د. معن علي المقابلة*
منذ أن حذّر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور عام 1961 من تنامي نفوذ “المجمّع الصناعي العسكري”، ظل هذا التحالف بين البنتاغون، شركات السلاح، والكونغرس، عماداً للقوة الأمريكية وفاعلاً مركزياً في توجيه السياسة الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط.
لكن اليوم، تتجه الأنظار إلى لاعب جديد يتنامى بهدوء لكن بثبات: وادي السيليكون.
لقد أصبحت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل، أمازون، مايكروسوفت، وPalantir شريكاً مركزياً في المشاريع الأمنية والعسكرية الأمريكية. فهل نحن أمام تحول جذري في بنية القوة الأمريكية؟ وما هي تداعيات هذا التحول على المنطقة العربية.
لم يعد دور وادي السيليكون يقتصر على الابتكار أو الخدمات المدنية. بل دخلت شركات التكنولوجيا بعمق في شراكات مع المؤسسات الأمنية الأمريكية، في مجالات تمسّ جوهر القوة الاستراتيجية:
الذكاء الاصطناعي لتحليل المعلومات الاستخباراتية؛
البنى التحتية السحابية للجيش والاستخبارات؛
أدوات المراقبة، تتبّع الأفراد، والتعرف على الوجوه؛
الدفاع السيبراني والهجمات الرقمية.
إنها أدوات أكثر هدوءاً من السلاح، لكنها أشد فعالية في عالم قائم على البيانات والسيطرة الرقمية.
شهدت إدارة الرئيس دونالد ترامب (2017–2021) تسارعاً في هذا التحول البنيوي. فقد شجع ترامب شركات وادي السيليكون على دخول العقود الدفاعية الكبرى، وأطلق مشاريع مثل JEDI (بنية تحتية رقمية للبنتاغون تنافست عليها أمازون ومايكروسوفت).
كما قاد مواجهة صريحة مع الصين في ميدان التكنولوجيا، مستهدفاً شركات مثل هواوي وتيك توك، في خطوة أعادت رسم خريطة النفوذ الرقمي عالمياً، وربطت بشكل مباشر بين السيادة التكنولوجية والأمن القومي.
لقد دشّنت إدارة ترامب واقعاً جديداً: الأمن القومي لم يعد عسكرياً فقط، بل رقمياً في المقام الأول.
هذا التحول الأمريكي لم يبقَ داخلياً، بل بدأ ينعكس على السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم العربي، بطرق جديدة ومباشرة من خلال تصدير أدوات المراقبة والتحكم فقد شهدت السنوات الماضية تصدير أنظمة أمريكية للذكاء الاصطناعي والمراقبة إلى عدد من الدول العربية، بعضها وُظّف في تتبّع الأفراد، وضبط الحدود، ومراقبة الإنترنت.
كما وقعت شركات أمريكية عقوداً مع حكومات عربية لتقديم حلول رقمية لأغراض “الأمن القومي”، ما فتح الباب لتأثير تكنولوجي أمريكي عميق داخل المؤسسات الأمنية العربية.
إلى جانب الاعتماد شبه الكامل في المنطقة على خدمات سحابية ومنصات أمريكية (من غوغل إلى ميتا) يمنح واشنطن—عبر شركاتها—نفوذاً واسعاً على التدفق المعلوماتي، وحتى على الخطاب العام.
وفي بعض الملفات، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى قواعد أو طائرات، بل إلى أدوات رقمية تؤدي ذات الغرض: التأثير، التوجيه، والهيمنة الناعمة.
ما يحدث اليوم لا يُمكن وصفه بانقلاب على المجمع الصناعي العسكري، بل بإعادة تشكيله. فالشركات التكنولوجية لم تستبدل شركات السلاح، لكنها اندمجت معها لتشكّل مجمّعاً جديداً تحت مسمى المجمع الصناعي التكنولوجي العسكري، في هذا النموذج الجديد، تتحول أدوات الحرب من الدبابة إلى الخوارزمية، ومن الجندي إلى الخادم الرقمي. وتصبح الهيمنة أكثر هدوءاً، لكن أيضاً أكثر اختراقاً وعمقاً.
وعليه فان النفوذ الأمريكي في العالم العربي يدخل مرحلة جديدة. لم تعد الهيمنة تأتي عبر صفقات السلاح وحدها، بل من خلال البنى التحتية الرقمية، والشراكات التقنية، والسيطرة على الفضاء السيبراني.
وهذا يطرح أسئلة وجودية على الدول العربية:
من يتحكم في بيانات مواطنيها؟
هل السيادة الرقمية محمية؟
وهل شراكات الأمن السيبراني مع واشنطن تُعزز الاستقلال، أم تُكرّس التبعية من نوع جديد؟
اخيراً، لقد انتقل مركز الثقل في القوة الأمريكية من البنتاغون إلى وادي السيليكون.
وإذا كانت الطائرات الحربية قد رسمت خرائط القرن العشرين، فإن الذكاء الاصطناعي والخوارزميات ستعيد رسم خرائط النفوذ في القرن الحادي والعشرين—بما في ذلك خريطة العلاقات الأمريكية-العربية.
إنه عالم جديد… تُحكم فيه السياسات من “الكود”، لا من “المدفع”.
*كاتب وناشط سياسي اردني
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر