د. لينا الطبال*
تروي الالياذة إن والدة آخيل غمسته في نهر الخلود، وأمسكته من كعبه، فصار جسده كله منيعا إلا تلك النقطة الصغيرة التي ظلت مكشوفة، الكعب. ووهبه الإله هيفايستوس درعا لا يمكن أن يخترق، يلمع في الشمس، كان آخيل يتبختر به في ساحات طروادة… آخيل سقط، والدرع سقط معه، وتلك كانت النهاية.
هذه ليست مقالة عن الإغريق. لا شيء إغريقي هنا. هذه مقالة عن أحمد الشرع. جاء إلى الحكم في سوريا، لا يحمل أي مشروع. كل شيء كان معدا له. جاء ليرتب ما تبقى، يقضي مهمته ويمضي.
يقولون لك انه رجل الدولة الحديثة… يقولون لك انه البديل المنقذ، أي بديل؟ الشرع لا يبدل شيئا، يبدل بدلته فقط… الآن هو البطل، هكذا يخبرونه انه آخيل سوريا، يختار بدلته كل صباح بعناية. يحافظ على اناقته في النهار، يربط كعبه جيدا، لا يموت طالما أن كعبه محمي، لا يريد أن يصاب بكعبه كآخيل الأحمق. ينظر في المرآة، يرى درعه لامعا، لا دم عليه… وفي المساء، يرتدي بدلته العسكرية، يمسح على لحيته، ويستل سيفه.
يقولون عنه صانع استقرار! تباً هو صانع الجحيم… ومن يرى خريطة الدم على الساحل يفهم ان الذي لم يخلع عباءة الطائفة لا يمكن أن يحمل مشروع وطن.
الغرب يبتسم… لديهم في دمشق موظف مثالي يبتسم أيضا… علموه كيف يكون هادئ وصامت تدرب على الإجابة عن كل الأسئلة: سعر الخبز، حركة الكواكب، الاحتباس الحراري، أزمة المناخ، او عدد سكان المريخ لو تطلب الأمر … الإجابات كلها جاهزة. قناع جميل، وواقع دموي يخفيه تحت الطاولة.
لكن المجازر في الساحل السوري كانت صادمة… الغرب لا تزعجه المجازر، تعود عليها. لكن الصورة التقطت أكثر مما يجب، والجثث ظهرت بوضوح. الغرب الذي كان يثرثر عن “عملية سياسية شاملة”، تلعثم واضطر ان يندد بالعنف… الغرب الذي كان يحضر لرفع العقوبات بهدوء، وجد نفسه مضطرا لتغيير لهجته واصبح يتحدث عن حالات فردية، عن حماية الأقليات، عن المساءلة، عن أمور لا تضر ولا تنفع… هذا الغرب، كعادته، يصنع الوحش، ثم يصدمه أن الوحش يعض.
ما حدث في الساحل السوري هو تطهير عرقي. لا حاجة للبحث عن مصطلحات. حين يتم قتل جماعة فقط لأنهم ولدوا في المكان الخطأ، او لأن بطاقاتهم لا تعجب من يمسك السكين، فالأمر واضح… هذه جريمة، لا تحتاج إلى ميثاق روما، ولا إلى تعريفات قانونية طويلة. كل من رأى يفهم: إنها جريمة ضد الإنسانية.
في غزة، الصورة واضحة. الجندي الإسرائيلي يضغط على زر من الطائرة، يسقط صاروخ، ينهار المبنى، عشرات يستشهدون في لحظة. ورغم ذلك، القانون الدولي يتنازع في التوصيف: جريمة حرب؟ جريمة ضد الإنسانية؟
أما في سوريا، فالأمر أشد فظاعة. لا زر، لا طائرة، لا سماء. القاتل يقف أمام الضحية مباشرة. يحتك معه مباشرة وهذا أسوأ ما في الامر… ينظر في عينيه، يذبحه ببطء، ثم يفرغ الرصاص فوق الجسد الميت، ليس دفاعا عن النفس، بل لإشباع شهوة القتل… آلة جوع طائفي مريضة، لا أحد بحاجة إليها، إلا من يحمل السكين.
وجوه تقابل وجوه. دم يلطخ الأيدي. لا تكنولوجيا تلطف المشهد. كل يد تعرف تماما من قتلت. لكننا نعلم، وأنت تعلم، انه لا حاجة لآلاف الجثث، ضحية واحدة في الساحل تقتل ما تبقى من الإنسانية. هذا كل الفرق بين غزة وسوريا؟
تتشابه دائما التجمعات. لافتات تندد بالمجازر، هتافات وكلمات تسكن الغضب قليلا. كلها تتشابه، كلها تشبه بعضها. إلا ذلك التجمع في ساحة السان ميشيل في باريس فقد كان وجعا… السوريون هناك، كانوا يشيعون وطنا بأكمله. لا لافتات، لا شعارات او هتافات. السوريون هناك لم يرفعوا أصواتهم، بل رفعوا صور فقط: صور المجازر، وجوه اهلهم، وجوه أقربائهم، جيرانهم، أطفال يعرفونهم بالاسم.
امرأة وقفت أمام صورة، تعرفت عليها. لم تحتاج لتأكيد.. كان شاب من عائلتها. حتى الدموع كانت متعبة ومرهقة… كالعادة، جاء من ينتقد، لا جديد… قالوا أدونيس حضر. أول مرة؟ ولا مرة؟ ما الفرق؟ قالوا الشبيحة تظاهروا، قالوا الفلول. من نحن؟ لا جديد أيضا… لكن لا أحد سأل عن الضحايا. لا أحد سأل لماذا تم قتلهم. لا أحد سأل من كان يذبح ومن كان يضحك.
في الساحة، الأرواح كانت بيننا. شعرت بها، تطوف حول المكان، قليلا من الصمت اذا. قليلا من الاحترام… هنا، اجتمع الجميع، من كل طائفة، كل مذهب، لا أحد سأل عن بطاقة أحد. فقط دمعة صامتة تقول ما يكفي عن التطهير العرقي.
وأنتم يا مثقفي البيانات، خذوا لحظة واصمتوا قليلا. اتركوا المكان نظيفا، كي تمر أرواحهم بسلام، من دون شعاراتكم، من دون مزايداتكم. لا يحتاج الضحايا لتحليل سياسي جديد فوق موتهم. يكفيهم موتهم.
مجزرة الساحل لها اسم، ولها وجه: أحمد الشرع. لا يحتاج الأمر إلى تحقيقات طويلة أو لجان. او حتى مذكرة اعتقال من لاهاي. من أعطى الأوامر معروف، ومن نفذ معروف، والنتيجة واضحة: تطهير عرقي، وجرائم ضد الإنسانية.
رئيس نظام جديد، كان يفترض أن يرمم دولة، أو على الأقل ان يلتفت إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي
يلتهم أرضه. لكنه اختار طريق آخر. كل رصاصة على حدود لبنان يتم الصاقها بفلول النظام أو بحزب الله، الاتهامات جاهزة لكن لا داعي لسؤال إسرائيل عما تفعله في الجنوب.
الرجال دائما على استعداد. يقتحمون، يقصفون، يذبحون، كل شيء مبرر مسبقا: نقاتل النظام السابق.
وحزب الله؟ مهما اختلفت معه سياسيا أو فكريا، هناك حقيقة واحدة لا لبس فيها: عدوه واضح هو إسرائيل، التي ما زالت تحتل جنوب لبنان، وتقصف متى شاءت، وتتحرك بحرية فوق الأراضي السورية أيضا دون حساب.
ومع ذلك، السهام الإعلامية والسياسية لا توجه نحو من يحتل الأرض، انما تستنزف الداخل اللبناني والسوري، والجميع متهم، ما عدا من يبني المستوطنات على مشارف دمشق. الجنوب اللبناني يستنزف، الداخل السوري غارق في تصفية داخله، أحمد الشرع صامت تماما تجاه الاحتلال، واسرائيل تربح بالسكوت.
لكن الحقيقة لا درع يحمي للأبد. لا درع آخيل، ولا درع الشرعية الغربية. كل درع له شق صغير، كعب مكشوف، لحظة تسقط فيه كل الحصون. الغرب الذي جاء باحمد الشرع لم يفعل ذلك حبا له ولا دعما لسيادة سوريا، كان بحاجة لواجهة مطيعة، نظام هش، ينفذ السياسات، يؤدي المطلوب، ويتحمل وحده الدم…
الطغاة يصدقون أن الدروع تحمي، أن لا شيء يمسهم… والتاريخ يعرف أن السقوط قادم، مهما تأخر. درع آخيل لم ينقذه. ولن ينقذ أحمد الشرع… الملحمة تقول إن آخيل سقط أخيرا، رغم كل حروبه، رغم درعه الذهبي، سهم واحد أنهى كل شيء.
*كاتبة وأستاذة جامعية، وباحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
