مجدي داود*
استشهد قائد حماس يحيى السنوار في السادس عشر من أكتوبر لعام 2024 بعد عام وتسعة أيام من قيادته لأكبر عملية عسكرية في قلب الاحتلال الصهيوني منذ تم زرع الاحتلال في أرض فلسطين، تلك العملية التي اختلف حولها الكثيرون، ولا تزال ردود الأفعال عليها مستمرة، والعدوان الذي بدأ انتقاما منها مستمرا، والأبطال الذين نفذوها ثابتين في ميادين القتال على طول خطوط المواجهة، والقادة الذين اتخذوا قرار تلك العملية يدفعون الأثمان غالية مثلهم مثل كل شعب فلسطين وكل أهل غزة، وستبقى حالة التدافع التي أشعلتها تلك العملية مستمرة إلى مدى غير معلوم نهايته.
مشهد النهاية في حياة يحيى السنوار هو المشهد الذي صوره العدو بنفسه، لكن هذا المشهد لم يكن هو ذات المشهد الذي يرغبه العدو، ولم يكن هو ذات المشهد الذي سعى العدو وحلفاؤه وأنصاره من المتصهينين في بلاد العرب والعجم أن يظهروه للناس كي يشوهوا صورة الرجال الذين يقفون بثبات وشموخ أمام عصابة الاحتلال الصهيوني وحلفائه الدوليين، مشهد النهاية الذي صوره العدو للسنوار قبل أن يعرف هويته هو الصورة الحقيقية للسنوار التي حاولوا تشويهها على مدار الشهور الماضية، إن هذا المشهد هو أقوى رد بل الرد القاطع على كل ما افتروه كذبا وعدوانا على قائد المقاومة ومهندس الطوفان وسيد الأمة وشهيدها المشتبك.
وفقا لما كشفته وسائل الإعلام الصهيونية فإن السنوار كان يحاول الخروج من المبنى مع رفيقيه لكن نيران الاحتلال فرقتهم، فدخل السنوار وحيدا للمبنى الذي استشهد فيه، بينما ذهب رفيقيه باتجاه آخر حيث استشهدا مقبلين خير مدبرين، أما السنوار فقد أصيب إصابة بالغة في يده أدت إلى بتر يده اليمنى، وحاول الجنود أن يصعدوا إلى المبنى لكنه قاتلهم وألقى عليهم القنابل اليدوية فعاد الجبناء خائبين وأرسلوا طائرتهم المسيرة لتستكشف ما بداخل المبنى، فظهر السنوار ملثما يجلس على الكرسي وقد أنهكه النزيف واستنفد قواه ونفذ ما لديه من ذخيره، فحاول قذف الطائرة بآخر ما يمكنه حمله وهو في تلك الحالة، ثم دمر جنود العدو المبنى واستشهد البطل، ومع ذلك فقد جبنوا عن دخول المبنى حتى فجر اليوم التالي، ليجدوه شهيدا ويتعرفوا عليه ويأخذوا جثمانه الطاهر ليتأكدوا من شخصيته.
لقد شاء الله أن تتسرب تلك الصور للسنوار قبل أن يتأكد الاحتلال من شخصيته، وإلا لكانوا قاموا بوضع جثمانه الطاهر في نفق أو في مشفى أو مدرسة وسط المدنيين وقصفوا المكان وأخرجوا الجثمان وقالوا: هاهنا قتلناه، لكن كانت إرادة الله فوق إرادتهم، فنشروا بغبائهم صوره ثم أمعنوا في الغباء فنشروا فيديو الطائرة المسيرة، ليرى العالم كله هذا المشهد المهيب الذي أصبح مشهدا للتاريخ، وليعرف العالم كله أن السنوار كان يقاتل في الميدان وسط غيره من المقاتلين، لم يكن مختبئا تحت الأرض ولا محتميا بالرهائن، أما عن متعلقاته فليست سوى سلاحه ومسبحته ومطوية أذكار وبعض قطع النعناع ليغير بها طعم فمه الذي ربما لا يتذوق الطعام لأيام، هذه هي متعلقات القائد الذي زلزل أمن إسرائيل وأورثهم غما وكمدا لن ينسوه إلى يوم الدين.
