الخميس , مارس 28 2024
الرئيسية / اراء / البرغماتية الاقتصادية والعقلانية للسياسية الصينية

البرغماتية الاقتصادية والعقلانية للسياسية الصينية

د/طارق ليساوي*
تلقيت قبل فترة دعوة للإدلاء برأي لقناة فضائية أوروبية حول الموقف الصيني من الأزمة الروسية الأوكرانية، و أهمية اوروبا بالنسبة للصين و خلفية هذه الدعوة مقال رأي منشور برأي اليوم اللندنية، و حللت من خلاله أبعاد قرار بعض البلدان الأروبية بدفع ثمن صادرات الغاز و البترول الروسي ب “الروبل”، و إعتبرت في المقال و المداخلة أن أروبا رمانة الميزان في حسم الصراع الدولي بين الغرب و الشرق .. و الجدير بالذكر، ان سياق تحليلي للدور الصيني، غايته و هدفه توجيه القراء الأفاضل عامة والمختص و صانع القرار العربي خاصة، إلى بعض المؤشرات الدلالية، و التي تمكننا من فهم التصور الصيني على المدى المنظور و المتوسط..و لماذا أرى أن الموقف الصيني يستحق التنويه و الاعجاب ، لأنه يخدم الصين و مستقبلها بعيدا عن منطق التهور و الانجرار الغير محسوب للمواجهة…
و منذ ان إتجهت لدراسة هذه التجربة في بداية 2008 ، و جدت أن أهم ما ميز الصين هو العقلانية و البرغماتية الاقتصادية و الانتقال من فلسفة الهدم ثم البناء إلى الهدم بالبناء .. والاصلاح بالتدرج و الحرص على سياسة الخطوة خطوة و لكن مع الحرص الثابت و المستمر على تحقيق الهدف الأكبر و هو إخراج الأمة الصينية من حالة التخلف و الفقر و الذل الذي تعرضت له أواخر القرن 19 و مطلع 20 .. و قد حاولت في أكثر من مقال و كتاب و محاضرة توضيح فلسفة الانتقال و النهوض في الصين، و هذا النهوض كان نتاج لتوافر عوامل داخلية مناسبة، وفي مقدمتها الاستقرار السياسي ووجود بيروقراطية فعالة. وأن صعود الصين هو تجسيد لدورة العمران على حد تعبير “ابن خلدون”، فالدول تمر من مرحلة الطفولة والشباب والفتوة ثم الشيخوخة والأفول، و أن ما يحدث اليوم للعالم العربي و الإسلامي من هبوط للقاع و تفكك ودمار و سفك دماء، بقدر ما يثير في النفس الحزن والأسى، بقدر ما يدعو إلى التفاؤل مصداقا لقوله تعالى :” فإن مع العسر يسرا*إن مع العسر يسرا” (سورة الشرح الآية 5-6) .
في ذات السياق سيحاول مقالنا هذا أن يغوص مجددا في العمق الصيني، وذلك لثلاثة أسباب:
أولا- الصعود الصيني لم يصبح واقعا إلا بعد عقود من التيه و العنف والسياسات الرديئة.
ثانيا- تأثير الصين في القرار الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي الدولي، فأبرز مثال تسوقه القصاصات الإخبارية هو “حرب العملات” و النقاش الدائر بين الصين و الولايات المتحدة والدول الغربية حول تحديد قيمة “اليوان الصيني” . و تصاعد حدة “الحرب الباردة” بين الصين و أمريكا، و لعل أخر أخبار هذه الحرب قيام البحرية الصينية باحتجاز غواصة أمريكية غير مأهولة تقوم بمسح عسكري ببحر الصين الجنوبي…وفي ذلك رد عملي على تصريحات الإدارة الأمريكية الجديدة بخصوص تايوان..
ثالثا- سياسة الصين الهادئة والبرغماتية التي تمزج بين القوة الناعمة ” المصالح الاقتصادية و التجارية” و القوة الصلبة ” بناء القوة العسكرية “. هذا النموذج السياسي و التنموي ما أحوج البلدان العربية والإسلامية إلى الاهتمام به، واستخلاص بعض دروسه…
ومقالنا هذا سيركز على الجانب السياسي في تجربة الصين ما بعد 1978، و الدخول إلى غرفة صناعة القرار الصيني في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية و العسكرية، لذلك سيتوجه اهتمامنا إلى دراسة تجربة الحزب الشيوعي الصيني و عملية التحديث السياسي للحزب و الدولة.
