خالـد شــحام*
إن كان هنالك من أخبار تبعث السعادة المفقودة في أيامنا هذه فهي أخبار وقف أعمال القتل والتدمير التي نعيش في كابوسها منذ أكثر من سنة في غزة وما تلاها في لبنان ، لا بهجة اليوم تعادل رؤية الفرحة والانطلاقة في عيون أهلنا في لبنان وهم يعودون إلى بيوتهم وقراهم بعد توقف الأعمال الإجرامية ضد الجنوب اللبناني الصامد ، لكنها فرحة منقوصة لا تكملها إلا غزة .
في ظل عدوان تحالفي ممتد على مدى أكثر من سنة من أعمال القتل والابادة والتآمربكل صيغه وصوره على غزة ولبنان ، تولدت في ذهن كل متابع عربي سحابة كثيفة من الصور والتحليلات والرؤى التي يتقاطع بعضها مع بعض ، صور وتحليلات ترى أن الحلف الصهيوني بمكوناته الأمريكية -الاسرائيلية -الغربية -العربية قد حقق انجازات موثقة وسدد ضربات موجعة مكنته من الاحتفاظ بموقع المسيطر والمهيمن على الأحداث، مؤشرات وصور أخرى تؤكد بأن محور المقاومة العربية الإسلامية حقق انجازات كونية وميدانية ومستقبلية تتحقق لأول مرة في التاريخ ، تحت وقع هذا التداخل تتناسل أسئلة صعبة لا تختلف عن البيجرات: هل انتصر حزب الله أم سجل استسلاما مبطنا وتم ابتلاع إرث الشهيد السيد حسن نصر الله ؟ هل تم التخلي عن غزة الصامدة وسقطت وحدة الساحات ؟ هل انسحب جيش المخربين مرغما تحت وقع الضربات البطولية في يافا أم أن لبنان لم يعد يتحمل؟ هل تداعت قوى المقاومة الفلسطينية ونفذت الذخائر وأزفت ساعة السقوط الأخير، أم أن جيش المخربين أفلس ويئس من أية مكتسبات ؟ ما الذي يتم تخطيطه لغزة وماذا تطبخ جماعة السلطة وعساكر مصر؟ أمام كل ذلك يقف الوعي العربي مشدوها فيم يحكم وكيف يمكن رؤية شيء صحيح وسط هذا الغبار والتطاحن في الميدان .
في ظل هذا الاضطراب في الفهم والرؤية العميقة يجب إعادة التأكيد على الحقائق وإعادة تثبيت أوتاد الصواب والمسلمات التي يجب الارتكاز إليها:
1- إن مصطلح (الشرق الأوسط الجديد ) المتداول على لسان المجرم الموكل بالإبادة ليس إلا ترجمة حرفية لمصطلح موارب هو (اسرائيل الكبرى) ، والمصطلحات المشابهة التي تُلقى بين حين وآخر في أسماعنا هي الحقيقة التي يجب الانطلاق منها لفهم ما يحدث ، فعندما نسمع عبارات من مثل ( تغيير وجه الشرق الأوسط ) أو ( يجب توسيع مساحة اسرائيل التي تبدو صغيرة ) فهذه هي النوايا التي لا يمكن إخفاؤها تحت جنازير الدبابات وهدير الطائرات ، وبناءا عليها علينا أن نقلق جدا على مصير كل بلد عربي دون استثناء ، إن اسرائيل الكبرى ليست مجرد حلم ليلة صيف ولا هي اسطورة مؤامرة قديمة -جديدة ، إنها فكرة نافذة عبر التاريخ ننساها ولا نتعلم منها ، لقد بدأ هذا المشروع منذ كامب ديفيد وحملات السلام ثم جاءت خطوة الفتك بالعراق ، وجاءت بعده خطوة تحييد ليبيا وسوريا ومصر وإنهاك الأردن ولبنان بكل السبل ، هذا المشروع لا يمكن النظر إليه على أنه سلسلة مقطوعة أو منفصلة السياقات ، لهذا السبب سيكون من الغباء أن يتم النظر الى الهدنة مع حزب الله على انها نهاية المطاف أو تعني بأن العدو ترك حزب الله في حال سبيله وليس بأدل على ذلك من الثورة الداخلية في صفوف قادة الكيان الذين عبروا صراحة عن غضبهم من هذه الهدنة .