وحتى لا ننسى وحتى لا تختلط المفاهيم وتنقلب المعايير، ينبغي التأكيد على أنه ليس من مهام قادة الصفوف الأولى سواء في حركات التحرر أو حتي الجيوش النظامية، أن يقاتلوا بشكل مباشر في الميدان، ولا أن يعرضوا أنفسهم للخطر بشكل مباشر، ذلك أن هؤلاء القادة مسؤولون عن قيادة المعارك وإدارة المقاتلين ومتابعة المستجدات الميدانية، فضلا عن التواصل والتشاور مع القيادات الخارجية والوسطاء، وغير ذلك من مهام القادة السياسية والعسكرية، فما بالكم بالقائد الأول مهندس المعركة وصاحب القرار.
وهذا يذكرنا بأن القادة الذين يختبؤون في الأنفاق ويديرون المعارك من تحت الأرض أو يخرجون ويعودون هم رجال أبطال أعزاء وإن استشهد أحدهم في هذا النفق أو ذاك فهو أيضا مقبل غير مدبر، مجاهد مقدام مغوار لا يخشى في سبيل الله أحدا، ولا يضيره أبدا أنه كان يتخفى فهذا من ضرورات المعركة، بل حتى إن كان قتل بالرصاص في ظهره وهو يفر من جنود العدو باتجاه مكان آمن، فهو أيضا مقبل غير مدبر، لأن طبيعة المعركة مختلفة، فهي ليست معارك بين جيوش نظامية، بل هي الكر والفر، وليس من المطلوب أن يقف المجاهد بسلاحه الشخصي أمام مدرعات العدو حتى تدهسه.
ومع ذلك فإن يحيى السنوار كقائد سياسي كان يقاتل في الميدان، ويتنقل بين العقد القتالية، بكل شجاعة وجسارة وإقدام وظل كذلك حتى النفس الأخير، فقد كان رحمه الله رجلاً فريدا من نوعه، قلما يوجد مثله، فهو رجل أمني بامتياز، وسياسي بارع ومفكر عظيم وعسكري فذ، وهو واحد من تلاميذ الشيخ المؤسس أحمد ياسين وأحد الذين عاصروا وساهموا في تأسيس الحركة، فهو أحد مؤسسي جهاز مجد الأمني الذي كان النواة الأولى لكتائب الشهيد عز الدين القسام.
إن هناك شبه إجماع بين المحللين في العالم كله على أن مشهد النهاية في حياة القائد يحيى السنوار هو مشهد أسطوري حقيقة لا خيال، وأن هذا المشهد سيبقى عالقا في أذهان أتباعه ومحبيه وسيتحول إلى إيقونة للمقاومة والثبات، وأنه دمر الأكذوبة التي حاول الاحتلال الصهيوني تسويقها خلال الشهور الماضية، بل إن الاحتلال شعر بخيبة الأمل بعدما ظهرت ردود الأفعال على استشهاد السنوار بهذه الطريقة، وحاول أن يعالج الأمر بنشر فيديو له في الأنفاق قبيل انطلاق عملية طوفان الأقصى، ولكن من حيث لا يدري كان الفيديو دليلا إضافيا على عظمة ذلك الرجل وتميزه، فقد ظهر الرجل يسير في الأنفاق كأي شخص عادي يحمل متعلقاته بيديه ليس معه حراسة مشددة ولا خدم وحشم، حتى متعلقاته كانت بسيطة يحملها في أكياس بلاستيكية، إنه حقا رجل فريد من نوعه.
أما مشهد العصا فهو مشهد الإصرار على القتال حتى النفس الأخير حتى ولو بأقل القليل، هو التأكيد على أن المقاومة ليست بالقوة العسكرية بل بالقوة الإيمانية والعقائدية، وأن ما على الإنسان سوى الأخذ بالأسباب ولو قلت، وترك النتائج إلى الله يصيرها كيفما يشاء، فعصا السنوار التي لم تسقط الطائرة المسيرة، إذ بها تسقط هيبة الاحتلال وألاعيبه ومخططاته لتشويه المقاومة وقادتها وزعماءها، وتسقط الأقنعة عن المتصهينين العرب في كل مكان، وتبث الأمل في نفوس المستضعفين في غزة وتؤكد لهم أن قادتهم على العهد ثابتين، غير مبدلين ولا مفرطين، وأنهم مؤمنين بفكرة المقاومة حقيقة وليست مجرد شعارات يرفعونها كما يروج الصهاينة والمتصهينون، أو أنهم أدوات في أيدي أطراف خارجية كما يروج العملاء الذين باعوا دينهم بأبخس الأثمان.
إن يحيى السنوار لو أراد أن يكتب مشهد النهاية بنفسه ما كان له أن يكون بنفس الهيبة التي ظهر بها فعلا، فقد تحول مشهد نهاية حياة يحيى السنوار إلى مشهد بداية، بداية لمرحلة جديدة من المقاومة حتى ولو بأقل القليل، ولو بالعصا التي صارت أيقونة ورمزا للصغار والكبار، بداية لظهور جيل جديد يرى بأم عينه كيف يموت القادة الذين يحملون هم الأمة بصدق، جيل يفهم معنى الأسطورة ويدرك أن الأساطير الحقيقيين هم سادة المسلمين وقادتهم الذي يقدمون أنفسهم فداء للإسلام وللأقصى بكل سلاسة وأريحية وثبات وشموخ.
إن عصا السنوار تلك لربما هي أوقع في نفوس العدو من آلاف الصواريخ والقنابل، وهي أشد عليه من جيوش ودبابات وطائرات لم تبرح مكانها، وكأن السنوار أراد أن تسقط تلك العصا على رؤوس المتصهينين فتسويها بالأرض، وعلى ألسنة المنافقين فتقطعها، وعلى أقلام الأفاقين فتكسرها، وعلى قصور المتحالفين مع العدو فتدمرها، إن تلك العصا هي الرسالة الأخيرة والوصية الأخيرة والكلمة الأخيرة التي ستتناقلها الأجيال ولن تذهب أبدا من مخيلة شعب فلسطين ولا أي من الشعوب المظلومة والمقهورة.
إن هذه الصورة الأخيرة للقائد الملثم ذي النظرة الثاقبة ستبقى حاضرة في أذهاننا، سنورثها للأبناء والأحفاد حتى يعرفوا ويتيقنوا أن العظماء هم الذين يعيشون كيفما عاش السنوار ويموتون كيفما مات، فينطبق عليهم قول الشاعر: فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا.
وإن قلبنا بيت الشعر ليكون ” فإما حياة تغيظ العدا .. وإما ممات يسر الصديق” ، فلن نكون مخطئين، فقد حقق السنوار هذه المعادلة أيضا، فكم هو عظيم هذا الرجل، عظيم في أسره فلم يحصل منه العدو طوال 22 عاما على معلومة واحدة، عظيم قبل الأسر فهو مؤسس جهاز مجد الأمني وهو في بداية العشرينات من عمره، عظيم بعد التحرير من الأسر، فمنذ تحريره لم يهدأ، بل عاد سريعا إلى صفوف الجهاد والرباط، عظيم في القيادة ويشهد على ذلك كل قيادات الفصائل الفلسطينية على اختلافها، ثم هو عظيم في استشهاده بهذه الطريقة التي زادته شرفا فوق شرف الجهاد، ثم هو عظيم في وصيته لمن يأتي بعده، تلك الوصية التي كتبها بدمه في مشهد النهاية .. عفوا بل هو مشهد البداية، فقد قال بلسان الحال والفعال لا بلسان المقال، أن قاوموا حتى ولو بالعصا ولا تفرطوا ولا تركعوا وكونوا أعزاء أحياء وأمواتا.
ها هو السنوار قد رحل، وكأني به رحمه الله يقف أمام شيخه ومعلمه أحمد يس فيقول له: ماذا فعلت حماس من بعدي يا يحيى، فيرد قائلا: أشعلت جذوة الجهـــــ.ــاد وضربت عمق الاحتلال في طوفان هادر فتآمر عليها العدو الغاشم والقريب الغادر، فما سقطت الراية ولا تبدلت الغاية، وقد تركتهم والسلاح بأيديهم والنيران من حولهم ولسانهم يلهج بذكر الله ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار.
شيخنا المقدام يحيى السنوار.. سلام الله عليك أيها المغوار
بكتك أمة الإسلام حزنا وفرحا.. وأورثت المجرمين غما وكمدا
صرت لنا رمزاً وللجهاد قدوة.. وصارت عصاك للصمود أيقونة
ستبقى ذكراك للمسلمين نورا.. حتى يصبح شعبنا منصورا
ويبقى العدو من اسمك خائفا.. ومن طوفانك الهادر مذعورا
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …