الطيب بن إبراهيم*
تميز النصف الثاني من القرن الماضي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية بنوع من التوازن السياسي والعسكري ولا أقول الاقتصادي بين المعسكرين الغربي بزعامة أمريكا والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وإن كان ذلك في إطار ما اصطلح عليه بمرحلة الحرب الباردة بين الثنائية القطبية الشرقية والغربية، وبقي ذلك الوضع إلى غاية نهاية القرن الماضي وانهيار المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي وتفككه (14 دولة)، وبذلك انتهت مرحلة الثنائية القطبية وبدأت مرحلة الأحادية القطبية.
تميزت مرحلة الأحادية القطبية بتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة والهيمنة على العالم عن طريق الضغط والتهديد والابتزاز والعقوبات والحصار، وأخيرا التدخل العسكري وتصفية الحسابات كما حدث مع العراق وأفغانستان، بل طالت تهديدات أمريكا وعقوباتها حتى منافسيها من الدول الكبرى كروسيا والصين، ناهيك عن أيران وكوريا وكوبا وفنزويلا وليبيا والسودان والقائمة طويلة، وأرغمت أمريكا العالمَ على أن يصطف وراءها رغبة أو رهبة في حربها وسلمها، ونعني بالعالم أوروبا وأستراليا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية وغير ذلك، وهذا ما حدث ضد العراق وأفغانستان وإيران، وهكذا تحولت مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية إلى مرحلة تغول وغطرسة ضايقت حتى الأصدقاء والحلفاء الأوروبيين كما حدث في عهد الرئيس ترامب.
وفي ظل الغطرسة والتهور والغرور الأمريكي ارتكبت هذه الأخيرة أخطاء وفشلا ذريعا في سياستها الخارجية كانت هي أول من دفع ثمنها بطريقة أو بأخرى سواء مع ايران أو أفغانستان وحتى مع روسيا، ففي ايران فشلت سياسة العقوبات بكل أنواعها بما فيها العقوبات القصوى، ولم يتوقف البرنامج النووي الإيراني، بل رُفِعت درجة تخصيب اليورانيوم إلى الضعفين من 20% إلى 60% ، وحسّنت إيران قدرات برنامجها الصاروخي أيضا، وجعلت أمريكا تندم وتعترف صراحة بخطأ انسحابها من الاتفاق النووي، بالإضافة لتمددها الإقليمي. ونفس الشيء حدث مع أفغانستان بطريقة أخرى تختلف، وبدل أن كانت أمريكا ترفض الاعتراف والتحاور والجلوس مع حركة طالبان “الإرهابية” وتحريض حلفائها ضدها، اضطرت وسارعت للتوسط لها، للتحاور معها، والقبول بشروطها، والانسحاب من أرضها، وفشل نظام كابول الذي أقامته أمريكا وأنفقت عليه الملايير، وانهار حتى قبل انسحابها في الوعد المحدد لها، مما عجّل بهروبها من أفغانستان بطريقة مذلة لم ترض حتى الحلفاء!.
لكن من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها، هي المبالغة في عزل روسيا ومحاولة حصارها في زاوية ضيقة ومعاملتها كما كانت أيام الرئيس بوريس يلتسن، الذي عرفت روسيا في عهده أسوأ مرحلة في تاريخا المعاصر، خاصة أزمتها الاقتصادية.
كان رئيس روسيا فلاديمير بوتين ضابط المخابرات وخريج مدرسة المؤامرات لأقوى جهاز مخابرات في العالم إبان الحقبة السوفياتية، ليس كعجوز أمريكا الحالي بايدن ولا كمراهق أوكرانيا زيلينسكي، خريجي كواليس السياسة. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي كان يتابع بألم ما لحق ببلده روسيا، وكيف تم حشرها في الزاوية، وكيف بدأ حلف الناتو يزحف نحوها ويحاصر حدودها وعلى مرمى حجر من عاصمتها موسكو، وضمّ لصفوفه بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقا، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير وأفاضت الكاس هي أكرانيا.
