د.حصة العوضي
في مسارات الحياة المُتعددة الاتجاهات، وفي الكثير من الأمور الحياتية، تندرج لغة الأطفال الصغار الذين بدؤوا يتعرّفون على أبجديتهم الأولى، لغة غريبة، هي ليست لغة أولى، يمكننا أن نُعممها على المؤسسات والدوائر الرسمية ليتم التعامل بها، والتخاطب من خلالها، وليست لغة ثانية نضعها ضمن المقرّرات الدراسيّة لطلبتنا الصغار في مختلف مراحلهم التعليميّة، ولسنا نسميها لغة ثالثة أبدًا، لكن يمكننا أن نطلق عليها مسمى جديدًا، ومفهومًا شاملًا، يحتوي تحت مظلته جميع الأطفال الصغار في كل الأرض المعمورة، دونما التفريق بين لون وجنس ولغة ودين وتقاليد وعادات، إنه المفهوم الذي يقول لنا: إن لغة الطفولة ما هي إلا لغة عالمية.
نعم، هذا هو المصطلح الذي يمكننا به أن ننعت لغة الصغار الذين ينطقون بكل براءة وعفوية بتلك الحروف والكلمات التي يفهمها كل البشر في كل مكان، فهذا الطفل لم يتعلم لغة والده أو والدته أثناء فترة الحمل والولادة، وإنما كان يعرف لغة الإشارات التي لم يتعلمها أيضًا من أي مخلوق على الأرض، بل اكتسبها وهو جنين في بطن أمه دون حاجة إلى تلقين أو تهجئة أو حفظ، أو دورة خاصة.
فلو اتجهنا بعيوننا إلى كل بقاع الأرض، وتطلعنا إلى كل المواليد الصغار في كل حضن، لعرفنا أنهم جميعًا يتكلمون لغة واحدة، هي لغة الإشارة والرمز التي تنبهنا إلى ما يريده هؤلاء الصغار منا، فنحن نعرف بإشارة من البكاء والصراخ إلى أنهم جياع، أو أنهم متعبون وبحاجة إلى النوم، كما نعرف أنهم بحاجة إلى تغيير الملابس المُتسخة، دون نطق أو توجيه، هل تساءلنا يومًا ما، لماذا اجتمع كل الصغار في كل العالم على لغة واحدة يفهمها القاصي والداني، رغم أن هؤلاء الصغار لم يلتقوا يومًا معًا..؟ ولم يتعلموا معًا في أي مدرسة أو أي معهد..؟ ولم يتشاركوا نفس اللغة أو الديانة أو التراث..؟
لكنهم منذ اللحظة الأولى، يعرفون متى يُعبّرون عن جوعهم، فهم تعلموا قبل ولادتهم أن هناك إحساسًا ما يسمى بالجوع، وهو لا يمكنه أن يزول إلا عن طريق وضع الطعام في الفم، لا في الأنف، ولا في اليدين، ولا فوق الرأس، فقط هي منطقة الفم التي يمكنها أن تستقبل تلك المادة الكافية والمعالجة للشعور بالجوع، مع أنهم لم يجرّبوا تلك المادة، ولم يستخدموا ذلك الفم قبل خروجهم من رحم الأمهات! وكيف يمكن لذلك المولود حديثًا أن يصرخ طالبًا النجدة حين يشعر بتلك المواد الخارجة من جسمه، على الرغم من أنه لم يختبر ذلك الشعور من قبل.. ولم يفرق بين النظافة والقذارة، ولم يعرف أي شيء خارج نطاق الرحم المغلق ؟!
هي إذَنْ تلك اللغة التي نمت بداخله وهو يتكوّن من بضع خلايا، وبضعة جينات، ليتأهل في النهاية إلى مرتبة كائن بشري، يتم تخريجه من دنيا المجهول إلى عالم الواقع والحياة المعاشة، حاملًا بين يديه شهادة جيناته التي تؤكّد انتماءه إلى أب محدد لا يمكن تغييره أو تبديله، أو تغيير أي نمط من أنماطه التي وجد عليها.
وكذلك ليؤكد التصاقه غير القابل للانفصال حاليًا لتلك المرأة التي كانت وعاءً مؤهلًا لحمله طيلة فترة تكوينه، ثم إنجابه وإخراجه إلى تلك الحياة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تغيير هذا الصغير من قبل أحد البشر، أو محاولة تبديل بعض من مواصفاته ليكون حسب المقاس وحسب الطلب.
كما أن كل الصغار في كل أنحاء العالم يدخلون إلى هذه الحياة، دون أن تكون لديهم تجربة مُسبقة، أو أي خبرة من خبرات الحياة المطلوبة، لإنشاء مؤسسة ما، ولا يحمل أي منهم شهادة توصية من كائن آخر، أو شهادة حسن سير وسلوك، كما لا يحمل معه الكتيب الخاص بالتعليمات التي نتعلم منها كيفية التعامل مع هذا الصغير، المهم أننا نستقبلهم ونفرح بهم، ونسعد بوجودهم، لكن حين تحين اللحظة الحاسمة، وينطق الصغير بلغته الخاصة به، التي لا نستطيع أحيانًا ترجمتها، فإننا لا نجد أي جهاز إلكتروني، أو أي تقنية يمكنها أن تترجم لنا تلك اللغة، وذلك الصراخ، رغم أنها لغة موجودة في كل مكان، لأنها وحدها لغة عالمية موحدة، بلكنة الطفولة البريئة الجميلة
نقلا عن الراية