أ.د. حسني محمد نصر
تحتفل الصين غدا بالعيد المئوي للحزب الشيوعي الحاكم الذي تأسس في عام 1921 وصعد إلى السلطة في عام 1949، واستطاع أن ينقل الصين في غضون 70 عاما من دولة زراعية فقيرة محدودة الموارد والإمكانات إلى «تنين» اقتصادي وتكنولوجي وعسكري هائل قادر على فرض إرادته في العالم.
وبصرف النظر عن الأساس الأيديولوجي للحزب الذي قد لا نتفق معه، فان الأمر المؤكد أن هذا الحزب حقق معجزة اقتصادية في الصين بعد أن نجح في تحويل الثروة البشرية الكبيرة من نقمة – تشكو منها بعض الدول ليل نهار- إلى نعمة كبرى وهو ما مكن المنتجات الصينية الرخيصة الثمن من أن تغزو الأسواق العالمية لدرجة انه لا يكاد يخلو منزل في العالم من منتج صيني أو أكثر. ولعل هذا ما جعل الصين- خاصة في السنوات الأخيرة- «الغائب الحاضر» في جميع القمم الغربية، وجعل كبح جماحها على رأس أجندة اهتمامات هذه القمم.
تنظر الصين إلى احتفالات مئوية الحزب الشيوعي- حسب وصف وزير خارجيتها- أنها نقطة انطلاق تاريخية جديدة لتحقيق رفاهية الشعب الصيني ليس على النمط الغربي للرفاهية، ولكن وفق نمط وطني خاص يقوم على الاعتدال في جميع مناحي الحياة.
وعلى المستوى العالمي فإن الانطلاقة الجديدة التي تبشر بها المئوية الجديدة تقوم على فكرة تعميق التعاون وبناء الشراكات مع الدول الأخرى على قاعدة، لم يعترف بها الغربيون كثيرا، وهي قاعدة «المنفعة المتبادلة»، و«الفوز المشترك».
والواقع أن الصعود الكبير للصين كان من الطبيعي أن يثير مخاوف القوى الكبرى خاصة الأمريكية والغربية من تضخم قوة التنين الصيني، وتزايد تمدده في العالم، ولذلك يأتي احتفال المئوية في ظروف دولية بالغة الدقة تسيطر عليها أجواء الحرب الباردة خاصة بعد أن تبنت قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبار التي عقدت في لندن هذا الشهر بيانا ختاميا ينتقد الصين ويدعوها إلى «احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية»، وهو ما تكرر في الأسبوع نفسه في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي عقدت في بروكسل، وكانت الصين ومستقبل العلاقات معها على رأس أجندة زعماء الحلف. وقد جاء الرد الصيني على ذلك في شكل تحذير لقادة مجموعة السبع من أن «الأيام التي تقرر فيها مجموعة صغيرة من الدول مصير العالم وتملي فيها القرارات العالمية قد ولت منذ زمن بعيد. وأن الدول كبيرة كانت أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، فقيرة أم غنية، متساوية، وأنه ينبغي التعامل مع الشؤون العالمية من خلال التشاور بين جميع البلدان».
إن المتابع لما يجري بين الصين من جانب ودول المعسكر الغربي من جانب آخر يلحظ دون عناء اتساع رقعة الخلاف بين الطرفين، وهو ما دفع مراقبين كثر في العالم إلى توقع نشوب حرب باردة جديدة، قد تكون تأثيراتها على العالم أكبر وأخطر من نظيرتها التي تلت الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، والتي لم تنته إلا في مطلع تسعينيات القرن الماضي بتفكك الاتحاد السوفييتي.
والواقع أن نذر الحرب الباردة الجديدة ليست وليدة اللحظة، إذ كان الخطر الصيني حاضرا في أجندة القمم والاجتماعات الغربية منذ مطلع الألفية الحالية.
