خالد شـحام*
لم يعد خافيا بأن هنالك سحابة كبيرة من الخوف تتضخم كل يوم من حقيقة أن هذا العالم يحضر نفسه لكارثة ما من مقياس كبير لا نعرف كيف ولا أين ولا متى ستقع ولكننا متأكدون أن الولايات المتحدة هي السبب الأساسي في تلك الكارثة ، وإذا كان أحدكم يشكك في ذلك فليفهم فقط مهزلة الانتخابات الأمريكية أو ما يسمى انتقاء الرئيس الأمريكي ضمن إطار الدمار والموت الذي افتعلته الولايات المتحدة في أوكرانيا وروسيا وفلسطين ولبنان في الفترة الماضية والحالية ، وليقرن هذه بالتاريخ الأسود الذي تصنعه هذه البلاد منذ نشأتها وحتى الان ، لقد تحولت هذه الانتخابات إلى نوع من حقن الكوكائين الرخيصة التي تبيعها العصابات في أزقة مانهاتن لكي ينسى المواطن الأمريكي حقيقة ما تفعله بلاده بهذا العالم والثمن الذي يجب أن يدفعه العالم كي يبقى ستايل الحياة الأمريكية العظيمة ماضيا في متعته وتجلياته ، انتخابات هزلية من جمهور هزلي لاختيار رئيس هزلي في زمن الهزل والهزال ، كنا نتمنى بأن نسمع لو بضع عبارات من المرشحين لهذه المهزلة توحي أو تؤكد اننا أمام حضارة أو دولة عظيمة بحق وحقيق ، أو وجود المستوى المتوازن بين النضج والقيم والنفوذ ، أو حتى بعضا من الرحمة المطلوبة بشدة في زمن القسوة والإجرام ، كنا نتمنى في ظل عقم المرشحين أن نرى ولادة تاريخ من الناخبين امتناعا عن التصويت احتجاجا على السقوط المدوي لعظمة هذا البلد .
في داخل متاهات التاريخ لا يمكن للبصيرة أن تخطىء في فهم حقيقة الأشياء ، وحقيقة الغرب المتجددة كل مرة هي حقيقة القتل والاستيلاء التي تتلخص في المفهوم الكولونيالي المتجذر القائم على الطمع والإفساد في الأرض منذ أولى بصائرالتاريخ ، كانت العبرة المنسية الأولى هي حروبهم الصليبية التي شُنَّت على المنطقة العربية الإسلامية طيلة قرنين تحت ذريعة التمجيد للصليب المقدس وتنفيذ حملة التطهير الدموي (للإرهابيين) القدماء الذين كانوا يحملون وصف ( الوثنيين وفاقدي الأرواح والمتوحشين )، هذه الحملة الصليبية البعيدة تماما عن حقيقة الدين المسيحي ارتكبت من الفظائع ما يشيب لها الولدان وتسببت في قتل ما لا يقل عن 3 مليون مسلم ، في صورة واحدة فقط يمكن فهم الصورة التي تجري اليوم في غزة والتي جرت من قبل في العراق ومن قبله في فيتنام وأفغانستان ، كان ( جنود الرب ) هؤلاء يتقدسون بكثرة القتل والذبح ، عندما دخلوا بيت المقدس ذبحوا 70 ألفا في نفس اليوم ، وعندما دخلوا معرة النعمان ذبحوا أهلها بالكامل ، 20 ألفا من الرجال والنساء والأطفال وسلخوا جلودهم وهم أحياء ، قطعوا لحم الرجال وتم سلقهم بالماء المغلي من أجل إطعام الجيش الجائع ، أما الأطفال الصغار فقد تم شويهم على الحطب لإطعام القادة وكان ذلك تحت فرمان ديني بأن من تقتله تطهر روحه وتخلصه من وثنيته وتمنحه بركات الصليب !
جاءت الحروب الصليبية في دورة جديدة بعد نهايتها الأولى بحوالي قرنين آخرين بتوقيت القضاء التام على ممالك الأندلس نحو اتجاه جديد ومغاير وذلك عندما وصل المجرم الإيطالي كريستوفر كولمبوس إلى القارة الشمالية منطلقا من اسبانيا ووقعت عيناه على الثروات والأرض وبراءة الشعوب الأصلية ، فشرع في كتابة رسائله السامة إلى المسؤولين الأوروبيين لحثهم على الإتيان بسرعة لاستغلال ونهب هذه البلاد واستعباد سكانها الأصليين ، ولم يكن يلزم سوى سنوات قليلة حتى بدأ تدفق هؤلاء إلى الأرض العذراء (لتحريرها من الوثنية وهدايتهم إلى الرب والقضاء على الإرهاب ) كانت الكتب الانجليزية تضع في سطورها عبارات من مثل ( هؤلاء وحوش يأكلون اللحم النيء ويفترسون البشر ولا عقول لهم ) ، هذه العبارات البسيطة كانت هي المدخل والتحفيز والمبرر الكافي لأبادة وقتل كل هؤلاء المساكين وتعميم النهب والقتل على مساحات أوسع وإنتاج البلد الذي سيكون مركزا لكل الحملات الصليبية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
آخر انبعاثات الحملات الصليبية المتجددة على منطقتنا جاءتنا من هذا المركز قبل سنوات غير بعيدة عندما كان السيد نتانياهو يلعب دور القس أوربان الثاني ليكون هو المحرض المباشر على احتلال العراق والفتك به باعترافات رموز كبيرة من الاستخبارات الأمريكية ، وهو المحرض الرئيسي على الدفع بالأمريكان إلى سوريا للفتك بها مثلما حصل في ليبيا ، وهو المحرض الأساسي على اغتيال قاسم سليماني والفكاك من الاتفاقية النووية مع ايران وهو الذي يحرض الان للحملة الجديدة مزهوا بصعود الرأس الصليبية الترامبية بحلتها الرأسمالية المتوحشة ، إن الأجواء التي تسود المنطقة اليوم لا تختلف عن أجواء التسخين التي أطلقها أوربان قبل سبعة قرون ، ولا تختلف عن الظروف التي سادت ما قبل الهجوم على العراق واحتلاله بطلب مباشر من خونة العرب ، اليوم توضع ايران في قلب العداء المصطنع للمنظومة الاستعمارية الغربية التي تقودها الصهيونية الجديدة ، ليس لأن ايران تمتلك مشروعها النووي أو الصاروخي الذي هو حق شرعي لها ، وليس لدعمها المشرف لفصائل المقاومة ، بل لأن في داخل ايران ما هو أخطر من القنبلة الذرية في حسابات الحلف الصليبي الجديد وهو ما يسمى بالثورة الإسلامية التي انطلقت في العام 79 واخذت موقفها من النهج الإجرامي الصهيوني وحلفائه وتمكنت من تحويل ايران من جمهورية موز امريكية إلى ثقل جيوسياسي صاعد يحسب له ألف حساب ، وعلى الرغم من العقلانية الكبيرة التي تتصرف ضمنها ايران إلا أن إعلان النهج الإسلامي هو الخطر الحقيقي الذي يحرك الخطط الصليبية ويثير حساسية الحملة الجديدة ، فما بالكم بثورة إسلامية تمتلك تقنيات صاروخية ونووية ؟.
اليوم تعود إليكم هاللويا الصليبية بعد مضي أكثر من سبعة قرون على الحملات الأولى ولكن هذه المرة بصليب إنقلب إلى علامة الدولار المقدسة التي تمثل قلب الصراع بكل متعلقاته وتختصر رحلة البداية والنهاية ، صليب جديد متحور عديم الدين وعديم الإنسانية وحشيته تتفوق على كل صراعات التاريخ ، حملة تطهير جديدة هدفها مسح الهوية العربية والإسلامية من جذورها وتطهير أعراق أكثر سعة وتنوعا وتشمل العرق العربي والآسيوي والسلافي بعدما شبعت من العرق الأسود في الماضي ، في داخل الحروب الصليبية لم يكن هناك صليب مقدس ولا تطهير آلهي ولا جيش موكول من الرب ، كل ما كان متاحا هو حفنة من الغرائز والأكاذيب الشعبوية التي تم نقعها في الدم مع قطع من لحم النصوص الدينية المنتشية ومنحها التوابل التعبوية المناسبة والإغواء بالجنان والحور العين والنعيم الذي يتناسب مع اللغة والمعطيات لتلك الحقبة ، حملة اليوم سيقودها لكم أوربانوس السابع والأربعون ذو اللون البرتقالي ، حملات التطهير هذه المرة لن تكون بالمنجنيق القديم بل بواحد حديث يحمل اسم إف 16 ، الذبح لن يكون فرديا بل بالشكل الجماعي حيث تحرق المربعات السكنية مرة واحدة تماما كما قدموا لكم العرض في غزة العزة ، تدمير المدن وإحراقها لن يلزمه فيلق من الجنود المتعطشين للدم بل سيكون بكبسة زر واحدة ، نعم لقد تطورت الحروب الصليبية وعاد إلينا جيش الرب بالفولاذ المشبع بالحقد كي يستعيد الدولار أراضي الصليب المقدس التي خسرها قبل سبعة قرون .