2-ان العبارة الوحيدة الصادقة في كلمة المجرم السادي نتانياهو عند اعلانه قبول الهدنة مع لبنان كانت عندما صرح بأن هذه الهدنة هي لالتقاط الانفاس واعادة التسلح ثم استكمال المهمة ! والمهمة طبعا التي يقصدها ليست خفية ولا سرية ـ إنها ايران بكل بساطة ، وهي قادمة وواقعة مهما بذلت ايران جهدها في محاولات سلمية أو تفاوضية لتدراك هذا العدوان .
3-فصول الاتفاق الخديعة تبدأ بقصة الستين يوما والتي هي مدة الهدنة او بتعبير آخر هي مدة الانتظار لوصول ترامب الداعم الأكبر لإكمال فصول العدوان الأوسع ، وهذه المدة هي بالضبط مدة الانتظار قبل الهجمة الاكبر القاضية ، مدة الستين يوما هذه ستكون كلها عمليات اقتصاص وضربات استعراضية وفرض سيادة وإظهار حزب الله بموقف المعزول والمحاصر والايحاء بانتهاء دوره العسكري وابتلاعه سياسيا بالأدوات الداخلية.
4-المتطرف ترامب جاء بفريق خطير من المتطرفين الأمريكيين لإكمال مرحلة صاعدة من التطرف بقيادة الجناح العسكري الاسرائيلي المشحون بفائض من المتطرفين ـ أخطر المتطرفين داخل فريق ترامب هو ايلون ماسك والذي ربما يمثل القنبلة المتطرفة المزروعة داخل فريق ترامب الذي استدعاه ليس وفقا لرغباته بل بأمر مباشر من عمق النظام العالمي الجديد ، هذا المتطرف الخاص سيكون له شأن خطير خلال السنوات القادمة وما يجري اليوم هو تحضير المسرح والمسرحية والمتفرجين له .
5-بمعية دخول تنفيذ الهدنة المفترضة تتأكد فكرة الاجندات المجهزة ، حيث بدأت الالاعيب الصهيونية في البرنامج التالي على أجندتها وهي الساحة السورية شديدة التعقيد والتشابك و التي لن يسمح لها بالهدوء أبدا ، هذه الساحة تحديدا مُحضرة بالإضعاف والانهاك والإشغال المتعب ، بدأ اللعب من خلال الأدوات الاسرائيلية المعتادة وبالمناسبة فمصطلح الأدوات الاسرائيلية يتوجب علينا أن نضعه في الميزان مع مصطلح الأدوات الايرانية التي يستخدمها العدو وجنده في وصف أضلاع المقاومة العربية ضد حلف الشيطان ، لكن الفارق أن ادوات الصهينة أكثر تنوعا وتعددا وتبدلا ، لدينا في الساحة السورية مصطلح خاص اسمه (المعارضة ) السورية وجندها المسلح أمريكيا وتركيا وعربيا وهي تركيبات أمريكية مستحضرة بالنكهات العربية لتتناسب وذائقة هواة الموت في المنطقة ، داعش والنصرة وهيئة تحرير الشام وغيرها ، لا تتعدى وصف أداة باليد الصهيونية تحركت بالأمس القريب في مهمة مستعجلة قد تتطلب قطع خطوط إمداد حزب الله وتتحضر لإزالة حليف قوي لطهران لإشعال وإشغال جدول الأعمال القادم الذي سوف يتسع ويتمدد .
6-ان اخطر ما حدث في الاتفاق الحاصل ليس النتائج المترتبة على لبنان أو موقف حزب الله ، بل هو حجم العبث في الداخل اللبناني بالفريق الدولي المتصهين الغربي من فرنسا أولا وبريطانيا ثانيا والولايات المتحدة ثالثا ثم الفريق المتعاون اللبناني الداخلي الأشد صهيونية الذي ساهم في محاصرة حزب الله والدفع لالزامه باتفاقية مبطنة غائمة الغايات تتضمن اليات تفكيكه ، إن صوت حزب الله الحقيقي محاصر ظرفا ولكنه لا يمكن ان يكون مع هذا الاتفاق .
إن صيغة الإتفاق والضغوط التي يتعرض لها حزب الله لا يمكن لأحدكم أن يتصورها ، وأريد من خلال هذه الهدنة وملابسات إعلانها وضع حزب الله في دائرة الشبهة والتخاذل والتفريط بموقفه البطولي مع غزة طيلة عام الموت وتحجيم التأثيرات الواسعة التي تسبب بها داخل الكيان الصهيوني ، وأريد أيضا أن يتم إظهار بأن لبنان استعاد سيادته الداخلية وتم تلجيم مفهوم (الدولة داخل الدولة ) وأعيد لبنان الى سياق (الشرعية الدولية ) وجوقة الأنظمة العربية المتبرأة من أي مبادرة أو دعم أو اسناد لشعوب العرب وللقضية الفلسطينية تحديدا وهذه الجوقة تحديدا هي جزء لا يتجزأ من أداوت الصهيونية في المنطقة.
7-من السذاجة والسطحية التفكير بأن حزب الله ورجالاته وقياداته بدلت مواقفها أو تنازلت عن مبادئها أو تخلت عن غزة ، لقد دفع لبنان بحزب الله ثمنا فادحا من دمه ورجالاته وأمواله حبا وكرامة لأجل غزة فلسطين وضحى بأعظم رجالاته ومقاتليه ، إن من يفعل ذلك لا يمكن له أن يخذل فلسطين وشعب فلسطين ، إن ما يجب التفكير به الان والانشغال بأمره هو القسط الثاني من التوسع العدواني القادم على لبنان وسوريا والعراق والاردن ومصر ،إن حزب الله بانتظار جولة جديدة من المعركة ستكون أشد شراسة وعدوانية من السابقة .
لقد ذهب المجرم نتانياهو إلى حدود لبنان كي يردع غزة التي لم يستطع تركيعها ، ففشل في لبنان وفشل في غزة وسيفشل في سوريا والعراق وكل بلاد الكرامة ، نجاحه فقط محصور في بلاد المذلة والانبطاح والركوع المسبق، حزب الله لم ولن يتخلى عن غزة ، الذي تخلى عن غزة هو الانظمة الخانعة والراكعة والمقيدة بالسلاسل الامريكية والفرنسية والبريطانية حتى اليوم وهي التي تلعب الان لعبة الترويج الإعلامي لفكرة استسلام وتخلي حزب الله عن مواقفه .
في داخل لبنان وغزة هنالك روح صمود غير مرئية أكبر بكثير من عدد الشهداء وحجم الدمار المرئي وهذه لا تهزمها كل جيوش وأسلحة العالم ، في غزة ولبنان هنالك نفوس حاضرة وأخرى تُولد لا تعرف اليأس ولا الاستسلام ستجعل دولة يهود تدفع ثمنا فادحا لقاء جريمتها التي لا تغتفر أبد الدهر ، في غزة وحدها هنالك فيض من الكرامة والثبات يغني عن كل هذه الأمة المتخاذلة ، تشير تقديرات العدو قبل معركة طوفان الأقصى بأن لدى المقاومة الفلسطينية ما يقارب 70 ألف صاروخ جاهز ، فلو افترضنا على أبعد تقدير أن نصف هذا العدد قد تم ضربه فهذا يعني أن المقاومة في غزة لا تزال تمتلك رصيد قوتها دون أي تنازل ، ومثل الأمر ينطبق على حزب الله بدرجة أكبر ، فهو لم يستخدم بعد إلا رصيدا ضئيلا من قدراته الحقيقية .
الفهم الدقيق الذي يتوجب أن ينغرس في وعي كل منا على مختلف المستويات الثقافية بأننا لسنا بصدد حرب أسلحة ضد اسلحة ، أو جيوش ضد جيوش ، أو رغبات ضد رغبات ، نحن أمام حرب حقيقتها البسيطة هي نمط حياة ضد نمط حياة ، منهج عقائدي أمام منهج ايديولوجي هشّ ، طريقة عيش عداونية مقابل طريقة عيش حضارية وليس غير، في هذا النوع من الحروب تفوز النفوس الأكثر صلابة والأكثر تناغما مع الخلق وسنن الكون .
ان من جاؤا الى ارض اسرائيل لمعايشة وتطبيق الحلم الاسرائيلي هم في الحقيقة جزء لا يتجزأ من الحلم الأمريكي ، والحلم الامريكي ثبت نفاذ مفعوله ويعيش سنواته الأخيرة ، إن الأيام الصعبة قادمة على المنطقة العربية برمتها ، لكننا نبشركم منذ الان بأنه رغم القتل والدمار فإن حزب الله هم الغالبون !
*كاتب فلسطيني