ادريس هاني*
سيكون من الصعب مقاربة الأزمات الدولية من دون إطار معرفي يشكل سلطة تفسيرية لما يبدو لنا نقائض عصية على الفهم. فما يحدث في المنطقة تحديدا لا يمكن مقاربته خارج مفهوم الإهانة, وكما يُحصي مهدي المنجرة، خبير المستقبليات، في كتابه “الإهانة في عهد الميغا إمبريالية”، ما يربو عن 807 ألف مرجع عن الإهانة في الانترنيت. وهنا يتحدث عن الإهانة التي تمارسها القوى العظمى ضد العالم الثالث. وفي “زمن المهانين” تتعزز الفكرة ذاتها حول الإذلال عند برتراند بادي. كما ثمة نوعان من الهمجية في نظر إدرغار موران تندمجان لتهديد الكوكب، الهمجية التي تأتينا من الأغوار التاريخية، وتلك التي تمثلها التقنية بوصفها تشكل نموذجا للهمجية الباردة. لكننا إن وضعنا كل ذلك في شروط الإهانة، ستصبح الهمجية ليست سببا لخراب العمران البشري فحسب، بل ستصبح داة للإذلال.
تمثل الأزمة السورية المثال الأبرز على تواطؤ الإهانة مع الهمجية، حيث ما حصل حتى الآن يصعب تفسيره خارج منطق زمن المهانين، حيث تعمدت القوى المعنية بالإشراف على تسليم سوريا للإرهابيين أن تضع على رأس البلد مطلوبين للعدالة. سوريا التي وصفها هنري لامانس بالقول: ” لسورية — فضلا ٌ عن كونها من مواطن البشرية الأولى — فضل َ آخر، وهو موقعها العجيب في وسط المعمورة”، أو هي سوريا التي وصفها المدير الأسبق لمتحف اللوفر أندريه بارو (André Parrot): لكل إنسان متحضر وطنان: وطنه وسوريا. ففي نهاية المطاف سيصبح البلد تحت سيطرة قادة إدارة التّوحّش، وفي هذا الصمت المريب حيال ما يتعرّض له مواطنو الساحل، يكون العالم شريكا في عملية الإذلال.
ad
فأمّا القوى العظمى، فهي غير آبهة بالعمق التاريخي والحضاري لسوريا، وهذا هو الشكل المتجدد للهمجية. وأمّا المحيط الإقليمي فهو معنيّ بتجريدها من كلّ مقومات الحضور والبقاء. هذا التوحش الذي يستمد قوته من الحماية الدولية والإقليمية، له نصيب من داخل سوريا، حيث تنامت خلايا إرهابية لطالما تحينت الفرصة التاريخية لتحقيق الانقلاب. وبالفعل ما حصل في سوريا هو انقلاب، ولكنه ليس انقلابا داخليا خالصا، بل انقلاب موصول بأطراف خارجية أمّنت البيئة والشروط الكافية لانهيار الدولة: الحصار الشديد والعقوبات الاقتصادية + الإرهاب الملوّن + شراء الذمم + الإنهاك….كلها ساهمت في تفكك الجيش وإضعاف الدولة.
وفي حالة ذُهانية اعتقد كلّ خصوم سوريا أنّ فضل سقوط النظام يعود لمجموعة ظلّت محمية داخل معسكرات إدلب في انتظار نضوج المخطط. لم يكونوا صادقين وأوفياء للحقيقة لكي يغمطوا أسيادهم فضل إسقاط النظام السوري. والسؤال الذي حيّر المراقبين: هل صدّق هؤلاء بالفعل أنّ سوريا سقطت بثورة شعبية؟
لا يمكن أن نقع ضحية التشنيع الممنهج لبلد تمّ تصويره في منتهى التوحش، فقط لتبرير الوضع الهمجي الذي كان متوقّعا، وفاض الكأس رغم كل محاولات الإعلام المنخرط في لعبة انقلاب الصورة في سوريا. ولأنّ الثورة لم تكن شعبية، سارعوا إلى عسكرتها. ولأنّها غير شعبية استعجلوا حكومة بدستور ممنوح لا يؤمّن شراكة سياسية ولا ضابطة لإدارة ديمقراطية. غياب الإستفتاء، غياب إدارة تشاركية، دستور لا يؤمّن أي ضابطة للرقابة على الانتقال السياسي أو العزل عند الاقتضاء، تمكين إدارة التوحش من تعيين ثلث البرلمان من دون عودة للشعب، قادة الانقلاب لا يثقون في الشعب، الدرس الأساسي للعبة الأمم كما دبّجها ما يلز كوبلاند. أين هو الشعب الذي انقلبوا باسمه على النظام؟ مذبحة الساحل هي درس لكل من خالف الفاتح، وهي همجية الثأر من المدنيين، ولكنها أيضا مصيدة.
ad
اليوم التهديد يطال النسيج الاجتماعي السوري، الإرهاب الجبان يتاجر بالمعاطاة مع الاحتلال لإكمال إدارة التوحش ضد الشعب، تناقض آخر طفى على السطح بين التركي والإسرائيلي، ثمة جيوب في مكر المتبارين على السيطرة على سوريا يقوضها مكر التاريخ.
لكن ثمة مخططا للاستنزاف، يلعب الفاتح فيه دورا كبيرا، جر لبنان لحرب أهلية طويلة الأمد، والحرب بين النصرة والحزب من بوابة البقاع. تبدو هنا اللعبة أكبر، ولكن عناصرها قابلة للانفلات. سوريا ذات السيادة والمؤسسات وقوة الردع انهارت، والقادم هو بالفعل الفوضى الطخياء، لأنّ غريزة إسقاط سوريا حجبت عنهم تفاصيل كثيرة داخل مناطق النفوذ، وغالبا ما يكمن الشيطان في التفاصيل. لا زلنا في حاجة إلى حدس الوقائع، لا زلنا مطالبين بمراجعة الأسس، وتهجّي الحروف في جغرافيا سياسية متحرّكة، في حاجة ماسة إلى: bien lire et comprendre
*كاتب ومفكر مغربي