أوكرانيا، إذا جاز لنا الوصف، نقول عنها تعتبر “روسيا الثانية” من بين بقية دول الاتحاد السوفييتي المنهار، فهي الثانية عسكريا واقتصاديا وعلميا وسكانا ومساحة، ومن هذا المكانة التي تتميز بها أوكرانيا بدأت أمريكا وحلفاؤها يتآمرون ويخططون ليل نهار لكي يبعدوها عن روسيا رغم التقارب التاريخي والجغرافي والاجتماعي والثقافي بينهما، بل ليجندوها ضدها، فهي الأجدر من غيرها. بدأت أمريكا في الشحن والتحريض ضد روسيا، والدفع بأنصارها للسلطة، وهكذا بدأت أمريكا في حرب غير معلنة مع روسيا، وذلك لم يكن ليغب عن أعين رجل المخابرات بوتين.
كان رد روسيا على أمريكا في أوكرانيا سنة 2014 بضم شبه جزيرة القرم وانفصال إقليمي دونيتسك ولوغانسك، وكان ذلك يمثل بداية حرب ساخنة على نار هادئة على أرض أوكرانيا بين أمريكا وروسيا. بدأت أمريكا تواصل سياسة حماقتها وأخطائها في الضغط على روسيا والعمل على المزيد من التحريض ضدها وبدأت في تدريب وتسليح وتكوين الجيش الأوكراني، والعمل مع حلفائها خاصة بريطانيا على تخطيط هجوم شامل وفاصل من طرف الجيش الأوكراني على المناطق الانفصالية لاستردادها، والعمل على إعادة إحياء برنامج أوكرانيا النووي والبيولوجي، كل ذلك لردع روسيا من قبل جارتها، لكن ذلك لم يكن ليخفى على روسيا وأجهزتها المعنية، خاصة أن أوكرانيا كانت جزءا من روسيا وبعض سكانها من إثنية روسية، والمخابرات الروسية متجذرة هناك، وتعلم بكل شاردة وواردة.
لم تكن أمريكا وحلفاؤها يتوقعون أن بوتين يذهب إلى أبعد مما فعل بدعم الانفصاليين في إقليمي دونيتسك ولوغانسك، والاحتفاظ بشبه جزيرة القرم، وأنه يحاول دعم الانفصاليين وتثبيت قوته في القرم قبل انسحابه منها بالتفاوض أو بالعقوبات، ولم تكن تتوقع أن روسيا لا ترضى بما هو أقل من العاصمة الأوكرانية كييف، التي تحاك فيها المؤامرات الأمريكية والغربية ضد روسيا، وأن خطوطها الحمراء التي لم ينتبه لها رئيس أمريكا بايدن ومن معه من زعماء الغرب أصبحت حقيقة، وعندما وقع الفأس في الرأس وأصبحت التهديدات الروسية حقيقة استيقظ الجميع من سباتهم، ولم يصدقوا ما يروا بأعينهم يحدث في مدن أوكرانيا، والصفعة كانت لأمريكا عن طرق أوكرانيا، وهرعت حليمة لعادتها القديمة، وهي فرض عقوبات بحجم روسي، أو على قول الشاعر، على قدر الكبار تأتي الكبائر، والعالم يعلم أن العقوبات هي سلاح يؤثر ولكنه غير حاسم وفعال، فماذا فعلت العقوبات بدول أقل شأنا من روسيا ككوبا وكوريا منذ ستة عقود؟، وماذا فعلت مع ايران منذ أربعة عقود؟؟.
أمريكا تعلم علم اليقين أنها منذ أيام الحرب الأهلية الأمريكية لم تشهد حربا مسّت مدنها وبنيتها التحتية، ومست السكان المدنيين، وكل حروبها كانت هناك بعيدا في ديار الغير، حتى أثناء الحربين العالميتين، لكن الوضع مع روسيا يختلف، فالرسائل الروسية المشفرة أرسلت قبل بداية غزو أوكرانيا أثناء المناورات واستعراض أذرع المنظومة الصاروخية الروسية البعيدة المدى التي يتجاوز مداها العشرة آلاف كيلومتر، ناهيك عن تفوقها النووي، فهي لن تغامر لتدخل الحرب مع روسيا من اجل عيون أوكرانيا!.