وكان التعاطي الغربي مع هذا الخطر يتراوح بين خياري الصدام المباشر خاصة في الشأن الاقتصادي، وبين الاحتواء في الشأن السياسي والقضايا الدولية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد حاول القادة الغربيون- باستثناء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب- التقليل من احتمالات اندلاع تلك الحرب بشتى الطرق، لأنهم يدركون جيدا انهم غير مستعدين حاليا لخوض غمارها بعد أن تضاعفت قوة الصين البشرية والتكنولوجية والاقتصادية عشرات المرات، وبعد أن أصبحت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم. فالرئيس الأمريكي جون بايدن كان حريصا قبل القمتين الأخيرتين على أن يؤكد أنه لا يسعى إلى «نزاع» مع الصين. واختار في مقال نادر نشرته صحيفة واشنطن بوست تعبير «مواجهة الأنشطة الضارة لحكومة الصين»، ولم يستخدم تعبير «الأنشطة الخطرة»، وجمع معها في العبارة نفسها الحكومة الروسية حتى لا تشعر الصين أنها المستهدفة الوحيدة بأي إجراءات غربية في هذه المواجهة. وقد سار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على النهج نفسه، وحاول طمأنة الصين بالقول «إن مجموعة الدول السبع «ليست ناديا مناهضا للصين»، وإنها تسعى إلى «العمل مع الصين في كافة القضايا العالمية، وبمعزل عن الخلافات». الأمر الذي لا شك فيه أن الصين ترى أنها استعادت مكانتها التاريخية وأصبحت قوة عظمى عملاقة، تستحق أن تفسح لها القوى الكبرى مكانا أكبر في صنع السياسة العالمية، وليس مجرد مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، خاصة وأنها ستصبح قريبا صاحبة أكبر اقتصاد في العالم.
والحقيقة أن قوة الصين التي تخيف الغرب لا تقتصر فقط على القوة الاقتصادية ولكن تشمل القوة الأيديولوجية المستندة إلى الفكر الشيوعي الماركسي اللينيني، المناهض للفكر الليبرالي الرأسمالي، وهو ما يخشى الغرب من أن تعمل الصين الجديدة على نشره في العالم بعد أن نجح الغرب بعد عناء في هزيمة التطبيقات السوفييتية له في تسعينيات القرن الماضي. ولذلك فإن الحرب الباردة الجديدة لن تكون حربا اقتصادية فقط ولكن فكرية وعقائدية أيضا، وهذا أكثر ما يخيف الدول الغربية.
لقد انطلقت فكرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين من جانب والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر، من الغرب نفسه، للتعبير عن مخاوف حقيقية من التمدد الصيني الأيديولوجي والاقتصادي في العالم. ومع ذلك فإن الصينيين أنفسهم يسخرون من هذا التعبير، وينتقدون علنا ما يسمونه «عقلية الحرب الباردة» التي يتبناها القادة الغربيون خاصة في الولايات المتحدة التي تبحث- كما يعتقد الصينيون- عن عدو جديد.
في هذا المجال تنظر الصين إلى مجموعة السبع الكبار وحلف شمال الأطلنطي (الناتو) وغيرها من مؤسسات العمل الغربي المشترك على أنها «منصات لمناهضة ومهاجمة الصين»، وذلك على خلفية الانتقادات الأخيرة التي توجهها تلك المؤسسات لها بشأن سجلها في مجال حقوق الإنسان وممارساتها التجارية بالإضافة إلى مناوراتها العسكرية، وهي انتقادات تنظر لها الصين على أنها نوع من النفاق والحسد والغيرة من نجاح الصين وصعودها العالمي في الوقت الذي تتلاشى فيه القوى الغربية التقليدية، ومحاولة لتفكيك قوتها، مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق. ولذلك كثيرا ما يردد المسؤولون الصينيون أن ما حدث مع الاتحاد السوفييتي لن يتكرر في الصين.
على الجانب المقابل فإنه من الواضح أن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن أصبحت على قناعة أن اتباع نهج أكثر تصالحية تجاه بكين لن يخفف من حدة النظام الصيني.
ولذلك من المرجح أن يستمر التوتر المتزايد في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين قائما وقويا، ولن يتأثر بأية تنازلات أمريكية تحاول طمأنة الصين، أو بحدوث تغييرات مرتقبة في القيادة الصينية.
في تقديري أن التبني الغربي لفكرة «الحرب الباردة» الجديدة مع الصين، التي يروج لها الجمهوريون الذين يدفعون الإدارة الأمريكية لتصعيد مواجهتها مع الصين قد لا يكون لها أثار مدمرة على الدول الغربية والصين، ولكن سوف تصطلي بنارها كالعادة دول العالم الثالث التي سيكون عليها خوض حروب بالوكالة فيما بينها لإرضاء المعسكر الذي تنتمي إليه.
نقلا عن عمان اليوم