لقد لعب الحزب الشيوعي الصيني ، والذي يهيمن بشكل منفرد على السلطة السياسة في الصين منذ 1949 إلى حدود اليوم، دورا محوريا في صياغة إصلاحات 1978 وقيادة التحولات اللاحقة. فالارتباط بين الحزب الشيوعي الصيني والتحديث السياسي في الصين، يدعم الاتجاه الذي ذهبت إليه الدراسات السياسية التي اهتمت بـ “التنمية السياسية”، عندما ركزت على الدور التحديثي للحزب السياسي. لذلك، فإن فهم مسار التحولات التي شهدها الحزب الشيوعي يعد مدخلا لابد منه لفهم عملية التحديث السياسي للدولة ككل.
فالكثير من الملاحظين يعتقدون بأن انطلاق الإصلاحات الاقتصادية في الصين، والتحول نحو اقتصاد تتحكم فيه أكثر آلية السوق و الحرية الاقتصادية. قد جعل الحزب الشيوعي يلعب دورا هامشيا على مسرح السياسة والاقتصاد في الصين. غير أن الواقع عكس ذلك، فالحزب/ الدولة لازال يتحكم في الاقتصاد كما يتحكم في المجتمع.
إن ما يثير الانتباه في التجربة السياسية للصين، هو أن البلاد شهدت تحت سيطرة الحزب الواحد إصلاحات مؤسسية و سياسية عميقة وثورية، حاولت المزج بين محاسن الليبرالية الاقتصادية وبين القيم الآسيوية في الحكم والأطر الماركسية اللينية. فالحزب الشيوعي الذي كان متمسكا بفكرة الراديكالية السياسية طوال الفترة “الماوية”، تمكن من تطويع الاشتراكية المحافظة، وجعل منها “جسر عبور” لتبني إصلاحات ذات نزعة ليبرالية “بمفردات اشتراكية”.
وبالرغم من أن الدولة تخلت عن السيطرة الكاملة على الاقتصاد، وفتحت المجال لفاعلين غير دولاتيين، إلا أنها لازالت تلعب دورا مهما في مجال المراقبة والإشراف. كما تم الانتقال من النزعة الجمعية والتي تشكل أس الاشتراكية المحافظة إلى النزعة الفردية التي تشكل أس الليبرالية.
فالدستور الصيني لازال يعتبر أن المهمة الأساسية التي تواجه “..الأمة الصينية..تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني والتوجيهات الماركسية- اللينينية وأفكار “ماو تسى تونغ” ونظرية “دنغ شياو بينغ” والفكر الهام للتمثيلات الثلاثة، هي مواصلة الالتزام بدكتاتورية الشعب الديمقراطية والطريق إلى الاشتراكية، والمثابرة على الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي، وتحسين المؤسسات الاشتراكية ، وتطوير اقتصاد السوق الاشتراكي وتطوير السياسة الديمقراطية الاشتراكية وتحسين النظام القانوني الاشتراكي ، و تحديث الصناعة في البلاد، والزراعة، والدفاع الوطني و العلوم والتكنولوجيا ، وتعزيز التنمية المتناغمة ، لتحويل الصين إلى دولة اشتراكية مزدهرة وقوية وديمقراطية ومتقدمة..”.
إننا أمام “مفارقات” تعترض وجهتنا في تحليل الواقع السياسي في الصين، فهو واقع هجين، فالسياسات المطبقة تحمل في طياتها نزعة ليبرالية لكن بلون اشتراكي. وإذا ما حاولنا توصيف التجربة السياسية الصينية سنجد بأنها تجربة حاولت الابتعاد عن المحافظة الاشتراكية، والاقتراب من اليسار الليبرالي إنها “الدولة الكينصينية ” .
وسميناها بهذا الاسم الهجين “الكينصينية”، لأن الإصلاحات التي تبنتها الدولة الصينية منذ1978، تقترب -إلى حدما- من النموذج الكينزي للاقتصاد المتطور Keynesian Model of Developing Economy ، والذي يدعو إلى تقوية دور الدولة في توجيه الاقتصاد الوطني، وتوظيف أدوات السياسة المالية لتحفيز النمو الاقتصادي، وان لا تتخلى الدولة عن كل أدوارها لصالح السوق .
