السبت , يونيو 14 2025
الرئيسية / اراء / إنه زمان الخنازير!

إنه زمان الخنازير!

خالد شحام*
مع نهاية الأسبوع الماضي وعلى هامش ندوةٍ علميةٍ متخصصة ، كانت هنالك دعوة خاصة للعشاء ضمن مجموعة لا تتعدى العشرة في واحد من المطاعم الزاهية في مدينة من عواصم الرماد الملقاة في الفلاة .
على امتداد ممر المطعم تم وضع المقاعد الأنيقة والديكورات كي ينتظر الزبائن الدخول أو يستلموا الطلبات ، وفي داخل الصالة حيث يمكنك النظر عبر الزجاج تتراص الطاولات ويزدحم المطعم عن آخره بالآكلين والآكلات المتحلقين حول الطاولات التي تزينت بكل ما تشتهيه الأنفس من أطباق المشاوي والسلطات والمقبلات مما لذ وطاب ، و فيما كان الخدم يتراكضون لتوفير كل الاحتياجات كان الفرن الذي يخبز الخبز الشهي الذي انتشرت رائحته الزكية في أرجاء المطعم بالكاد يلحق الطلبات الممطرة عليه .
عقب جلوسنا وبعد نصف ساعة تقريبا كانت الطاولة الممتدة أمامنا قد بدأت تمتلىء بالأطباق المتنوعة ، وفيما كان الكل منهمكا بالاحاديث والضحكات كانت الشاشة الكبيرة المقابلة لنا على الجدار تعرض أخبار قناة الجزيرة حيث اختفى الصوت وسط ضجيج المطعم ، لم يكن الأمر بحاجة لأي مذيعٍ أو تقرير لفهم ما يتم عرضه عن أخبار المجاعة التي تضرب غزة ويوميات الأكفان المتلاحقة ، كانت صور الأطفال الذين أصبحوا جلدا على عظم تكفي لتسد أي نفس ٍعن أي طعام أو شراب ، لكن أحدا لم ينتبه وضاعت صور اللحم الفلسطيني المشوي بقصف الطائرات الاسرائيلية في حضور اللحم المشوي على فحم المدينة العربية ، لقد خطر في بالي بأن المطعم إما على درجة كبيرة من الغباء لوضع هذه الأخبار أمام المرتادين أو أن الأمر أصبح عاديا إلى الدرجة التي لا يمكن فيه أن تؤثر هذه الأخبار في شهية الآكلين ، وهنا تكمن هذه الفكرة الصغيرة الخطيرة جدا ، وعلى ما أراه فإن الحاضرين مضغوا ذلك وكأن شيئا لا يحدث ولن يحدث .
خلال ثوان قليلة تلعثم الصفاء من وجهي واضطربت قدرتي على الاتزان بين الحضور، لوهلة ما دبت في نفسي فكرة أنني وسط اختبار سيكولوجي فريد من نوعه لرؤية كيف يتفاعل المواطن العربي ضمن شريحة ما مع الأهوال التي تمس أمتنا، وهل ستكون هنالك ردود أفعال فورية وبسيطة وظاهرة؟ هل وصل الأمر من الهوان أننا يمكن أن نستسيغ الطعام فيما تبث الشاشة بشكل مباشر أخبار المجاعة والإبادة الكبرى في العالم؟ لقد تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني!
ad
كانت الوجوه التي تتحوط الطاولات منتفخة متوردة ناعمة ، نظرات لا يملؤها إلا الكبر ونظرات ريبة ونفور وتقديس للذات أو هكذا بدا لي، كمية الطعام التي على الطاولات والأصناف الموضوعة لفردين او أربعة ربما تترواح كلفتها ما بين 100-200 دولار والصنف الأساسي هو اللحم الأحمر حيث يسيل اللعاب وتشتغل الأنياب وتبتلعه الدهاليز المظلمة، لقد ندمت لأنني هنا ولأنني أشاهد هذه التجربة المؤلمة والتي تمنيت ألا أراها أو أصدق أنها موجودة.
ربما قلة منكم تعرضت لتجربة التجويع نتيجة ظرف ما ليوم أو يومين أو ثلاثة ، لكن أحدا لم يجرب أن يكون التجويع شهورا ثم ممنهجا ومصحوبا بالنزوح المتواصل تحت القصف والقتل والرعب وانعدام مقومات الحياة ، حيث يصبح التجويع هنا أشد خطرا من القصف وأشد خطرا من كل الأسلحة، إن الجسد البشري يبدأ بالتغير فسيولوجيا ونفسيا وتطرأ وساوس ومخاطر عالية جدا لا مجال للتطرق إليها هنــا ، تتفاقم حدة هذه الخطورة معنويا عندما تدرك الضحية بيأس بأن كل العالم يتفرج عليها تحت هذه الظروف داخل علبة غزة الزجاجية المغلقة حيث يتابع علماء النعيم والرفاه والنذالة والوضاعة تجربة الاحتباس الحراري في البيت الزجاجي الفلسطيني التي تمتد لأكثر من سنة ونصف فيما الضحية تتمزق من الألم والعذاب ببطء واستمرار.
انسحبت إلى طابق الصمت داخل صدري وغرقت في مستنقع الفكرة رغما عن ضجيج المطعم: كيف يمكن لنـا أن نقبل الطعام في الوقت الذي تبث فيه الشاشة صور المجاعة الكبرى والمجزرة المتواصلة لأهلنا في غزة؟ إلى أين وصل حالنا؟ أتمنى من أحدكم ألا يعتب عَليَّ في بعض أوصافي أو بعض من كلماتي النارية لكنني لا أستطيع إلا أن أكتب عما أشعر به ويملأ مخيلتي، وهكذا رحت أراقب الوجوه لأفهم إجابة السؤال ، فالوجوه هي إجابات المرحلة بأكملها! الوجوه التي تتشكل نتيجة لتفاعل كيميائي بما نفعله بزماننا وبحالنا وبما يفعله حكامنا بنا وبما نفعله بأنفسنا.
في عرف الغيب ثمة خصائص نقية من الخطايا البشرية ربما زرعها الخالق في بعض الحيوانات لتعكس هذه الخطايا أو تنوب عنها سرا وربما علنا ولغاية ما في ضمير هذا الكون العجيب، فعندما تتكلم عن المكر والمراوغة فصاحبه الثعلب ويظهر لك مكره وخداعه دون خجل ولا مواربة وبلا تكلف، عندما تتكلم عن الغدر والخسـة والتربص فالأفعى هي الصاحبة، عندما تتكلم عن اجتماع الشراهة مع الوساخة فالخنزير هو الكنج، عندما تتكلم عن انعدام الضمير والرحمة وحضور الجشع، فالضبع سيقول دونكم عني، كان أول من أشار إلى مثل ذلك في القديم هو العالم أرسطو حيث حاول الربط بين بعض الوجوه وبعض الحيوانات لفهم طبيعة السلوك البشري وعجائبه، وعلى الرغم من النقائص وِعدم الجدوى من محاولة أرسطو ومن تلاه في هذا السياق وإنعدام العدالة فيه إلا أنه لا يمكن الإنكار بأن الكثير من البشر يحملون داخل أفعالهم من خصائص الحيوان الكثير ويواربون ذلك تحت أقنعة ومسميات وحيل مختلفة ، هكذا هو الحال ولا معقب للكلمات التي تحكيها الوجوه!
في نظرة غامرة ومع كل أسفي في الوجوه داخل المطعم لم أستطع إلا أن أرى الخنزير الذي يفترش كل المكان بلا مواربة ولا حياء، إنه موضة الزمان القبيح الذي نعيشه ونعاصره، ما أكثر الخنازير التي تقيم بيننا في هذه السنوات ! ما أوسع حظيرة الخنازير التي تُربى جيدا وتأكل جيدا وتهتم بحمرة خدودها وتورد جلدها الأبيض وتحرص على دنياها جيدا ، الكلام ليس معنويا ولا رجما في ضمير الغيب، لقد أصبح لزاما اليوم أن نضيف وصف الخنازير لكل المشتركين في الجريمة الارهابية داخل غزة من قتل وتجويع وحصار لئيم لا يرحم وكذلك صمت وخذلان ونكران وتجاهلٍ أشد حقارةً ، لا بد من إضافة هذا الوصف لمنح الجريمة وشركائها الإضافة الابتكارية التي تمنحهم رمزية هذا الحيوان التي تجمع وتختصر في تصورها كل معاني القبح المادي والمعنوي والشراهة والجشع والانحطاط في القتل وانعدام الإنسانية والإمتساخ الإنساني المطلق .
يمكن لأي مختص في التغذية أن يقول لك بأن هذه الوجوه الناعمة تُبنى من جراء عمليات التغذية بالأطعمة التي تحوي الأحماض الأمينية والدهون والكربوهيدرات ، لكن المختص بالفلسفة والحكمة يمكنه ان يقول لك بأن ذنوب المرء تُساهم في بناء لحم وجهه ، فعندما يمتلأ البطن بالطعام المأخوذ بالحرام يكتسب الوجه لمعة خاصة تنطق وتقول بملىء الوجه بأن صاحبه يأكل الحرام ويختبىء بداخله هذا المخلوق الوضيع ، عندما يكون الثراء القادم من دماء الغلابى وظلم الناس والتجبر في لحم الأبرياء تصبح العيون ذات لمعة والأصابع ذات لسعة ورائحة المخلوق ذات قذعة ، وعندما تتغلغل الخيانة والمؤامرات جوف القناة الهضمية وتسرع في الدورة الدموية تصبح الابتسامات شجية والغمزات سرية والحلالُ تهمةً و قضية ، وعندما تتجمع الخسائس والنقائص والجرائم في جوف رجل واحد فإن شيئا جينيا وتحوريا عجيبا يطرأ رغما عن كل قوانين الوراثة وقوانين العلم حيث يتمطط الأنف ويتوسع شقاه ، ثم يتدلى صيوان الأذن ويصبح أكثر سماكة ودهنا ومستدقا عند نهايته ، ثم يتمطط الفم بأكمله ويتضخم ويستدير ليتحول الرجل إلى المظهر الذي يحاول إخفاءه بالكاد ، ولا تهم هنا البذلة الأنيقة أو اللحية البيضاء أو العمامة أو المنزلة .