لم تجد أمريكا وحلفاؤها غير شجرة التوت للاختباء وراءها وهي العقوبات والمزيد من العقوبات، وبعد أن أفرغوا كل ما في جعبتهم لجأوا إلى الصين حليفة روسيا، وهي التي بالأمس القريب قيل عنها أنها العدو الأول قبل روسيا، وهي التي يتأمرون عليها لحساب تايوان، وهي التي يتآمرون على اقتصادها المنافس لاقتصاد أمريكا، إن لم يكن مواز له، وهي التي تعاني أصلا من العقوبات الأمريكية، ومن تهور وغطرسة أمريكا، وبدل أن تترجى الصين بالتي هي أحسن، لأنها في أمس الحاجة لها، تعاملت معها باستعلاء وغرور، بالوعيد والتهديد، “إن لم تدخلوا الصف معنا ضد روسيا بالمقاطعة وفرض العقوبات فسنتخذ معكم الإجراءات العقابية، وعليكم أن تعلنوا صراحة إدانتكم للعزو، وأن تفعلوا كذا وكذا…”.
صحيح أن الصين لم تقلها صراحة أنها مع روسيا ظالمة أو مظلومة، لكنها قالتها بلغة تفهمها أمريكا وحلفاؤها، ومن ليس ضد روسيا فهو معها، ومن ليس مع أمريكا فهو ضدها، هذه هي المفارقة، لكن الصين تعمل على ربح الوقت واستغلال عامل الزمن لعله يحمل الكثير من المفاجئات أو التشققات. إنها روسيا، تستعرض عضلاتها على حواف الناتو وتجرب أسلحتها ومنظومتها الصاروخية في مواجهة الأسلحة الأمريكية، وأمام هذا الاستعراض للقوة الروسية هناك من يجرأ على الوقوف بجانبها ويتضامن معها، ولو بأضعف الإيمان أن لا يتحالف ضدها، وهو مبدأ من ليس ضدنا فهو معنا. #ردت الصين بحكمتها المعهودة، وكما قيل أن الرئيس الصيني ردد أكثر من مرة على الرئيس الأمريكي في آخر مهاتفة مطولة تمت بينهما، المثل الصيني القائل: “من علّق القلادة في عنق النمر فعليه نزعها”، وأعلن لرئيس أمريكا في حديثهما أنه لن يدخل في حلف أمريكا والغرب ضد روسيا، بل لن يدين روسيا، بل لا يصف حرب روسيا في أوكرانيا بالغزو!!. ومعنى هذا أن الصين تبقى وفية لجارتها وحليفتها روسيا، وأن هزيمة روسيا في المواجهة، فالصين تكون الضحية الموالية، وتحالف روسيا مع الصين هو تحالف بين سلاح روسيا واقتصاد الصين ضد أمريكا، وبمعنى آخر هو تحالف بين أول قوة نووية عالمية وثاني اقتصاد عالمي، وكل ما تخشاه أمريكا هو نجاح روسيا، وان حدث، فهو بداية لنجاح الصين في استرداد تايوان، سيكون نجاحا لكل المتذمرين من تغول وابتزاز أمريكا، من المعلنين والمستترين، وإن حدث ذلك، معناه بداية نظام دولي جديد!!.
لقد أصبح التحالف الأوروبي الأمريكي ثقيلا ومكلفا للأوروبيين وهو مفروض عليهم، وخسائرهم في هذه الحرب الأخيرة لا تقل عن خسائر روسيا أو أكثر، أسعار المحروقات ارتفعت، والأسواق أغلقت، والشركات الأوروبية في روسيا أفلست، والملايير من الأموال والأسلحة دفعت لأوكرانيا، وملايين اللاجئين تدفقت على أوروبا، وإذا كان اقتصاد أمريكا يتحمل ذلك، فدول الاتحاد الأوروبي تتفاوت اقتصاداتها من دولة غنية كألمانيا إلى دول فقيرة كدول البلطيق مثلا، لذلك عارضت صراحة وبقوة فرض حضر على المحروقات الروسية. لكن اذا نجحت روسيا في فرض التعامل بعملتها الروبل مع جيرانها الأوربيين فهذه صدمة ارخى للاقتصاد الأوروبي لصالح روسيا!.
*كاتب جزائري
شاهد أيضاً
2024 .. مع اللي ذرت طحينه !!
بقلم/محمد العزيزي يقول المثل التعزي وهو مثل سائد في المحافظات اليمنية تقريبا ، حيث يذكر …