فالدولة الصينية عملت على مواجهة التحديات التي واجهتها منذ 1978 بتبني أسلوب فريد في اللامركزية بين البيروقراطية المركزية والبيروقراطية المحلية. والواقع، أن نمط إدارة شؤون البلاد يصعب فصله عن الخصوصية الديموغرافية والجغرافية والتاريخية والثقافية للصين. فالحجم الكبير لديموغرافية وجغرافية الصين، جعل من اللازم تفتيت المشاكل وإحالتها للبيروقراطية المحلية. التي تتولى تدبير الشأن المحلي، وتعمل على توفير السلع العامة.
وهو نفس الأسلوب الذي تم تبنيه في الحقبة الإمبراطورية، فالمركز كان دائما يحرص على الابتعاد قدر الإمكان عن التدخل في الشؤون المحلية، وعمل على إعطاء الحكام المحليين صلاحيات واسعة. لذلك، فحاضر الصين لا ينفصل عن ماضيها.
إن حرصنا على تسليط الضوء على التجربة ليس الغرض منه دعوة ل “أصينة” العالم العربي، فالنموذج الصيني من دون شك له ايجابيات و سلبيات، لكن ما يهمنا هو إرادة الانتقال من القاع إلى القمة، و الخروج من دائرة المفعول به إلى الفاعل و المؤثر. فما أحوج العالم العربي و الإسلامي إلى الاستعانة بالدرس الصيني، لاسيما في جانب الإرادة السياسية و التحالف بين الحاكم و المحكوم و بين الشعب و الحكومة على برنامج إصلاحي جامع. لقد شكلت التنمية الاقتصادية والاجتماعية عقدا اجتماعيا جديدا توحد حوله الشعب والحزب، فبينما قبل الشعب التنازل عن بعض مفردات الديمقراطية بمفهومها الغربي كالتعددية الحزبية والانتخابات الدورية ذات المنافسة الحزبية، بالمقابل التزم الحزب الشيوعي بتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة و مكافحة الفقر و تحقيق التقدم الشامل.
و على نفس الشاكلة، فالعالم العربي اليوم في حاجة لعقد اجتماعي جديد، أهم بنوذه وقف شلال الدم و تفكك الأوطان و فقدان سيادتها وتحقيق التنمية و العدل في توزيع ثروات الوطن. ومسؤولية صياغة هذا العقد هي مسؤولية جماعية بوابتها الحوار و إشراك شركاء الوطن، و تظل مسؤولية الحكام أكبر و أكثر تأثيرا، فجزء كبير من مآسي الإقليم هي نتاج لضعف وفساد أنظمة الحكم ، و غياب البيروقراطية الرشيدة والفعالة…
أن الحزب الشيوعي الصيني نجح في التأسيس لعقد إجتماعي جديد بعد إطلاق إصلاحات 1978، و تمكن بفعالية من تجاوز التأثيرات السلبية للحقبة الماوية و خاصة النتائج الكارثية التي افرزتها الثورة الثقافية، و بالرغم من وابل الانتقادات التي توجه إلى هذا الحزب، إلا أن الأغلبية الساحقة من الصينيون يرون بأن الحزب شهد تحولات عميقة، باتجاه احترام حقوق الإنسان و تحسين معيشة الشعب الصيني. فمن المؤكد لدى الجميع أن الانتهاكات الحالية هي أقل بكثير مما وقع قبل عقود.
كما أن الحزب استطاع أن يحسن صورته الداخلية والخارجية، خاصة وأن العديد من القادة الحاليين ليس فقط لا علاقة لهم بما جرى من انتهاكات في الماضي، بل إن العديد من القادة الصينيين الذين صمموا و قادوا إصلاحات ما بعد 1978 كانوا ضحايا لتلك الحقبة، بما فيهم الرئيس الصيني الحالي ” شي” الذي إضطر إلى السكن في كهف خلال هذه الحقبة التاريخية…
و هذا الأداء التنموي الجيد تم إستثماره بفعالية من قبل الحزب الشيوعي لترسيخ نفوذه السياسي، لاسيما في أوساط الشباب.. فالواقع يؤكد، على أن أداء الحزب على مختلف المستويات كان أفضل من الأنظمة السابقة، وأفضل من أداء العديد من الحكومات التي تتبنى النهج الديمقراطي…فقدرة الحزب على التكيف مع المتغيرات الدولية منذ 1978 و نجاحة في نقل الاقتصاد الصيني من اقتصاد مغلق إلى اقتصاد معولم ، و قدرته الفائقة على تجاوز تأثيرات العولمة المالية و التجارية ، و تحويل رياحها باتجاه خدمة سفينة التنمية في الصين يدعو حقيقة إلى الإعجاب…ففي ظل العولمة تم تذويب الحدود الوطنية بين مختلف البلدان، وتزايد الترابط والتكافل الاجتماعي والاقتصادي، و القضايا السياسية أصبحت أكتر تعقيدا، وبفعل هذه التحولات أصبحت الطريقة التقليدية في الحكم “الدولة المركزية state-centered”- غير مؤهلة لمجابهة التحديات الناشئة التي جلبتها العولمة، ويبدو أن الدولة الحديثة لا يمكن أن تفر تماما من تحديات العولمة. من اجل ضمان و الحفاظ على النمو الوطني.
