طوفان الأقصى وهذا الوزير والمبعوثون الأمريكيون يتوافدون تباعا على المنطقة. اليافطة التي يتغطون بها هي أنهم يتوسطون لإنهاء الحرب التي تجري أطوارها في القطاع والضفة. استمرت الوساطة الأمريكية أكثر من عشرة أشهر، ولا تزال المفاوضات تراوح مكانها، فلماذا تستمر المفاوضات كل هذه المدة المديدة دون أن تسفر عن نتائج ملموسة، ولو في حدها الأدنى من قبيل وقف استهداف المدنيين من أطفال، ونساء، وشيوخ، وممارسة القتل الجماعي في أبناء الشعب الفلسطيني؟ بماذا يمكن تفسير بقاء هذه الوضعية غير السوية زمنا طويلا؟؟
قبل أي شيء، هل يجوز تصديق أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تكون وسيطا محايدا ونزيها لإنهاء حربٍ، بشكلٍ عادل، يُعتبر الكيان الصهيوني طرفا فيها؟ الجواب القطعي هو لا كبيرة. إسرائيل قاعدة أمريكية متقدمة في الشرق الأوسط، وكل محاولة فصلٍ بين أمريكا وإسرائيل لن يُكتب لها النجاح، ومن يقول عكس هذا فإنه يعيش في الوهم، ويُمني نفسه بأحلام يقظة. فلقد قالها نتنياهو في الكونغريس، نحن نحارب دفاعا عن مصالح الغرب وعلى رأسه أمريكا في المنطقة، وحظي تصريحه هذا بتصفيقات حارة، كناية على أن المشرعين الأمريكان يتبنون تصريحه، وأنه يتوافق مع قناعتهم حول طبيعة الحرب والأهداف المرسومة لها أمريكيا وصهيونيا.
أمريكا تزود الكيان بأحدث الأسلحة الفتاكة، وتغرقه بالمساعدات المالية، وتحميه بالفيتو في مجلس الأمن، وتُسيِّرُ الأساطيل والغواصات النووية والبوارج وحاملات الطائرات صوب المنطقة لتوفير الدعم لهذا الكيان في حرب الإبادة الجماعية التي يقترفها ضد الشعب الفلسطيني، والنظام الرسمي العربي، يقبل بأمريكا وسيطا، ويبوئها هذه المكانة التي تتيح لها التحكم في سير المفاوضات الجارية بين المقاومة من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى. حضور الطرفان العربيان، المصري والقطري، لا يعدو كونه حضورا شكليا. فالمتحكم في اللعبة التفاوضية بأكملها هو الطرف الأمريكي ومعه نظيره الصهيوني.
لكن أمريكا التي تبدو قوية ومتمكنة ومسيطرة على سير المفاوضات حول قطاع غزة، وهي التي لها اليد العليا حاليا في شأن ما يدور فيها، هُزمت في أفغانستان بضربات المقاومة الأفغانية الجائعة والفقيرة، وهربت من كابول تجرُّ من ورائها ذيول الخيبة والهزيمة، وأمريكا خسرت الحرب في العراق على أيدي ثلث الشعب العراقي، واضطرت للهروب من بلاد الرافدين في جنح الظلام، ولقد اعترف تقرير بكير هاملتون بالهزيمة الأمريكية في العراق، ودعا إلى مراجعة شاملة لسياسة واشنطن في المنطقة، وأمريكا تعيش أزمات مستعصية في أوكرانيا وتايوان، وفي مناطق متعددة من العالم، وهي في أمس الحاجة للعالمين العربي والإسلامي في صراعها مع الصين وروسيا.
لو كان همُّ النظام الرسمي العربي نصرة المقاومة الفلسطينية، ووقْف حرب الإبادة المشنة على الشعب الفلسطيني، لبادر هذا النظام إلى توظيف المعطيات السياسية المتوفرة وأقبل على التحرك الجدي والفعال بما يفضي إلى وقف العدوان على الشعب الفلسطيني، ولكان، كخطوة أولية، قد بادر إلى رفع المقاومة من قائمة لوائحه الإرهابية، ووفر لها المساندة السياسية والإعلامية، وبارك أعمالها وتبناها، وأعلن صراحة عن رفضه تبني أي مشاريع سياسية تقام في غزة بهدف إنهاء هذه المقاومة وإلغائها من الساحة، ولأعلن عن عزمه اعتبار أي مشاريع لها نفس الغايات، غير شرعية، وغير مقبولة، ولن يتم التعامل عربيا مع من ينساقون وراءها، ولكانت الأنظمة العربية قد ضغطت جديا على الإدارة الأمريكية لإجبار الكيان الصهيوني على وقف حرب إبادته الجماعية ضد الفلسطينيين.
لكن للأسف عكْسُ هذا هو الذي يقع، فلقد بات النظام الرسمي العربي يرى، منذ سنوات خلت، أن 99 في المائة من أوراق حلِّ مشاكل المنطقة في الأيدي الأمريكية، ولقد قرر هذا النظام أن السلام خيارُه الاستراتيجي، أي أنه بات يعارض أي فعلٍ مقاوم ضد الكيان الصهيوني، وما تصنيف حزب الله، وحركة حماس، وأنصار الله، تنظيمات إرهابية، وشنُّ حربٍ إعلامية لا هوادة فيها على هذه المنظمات المقاومة، إلا ترجمة عربية عملية لتفعيل مبدأ ما يُسمّى السلام خيار استراتيجي.
النظام الرسمي العربي يريد التخلص من المقاومة ويسعى للتطبيع، وللتحالف مع الدولة العبرية، ولإقامة المشاريع الاقتصادية العملاقة معها، بالمال العربي وبالتسيير الإسرائيلي، ولذلك تخلى هذا النظام عن الشعب الفلسطيني، إنه يحارب في الواقع المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية، يحاربها بأشكال مختلفة إلى جانب الكيان الصهيوني. وإلا بماذا يمكن تفسير إمداد دولة الاحتلال بكل ما تحتاجه من مواد تموينية عبر الطرق المارة من البلدان العربية بعد إغلاق الممرات البحرية في وجهها من طرف حركة أنصار الله؟ أليس هذا دعم للقوات الإسرائيلية في حربها على الشعب الفلسطيني؟
وعلى هذا الأساس يجوز القول، إن القبول العربي الرسمي بالوساطة الأمريكية وحصرها فيها، هو في واقع الأمر، تواطؤ غير معلن مع واشنطن من أجل القضاء على المقاومة. والعامل الذي يعرقل هذا المسعى العربي الرسمي/ الأمريكي هو الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، والإعجاز الذي أبدته مقاومته الباسلة، بدعمٍ من محور الممانعة، في تصديها للآلة العسكرية الصهيونية الجهنمية، وتمكُّنها من إفشال جميع المشاريع الصهيونية في غزة. الصمود الميداني للمقاومة هو الذي يجهض مناورات الوساطة الأمريكية المدعومة من طرف الأنظمة العربية الحاكمة، ويجعل منها وساطة فاشلة وغير منتجة..
*صحافي وكاتب مغربي