في داخل صالة المطعم ومع احترامي لكل إنسان وثقافة المطعم والحق في ممارسة أي نمط غذائي ياكله المرء إلا أنني ورغما عني لم أر سوى الخنازير التي تحوط الطاولات إلا ما فاتني في علم الغيب ، هؤلاء الذين يلتهمون هذا الطعام الباذخ على المائدة التي يتمدد عليها أطفال غزة وجوع الشرفاء ولا يبالون حتى بمجرد بعض التعاطف ، خلال فترة وجيزة تعرض الشاشة ذاتها صورة رئيس لا تحتاج للكثير من الجهد لاستخراج شكل الخنزير من تقاسيم وجهه وابتساماته وحتى كلماته وهو يطالب بالسلام ويضحك على التاريخ، الأدهى والأكثر مرارة هو صورة تهل علينا لنائب رئيس آخر أينما نظرت إليها ومن أية زاوية ستجد كائنا تحتار فيه بين الخنزير والذئب والضبع والأفعى ، بعد قليل تأتي الأخبار بصورة أكبر رئيس خنزير على مستوى العالم وهو يدلي بتصريح يقول فيه بأنه لا شيء يجبر جيش الخنازير القتلة على إدخال المساعدات إلى غزة المنكوبة ، ثم بالأمس يطل علينا ليقول بأنه سيعمل على تحرير (الرهائن ) ال59 من غزة فيما لم يأت على ذكر كلمة واحدة بحق 2.5 مليون فلسطيني يتعرضون للإبادة والموت بكل صنوفه إضافة لألوف من اللبنانيين واليمنيين والسوريين الذين يتم قتلهم على يد جنده وعملائه وأسلحته .
إنه زمان الخنازير بلا منازع، الخنازير التي سرقت حياة الأبرياء واستولت على المزرعة وشربت من البئر ثم تغوطت فيه، إنه زمان الخنازير الذين تكاثروا إلى درجة أنك تلقاهم في الشاشات والفضائيات والمسرحيات ويطلون عليك من خلف الميكروفونات، إنه زمانهم حيث تكاثروا وتناسلوا من كل حدب وصوب واستولوا على اموال الفقراء والحياة والدواء والغذاء والماء و الكهرباء ، إنه زمانهم لأنهم ربوا حظيرة تعيش فيها الشعوب لتتحول إلى نفس الكائن بروحه ومعانيه وأفعاله ورقصه وطربه وسط الأوساخ، إنه زمان الحظيرة الأكبر حيث دبت روح الخنزير في كل شيء! إنه زمان الخنازير أيها المطعم المسكين حيث احتلوا أرجاءك وسكروا على مائدتك وفرحوا بالحياة الدنيا وأقسموا أن لن يبعث الله من يموت!
غير أن هذه الظاهرة وهذا الكائن وما يمثله ، له مضادات طبيعية عنوانها الكبير هو الطُهر والنقاء حيث الكرامة والشهامة ، ورغما أن امبراطورية غزة العظيمة تخوض معركة الجوع والموت والنزوح والابتلاء العظيم إلا أنها رفضت الخضوع للخنزير الأكبر وجيشه بل على العكس فهي كل يوم تشوي بضعا من الخنازير على لهيب الياسين ، وبهذا تحولت غزة إلى أكبر منتج لمضادات الخنازير وجيوشهم وشعوبهم وكل مشتقاتهم التي تملأ عالمنا ، لقد تحولت مقاومة غزة إلى النموذج العالمي والتاريخي المضاد لمرحلة كاملة من استيلاء الخنازير على قطعة من التاريخ العربي وحتى العالمي ، إنها المطهر الوحيد لهؤلاء الذين يستولون على بلادنا وتلطيخها بغواطهم ووساختهم وافرازتهم المقززة وأفعالهم الإجرامية، اليمن العظيم وشعبه العربي العظيم قرر أن يكون مع حلف الطُهر والنظافة والكرامة، اليمن العظيم الذي دفع ثمنا غاليا جدا من أبنائه وماله وأرضه وقياداته ليكون منارة ناصعة في الطهر والاستبراء من عصر الخنازير وليكون مرشدا ودليلا في مدن الخنازير ليقود العرب إلى النجاة، اليمن العظيم الفقير المعدم الذي يثبت كل يوم أنه على قدر كسر جبروت الخنازير وشويهم رغما عن القتل والحريق.
اصبري يا غزة، يا محررة هذا العالم من شقائه ، لقد اقتربت نهاية عصر الخنازير، اصبري فقد بدأوا يتساقطون من حولك ، هنيئا لك هذا الصبر وهذه التضحيات التي تغسل ذنوبنا وتغسل هذا العالم وهواءه ومدنه وأحياءه ، هنيئا لك يا قديسة الزمان والمكان.
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

الكيان الى زوال!

الياس فاخوري* اسرائيل الى زوال – هل تحاول اسرائيل حياكة أسطورة الموساد والأمن الاسرائيلي لتكتب …