إن الدول الحديثة تتنافس على استقطاب الاستثمارات العابرة للحدود الوطنية[i]، وما يصاحب ذلك من قيود على الدول. إذ تصبح هذه الأخيرة ملزمة بتحسين إدارة الشأن العام وتبني سياسات العمومية ناجعة. حتى تستطيع أن تحظى بوضع تنافسي أفضل في السوق العالمي.
ففي كثير من البلدان منذ أواخر الثمانينات ونهاية الحرب الباردة، ساد تيار فكري وثقافي، يمكن أن يوصف عموما بأفكار “ما بعد الحداثة”، و إيديولوجيات مثل “الليبرالية الجديدة” و”العقلانية الاقتصادية” . الأمر الذي دفع العديد من قادة الدول الحديثة إلى القول علنا أن كل دولة من الدول هي أساسا غير فعالة في مواجهة قوى السوق العالمية [ii]. و على خلاف هذا الطرح نجد بأن الحزب الشيوعي الصيني نجح في تعزيز دور الدولة في إدارة المجتمع و الاقتصاد، و تعزيز دور الدولة في مواجهة دور السوق ..
و في السعي إلى الكفاءة والفعالية ، حاول الحزب الشيوعي تحديث نفسه، و تحديث الدولة الصينية لتصبح ” دول تنافسية “…من خلال اعتماد ألية الرقابة و التوجيه و التنظيم بموازاة مع إعطاء دور أكبر لأليات السوق، والاستراتيجيات الرامية إلى تعزيز الكفاءة والفعالية.. فتم بعد 1978 إدخال تعديلات على أدوار الدولة. ولا سيما من جانب الأنشطة التالية :
أولا- إلغاء أو التقليل من القيود التنظيمية باتجاه توسيع حرية السوق.
ثانيا-الخصخصة : قطاع الدولة كبير جدا ولا يؤدي إلى تحقيق الغاية بفعالية ؛لذلك ينبغي تحويل الشركات العامة إلى القطاع الخاص.
ثالثا- التحرير : فتح الاقتصاد على الاستثمارات الأجنبية والمنافسة ، وتخفيض الحواجز التجارية للانخراط في السوق العالمية[iii] .
رابعا-إدارة عامة جديدة: فبيروقراطية الدولة أصبحت تدار تدريجيا مثل شركات القطاع الخاص، إذ تم التركيز على الإنتاجية والكفاءة ، و تقليص الحجم ، والتعاقد من الباطن لتفويت بعض الخدمات إلى القطاع الخاص.
خامسا- العودة إلى المجتمع بما في ذلك المجتمع المدني، والأسر والأفراد، والتي أصبحت تلعب دور أكبر في تمويل وتقديم الخدمات الاجتماعية.
سادسا- تسويق السياسات الاجتماعية العامة : اعتماد مبادئ السوق والاستراتيجيات التجارية المستخدمة لتشغيل وإدارة الخدمات الاجتماعية العامة[iv].
في هذا السياق العام، تولدت تجربة الإصلاح والانفتاح في الصين. فالمنهجية التي تبنتها الصين في الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح، و التحول من هيمنة القطاع العام إلى إشراك القطاع الخاص، تتميز بقدر كبير من التميز. وهو ما سنعمل على توضيحه من خلال سلسة من المقالات المتخصصة، نستعرض من خلالها أسلوب إدارة الدولة لسياسة التحرير والانفتاح الخارجي، وسياسة الخصخصة.. وإعطاء تصور عن التحولات التي مست دور الدولة والسياسات العمومية بعد 1978، وكيف استطاعت الحكومة الصينية التحول من نمط تقليدي في الحكم يقوم على المركزية و الدولة الأبوية ، إلى نمط جديد في الحكم يقوم على مبادئ اللامركزية و إشراك متدخلين جدد .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..

*إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

خواتيم التآمر!

فؤاد البطاينة* ما زال تاريخ الحركة الصهيونية الخزرية في فلسطين قائما على الحروب منذ بدايات …