أمام سدة التاريخ وسدود الخسائر المنظورة نعود لنُقَيم ما يحدث لنا ولهم ، وما سيجري لنا ولهم ضمن سُنن هذا الكون التي لا مبدل لها مهما احتشدت الجيوش ومهما تطورت الأسلحة ، على صعيد المقاييس المؤسساتية المرصودة استراتيجيا وسياسيا تسجل الولايات المتحدة ضمن عام طوفان الاقصى وبمعيتها الكيان الصهيوني الابن ، خسائر عالمية في مكانتها وهيبتها ومصداقية سطوتها ، تسجل الولايات المتحدة خسائر كونية ممتدة في كل معركة دخلتها بعدما خربت ودمرت وانتهكت قيمة الإنسان الذي احتلت بلاده ، تسجل الولايات المتحدة ومعها مستعمراتها أكبر سقوط أخلاقي لا يمكن محوه و لا نسيانه من وعي الناخبين الموتى والأحياء الذين عاصروا نكبة غزة ، تسجل أيضا وفي دورات الانتخاب محاولات نجــاة يائسة يقودها الأرعن الأورانجي ومن خلفه جيوش المتزمتين وحفظة التوراة والنصوص البائدة للاحتفاظ بحقهم في الربا والاحتلال والقتل والاستعمار في المستقبل ، وتأتي غزة اليوم لتسجل الصفعة الأقوى في وجه الاستكبار الأمريكي بصمودها الأسطوري وبطولات المقاومة الأسطورية فيها ، تأتي غزة اليوم لتقدم صناعتها الخارقة لنوعية الإنسان النادر الذي تخشاه قوى الاستكبار، الإنسان المقاوم بالصبر والايمان الفائق واحتمال الجوع والألم بكل معانيه وبما يفوق التصور، هذا الإنسان هو العربي الأصيل الممتد من غزة إلى لبنان إلى اليمن والأردن وسوريا والعراق وحتى المغرب العربي والذي لم يتلاشى ولم يتنازل كما يروج المتخاذلون ، وهذا العربي الصامد هو الذي سيعيد بناء العالم بأكمله ويرد الصاع صاعين ويعيد مجد الإنسان العربي .
فليفرح الفرنجة الجدد بن ياهو وبن زفير وبن سموتريتش بنبيهم المخلص الجديد وليأتوا بطفل غزة على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، فليفرحوا ببوابات الجحيم التي سيفتحها عليهم وعلى هذا العالم الذي تفرج طويلا على جنازة غزة ومجازر النساء والأطفال ، فليفرح أهل الابراهيمية بنبي الابراهيمية وليبكوا كثيرا على ما سيؤول إليه حالهم في عالم مفقود محترق ، فليبكوا كثيرا على نهاياتهم ونهاية احلامهم السوداء تحت أحذية شعوبهم الصامتة الصابرة كمدا على المؤامرة .
إن مجيء ترامب ومن في الأرض جميعا لن يقدم أو يؤخر في النهاية المحتومة والخسائر الكبيرة التي سوف تحظى بها امبراطورية السوء وهي تنحني أمام عواصف الزمان ، خططهم لضرب ايران كما العادة لن ينالها سوى الخسران والفشل ونهاية هذا الكيان الدخيل ، لامبدل لسنن هذا الكون ولا كلمات الله التامات ، الشعوب المؤمنة المجاهدة المجتهدة هي التي سوف ترث الأرض ومن عليها وكل زبد البحر إلى زوال .
*كاتب فلسطيني
شاهد أيضاً
العرب يستأنفون دفع الجزية لترامب!
د. محمد أبو بكر* يلعن أبو الخوف؛ العرب يسارعون بتقديم التهاني لدونالد ترامب، بالطبع ليس …